ان كان للمشاهد والوقائع التي تم عرضها في الفصل السابق أن تدل على شيء، فهو أن هناك بشراً مثلنا قد أخطأوا في حق آخرين وفي حق البشرية جمعاء عندما أدى تعصبهم إلى إسالة الدماء وتدمير الممتلكات وتهديد وحدة الأوطان، وأن هـناك بشراً آخرين مثلنا أيضا قد دفعوا ثمن هذا التعنت وضيق الأفق.
قد يكون من السهل علينا أن نصدر هذه الأحكام ونحن جالسون على مقاعدنا الوثيرة، متمتعين برفاهية الحكم على التاريخ بعد صناعته، وبعد أن قال كلمته فيمن كان على صواب ومن كان على خطأ.
غير أن المغامرة والمتعة الفكرية الحقيقية هي في محاولة تفهم وتمثل الحال الذي كان عليه هؤلاء البشر الذين نستسهل إصدار الأحكام عليهم اليوم، كيف كانوا يفكرون، وما هي الدوافع التي زجتهم للتصرف بطريقة يبدو خطؤها واضحا لنا بشكل لا يدع مجالا للشك.
ربما تكون الإجابة على كل هذه الأسئلة صعبة أو حتى مستحيلة إلا إذا أتاحت لنا الظروف أن نقع على ما قد يكونوا قد خلفوه من مذكرات يحكون فيها بأنفسهم ما جرى، ويشرحون دوافعهم للتصرف بالطريقة التي تصرفوا بها. أما إذا لم يتوافر ذلك فإنه لا يبقى لنا سوى أن نتخيل ما جرى، محاولين أن نعيد بناء الطريقة التي تصرفوا بها.
1 -
خطأ احتكار الحقيقة :
الشيء الوحيد الذي أظنني متأكداً منه هو أن هؤلاء الناس لم يتصوروا للحظة أنهم يرتكبون أي جرم، أو أن التاريخ سيصدر عليهم هذا الحكم القاسي الذي أصدره عليهم بالفعل. فأمثال هؤلاء كانوا مواطنين صالحين، ومؤمنين أتقياء يرون في ضحاياهم شر على الوطن والعقيدة. وكانوا شديدي التأكـد من أن حكمهم هذا صحيح لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، فكانوا مستعدين لإيقاع الأذى بآخرين، والذهاب إلى حد إزهاق الأرواح في سبيل الدفاع عما اعتبروه صوابا.
ربما تتمثل المشكلة في حالة التأكد من احتكار الحقيقة، فبدون هذا التأكد لا يمكن أن يوجد تعصب. أو بعبارة أخرى، فإن المتعصب هو شخص بلغ تأكده من صحة وجهة نظره وامتلاكه للحقيقة المطلقة حدا جعله غير مستعد للدخول في أي نقاش جاد حولها، بل إنه يكون مستعدا للقتل في سبيلها. عند هذا المستوى من التأكد المطلق تختفي الحدود بين الرأي والحقيقة، فيتعامل الفرد مع رأيه باعتباره الحقيقة نفسها، ومن ثم فإن دفاعه عن رأيه وتعصبه يصبح بالنسبة له تعصب للحقيقة المطلقة، الأمر الذي يبرر له ارتكاب وفعل أي شيء في هذا السبيل.
فالبشر عادة لا يختلفون حول الحقائق والمعلومات، وهم لا يضيعون وقتهم في النقاش حولها ، ولكن الناس يختلفون حول آرائهم، ويتناقشون ساعات طويلة في محاولة من جانب كل منهم لإقناع الآخر بأن تفسيره للحقائق والمعلومات هو الأقرب للدقة. فالناس بعد انتهاء مباراة في كرة القدم لا يتجادلون حول ما إذا كان فريقهم المفضل قد خسر المباراة أم لا، فهذه معلومة ليست موضعا للخلاف، ولكنهم يختلفون حول أسباب النصر أو الهزيمة، وما إذا كانت قرارات الحكم صائبة أم غير صائبة، وما إذا كان المدرب قد اتخذ قرارات تبديل اللاعبين في الوقت المناسب، وكل هذه آراء وليست حقائق. أما بالنسبة للمتعصب فإنه يعتقد أن رأيه حول مثل هذه الأمور هو الحقيقة نفسها، وبالتالي فإنه لن يتورع عن الاعتداء على الحكم إذا رأى أنه هو السبب في هزيمة فريقه، أو في سب المدرب واللاعبين إذا رأى أن أداءهم المتواضع هو المسئول عن الهزيمة، وهكذا. وما يسري على مباراة في كرة القدم يسري على غيرها من أمور السياسة والاقتصاد والعلاقات بين الدول والأدب والفن.
فحاجة الإنسان إلى المعرفة هي حاجة ذات شقين، شقها الأول هو المعلومات والحقائق، أما شقها الثاني فيتكون من الآراء التي تتولى تفسير المعلومات التي نتلقاها. وفي الحقيقة فإن الشق الثاني هو ما يميز الإنسان عن غيره من الكائنات، فكل مخلوقات الله تتلقى المعلومات عن البيئة عن طريق حواسها، فترى فريسة يمكنها أن تهجم عليها لتلتهمها، أو ترى حيوانا أكبر منها حجماً وشراسة فتحاول الابتعاد عنه وتجنبه، غير أن الحيوانات لا تختلف على تفسير مغزى ما تراه من أشياء وما تتلقاه من معلومات، لأن الحيوانات لا رأي لها، الأمر الذي يميز بني البشر.
فالمعلومات -مهما كانت درجة وضوحها ودقتها- لا تفسر نفسها بنفسها، فهي تمر أولا بالعقل حيث يجري تفسيرها واستخلاص ما يراه مناسبا منها باعتباره محتواها الحقيقي ومغزاها. فإذا افترضنا أن المعلومة الأصلية لم تكن مغلوطة تعمد ناقلها تحريفها بالزيادة أو النقصان أو بتلوينها برأيه الخاص، فإنه لا توجد هناك ضمانة بأن يكون التفسير الذي يصل إليه الفرد للمعلومات مطابقا لمعناها الحقيقي. فالفرد والجماعة تفسر المعلومات التي تصلها عبر عملية معقدة من الاستدعاء والاستبعاد واستخلاص المعنى. وخلال هذه العملية فإنه يكون من قبيل الأمر المألوف أن يجري تفسير المعلومات بشكل لا يتلاءم بالمرة مع الحقيقة، الأمر الذي يمكن إرجاعه إلى عدد من الأخطاء التي عادة ما يقع فيها العقل أثناء عملية تفسير المعلومات.
فالفرد منا لا يتلقى معلومة واحدة، وإنما عدداً كبيراً من المعلومات. وهو لا يقوم بتفسير معلومة واحدة، وإنما يقوم بتفسير عدة معلومات في نفس الوقت، خاصة في محاولته اكتشاف العلاقة بين المعلومات العديدة. والخطأ الذي عادة ما يقع فيه العقل البشري هو قيامه بشكل غير قصدي باستبعاد بعض المعلومات أو اعتبارها غير ضرورية. مع أنه قد يتبين فيما بعد أن هذه المعلومات المستبعدة بالذات كانت أكثر أهمية من المعلومات الأخرى التي جرى التركيز عليها.

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 266 مشاهدة
نشرت فى 2 أكتوبر 2011 بواسطة mowaten

ساحة النقاش

mowaten
يأتى الربيع العربى للثورات بمتطلبات ضرورية لعل من اهمها هو نشر التوعية السياسية بين المواطنين بوطننا العربى لارساء وتهيأة البيئة للعيش فى جو ديمقراطى طالما حلمنا به »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

264,635