2 - نماذج للتعـصب القومى والدينى :
لقد عرف تاريخ البشرية صراعات كثيرة ترتبت على كل أشكال التنوع البشري الحقيقية والمصطنعة. فالمأساة التي يعيشها الشعب الكردي، خاصة في العراق وتركيا، هي أحد مظاهر التمييز بسبب الاختلاف في اللغة والقومية. ففي عام 1922 تأسست مملكة العراق وضمت مقاطعتي الموصل والسليمانية ذات الأغلبية الكردية، واللتين كانتا تسعيان منذ فترة للحصول على الاستقلال. وبعد فترة من المقاومة الكردية، خفض أكراد العراق مطالبهم إلى الحصول على نوع من الحكم الذاتي في إطار العراق الموحد ، غير أن الشكوك والعداء القومي منعت إقامة علاقات صحية بين الشعبين العربي والكردي في العراق، الأمر الذي انعكس في الحرب الأهلية المستمرة هناك طوال أغلب الفترة الممتدة منذ تكون العراق.
وقد شهدت هذه الفترة العديد من الاتفاقيات التي لم يجر تنفيذها، والعديد من الفظائع والآلام، غير أن أقسى هـذه المراحل هي المرحلة بين انتهاء الحرب العراقية - الإيرانية وحرب تحرير الكويت. ففي هذه المرحلة حاول نظام الرئيس صدام حسين استغلال النصر الذي حققه على إيران، والتأييد الدولي الذي تمتع به بسبب نجاحه في التصدي لإيران التي كانت تهدد المنطقة كلها، فقام جيشه بتنفيذ ما يشبه حرب الإبادة ضد الشعب الكردي، وهي الحرب التي لم يتورع خلالها عن استخدام الأسلحة الكيماوية المحرمة دوليا، كما حدث في مدينة حلابجة، التي تم قصفها بغاز الخردل المميت، مما أدى إلى وفاة أكثر من ستة آلاف من أهلها، كما تم تدمير ما يقترب عدده من ثلاثة آلاف قرية كردية وتهجير سكانها، كما امتنعت الدولة عن دفع رواتب موظفيها من الأكراد الذين بلغ عددهم 150 ألفا في إطار حملة منظمة لاضطهاد الشعب الكردي في العراق.
وقد انعكست هذه المعاملة التمييزية القاسية في الثورة التي شنها أكراد العراق في مارس 1991 في أعقاب هزيمة نظام الرئيس صدام حسين في حرب تحرير الكويت، وبرغم الوحشية التي قابل بها النظام العراقي هذه الثورة، إلا أنها نجحت في النهاية في إنهاء سيطرة الدولة العراقية على المناطق الكردية. ولولا المعارضة الدولية لاستقلال كردستان العراقية، لكان ما يشبه الاستقلال الذي يتمتع به أكراد العراق الآن قد تحول منذ زمن إلى استقلال رسمي وفعلي، بعد أن أدى ضيق الأفق والتعصب القومي الذي ميز النظام العراقي إلى التهديد بتقسيم العراق. أما المفارقة المضحكة المبكية فتتمثل في أن سياسات صدام حسين التي هددت وحدة العراق كانت هي نفسها التي ظن الرئيس العراقي وهو يصممها وينفذها أنه بذلك إنما يحمي استقلال ووحدة الأراضي العراقية.
وفي رواندا نجد مثالا آخر للمآسي والمعاناة المترتبة على التمييز العرقي والقومي. ففي رواندا التي يبلغ عدد سكانها أكثر قليلا من ثمانية ملايين نسمة، تعيش جماعتان ثقافيتان هما الهوتو الذين يمثلون الأغلبية الكبيرة من السكان، بما نسبته 80% من سكان البلاد، بينما يمثل السكان من التوتسي 19% من السكان. وبهذا الصدد، فإن الوضع في رواندا يشبه إلى حد كبير جدا الوضع في جارتها بوروندي ذات الستة ملايين نسمة، منهم 85% من الهوتو، و14% من التوتسي.
في رواندا، قامت الأغلبية من الهوتو بانتفاضة كبرى في عام 1959، وقاموا بطرد مئات الآلاف من التوتسي إلى خارج البلاد، فتوزعوا كلاجئين في البلاد المجاورة خاصة الكونجو وأوغندا. وفي عام 1990 عاد اللاجئون من التوتسي إلى رواندا، ولكن بعد أن نظموا أنفسهم في جيش قوي قام بغزو البلاد، مما أدى إلى دخول البلاد في حرب أهلية استمرت بين عامي 1990 و1993، عندما تم التوقيع في الرابع من أغسطس من ذلك العام على اتفاقية سلام لإنهاء الحرب الأهلية وإنشاء حكومة وحدة وطنية تقوم على عودة المطرودين من التوتسي والتمثيل المتكافئ للأحزاب السياسية والجماعات المختلفة، وإقامة نظام قضائي مستقل . غير أن ميراث العداء لم يسمح بنجاح هذه الخطة. فبينما سادت بين التوتسي العائدين مشاعر الزهو والانتصار إلى الدرجة التي ألقت الرعب في صفوف الأغلبية من الهوتو، فإن المتطرفين من الهوتو قاوموا تحقيق المصالحة ورفضوا أن يجري التعامل مع التوتسي كمواطنين لهم حقوق متساوية.
اعتبر المتطرفون الهوتو عملية المصالحة وتحقيق السلام التي قادها رئيس رواندا نوعا من التسليم للأعداء من التوتسي، واعتبروا الرئيس هاباريمانا الذي قاد البلاد نحو المصالحة والسلام خائنا يستحق القتل. وفي السادس من أبريل عام 1994، وقبل أيام من تنصيب حكومة الوحدة الوطنية الجديدة، قام المتطرفون من الهوتو بإسقاط الطائرة التي كان يستقلها رئيسا بوروندي ورواندا ففقدا حياتهما. ثم بدأ المتطرفون الهوتو في شن مذابح جماعية واسعة النطاق ضد المواطنين من التوتسي.
استمرت المذابح لمدة ثلاثة أشهر كانت بمثابة الكابوس الثقيل. ففي مذبحة لم تشهد لها البشرية مثيل من قبل، تم قتل أكثر من نصف مليون من التوتسي. لكن المتمردين التوتسي العائدين من المنفى أعادوا تنظيم أنفسهم بسرعة، ونجحوا في نهاية الأشهر الثلاثة في الانتصار على المتطرفين الهوتو. فكانت المفارقة الكبرى، فالمذابح التي بدأها الهوتو لمنع التوتسي من الحصول على حقوق متساوية في بلادهم انتهت بتمكين التوتسي من السيطرة الكاملة على البلاد. وبالطبع فإن لنا أن نتوقع ما حدث منذ ذلك الحين، فمشاعر الكراهية والحقد المتراكمة لم تتح لحكومة التوتسي العائدة نسيان الماضي وإعـادة المساواة والسلام إلى البلاد التي دخلت في مرحلة جديدة من التمييز العنصري والكراهية، كان ضحاياها هذه المرة من الهوتو، وإن كانت الأمور لم تصل أبدا إلى المستوى الذي وصلت إليه في الأيام السوداء من عام 1994.
وتقدم باكستان نموذجا من الصراعات تختلط فيه عناصر القومية والدين. فمنذ القرن الثامن عشر كانت البلاد المعروفة اليوم بباكستان جزءا من الهند التي كانت من ممتلكات الإمبراطورية البريطانية. ومنذ القرن التاسع عشر بدأ سكان الهند في التفكير في مستقبل بلادهم ومستقبلها بعد رحيل البريطانيين. وفي ظل وجود جماعات هندوسية متطرفة تصورت هند المستقبل المستقلة كدولة هندوسية، يُجبَر فيها المسلمون على التحدث باللغة الهندية بدلا من الأوردو، وعلى عدم ممارسة شعائرهم الدينية بالقرب من المعابد الهندوسية أو في المناطق التي يسيطر عليها الهندوس، وعلى تحريم ذبح المسلمين للأبقار. في ظل وجود مثل هذه الجماعات الهندوسية المتطرفة ثارت مخاوف المسلمين، وخلص قادة المسلمين الهنود إلى استحالة التعايش بين المسلمين والهندوس في دولة واحدة، وبالتالي حتمية انفصال المناطق الإسلامية لتكون دولة مستقلة. لم تفلح محاولات أغلبية النخبة الهندية المنظمة في حزب المؤتمر المعارض لآراء الجماعات الهندوسية المتطرفة في تهدئة مخاوف مسلمي الهند، خاصة أن قيادة حزب المؤتمر ترددت في تقديم الدليل العملي على حسن نواياها تجاه المسلمين، خوفا من أن يؤدي الاعتراف بأن مشكلة الانقسام الديني/القومي في البلاد تستدعي حلا سياسيا إلى تعميق المشكلة وليس حلها. وعندما حل موعد رحيل البريطانيين عن الهند عام 1947 تم تقسيم شبه القارة الهندية إلى دولتين هما الهند ذات الأغلبية الهندوسية، وباكستان ذات الأغلبية المسلمة، التي حملت إسم جمهورية باكستان الإسلامية، والتي تأسست كدولة للمسلمين في شبه القارة الهندية.
وبالطبع فإن هذا الانقسام لم يكن بالأمر السهل. فقد صاحبه الكثير من جرائم التخريب والقتل من جانب المسلمين في باكستان ضد مواطني باكستان من الهندوس، ومن جانب الهندوس في الهند ضد مواطني الهند من المسلمين. ففي نظر الهنود كان الباكستانيون رمزا للخيانة وتفتيت الوطن، أما بالنسبة للباكستانيين، فإن الهنود مثلوا الجار الوثني ذا القوة والأغلبية العددية الذي يمثل تهديدا حقيقيا. سعى المتطرفون من الجانبين إلى تكوين أمة نقية ليس فيها بقايا من الشرور التي يمثلها أبناء الشعب الآخر، فتم الضغط على ملايين الهنود في باكستان، وعلى المسلمين في الهند لإجبارهم على الرحيل إلى الجانب الآخر من الحدود، فبلغ عدد المهاجرين على جانبي الحدود أكثر من عشرة ملايين مواطن أجبروا على تـرك ديارهم وممتلكاتهم، في تطبيق مبكر لسياسة التطهير العرقـي التي جرى تنفيذها بعد ذلك في البوسنة.
تكونت دولة باكستان الناشئة من المناطق ذات الأغلبية الإسلامية في شبه القارة الهندية. وقد حدث أن كان المسلمون متمركزين في القسم الشمالي الغربي والقسم الشمالي الشرقي من شبه القارة الهندية، فتكونت دولة باكستان من قسمين لا يوجد بينهما أي اتصال بري، ويفصل بينهما 1600 كيلومتر من الأراضي التابعة للهند. وبينما مثل سكان القسم الشرقي من باكستان، أو ما عُرف بباكستان الشرقية، 56% من سكان البلاد، فإن أبناء باكستان الغربية سيطروا على الحكم، كما احتكروا القسم الأكبر من مخصصات التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
غير أن الطامة الكبرى تمثلت في محاولة النخبة المسيطرة في باكستان الغربية فرض الأور
ساحة النقاش