ولنتصور كيف تدور عملية صنع القرار فى مجال التكنولوجيا، وما يترتب عليها من تفاعلات . إن النظرة التقليدية كانت تحصر هذه السياسات فى فاعلين فقط ، وهما الصناعة (أو الشركات) من ناحية، والمجتمع العلمى والتكنولوجى من ناحية أخرى. كان هذا هو النموذج الذى ساد سياسات التكنولوجيا خلال القرن التاسع عشر .
وفى غضون القرن العشرين، دخل فاعل جديد إلى الصورة بقوة واضحة، وهو الحكومات. وعندما تحدثنا المراجع المعروفة عن سياسة العلم والتكنولوجيا فهى تعنى فى الجوهر الأهداف والوسائل التى تتوخاها الحكومات فى مجال العلوم والتكنولوجيا. ويتميز هذا المصطلح عن مصطلح سياسات العلم والتكنولوجيا والذى نقصد به تفاعل القوى المؤثرة فى تحديد مسارات التطور العلمى والتكنولوجى.
لقد بدأت أقوى نماذج سياسة العلم والتكنولوجيا فى الاتحاد السوفيتى. فقد سيطرت الدولة على الصناعة وهيمنت على عقل وممارسات المجتمع العلمى والتكنولوجى ، وسيرتهما فى الاتجاه الذى تبتغيه باسم التخطيط المركزى. وقد انتهى الأمر الى وضع شديد التعقيد والجمود. فلم يكن المواطن العادى يستطيع الحصول على أبسط التقنيات أو أبسط منتجات التكنولوجيا بسهولة، ولكن الاتحاد السوفيتى (السابق) كان فى نفس الوقت من أقوى دول العالم تكنولوجيا. ففى الوقت الذى كان لهذا البلد قصب السبق فى تكنولوجيا الفضاء ، ونجح فى إرسال أول إنسان الى الفضاء الخارجى وكان برنامجه الخاص يغزو الفضاء يكلفه بلايين الدولارات ، ويحقق له سمعة دولية عظمى لم يكن المواطن السوفيتى(السابق) يستطيع شراء حتى الاسبرين ببساطة وحرية.
هذه الازدواجية المستعصية فى المركب التكنولوجى للدولة السوفيتية (السابقة) كان نتيجة حتمية للغياب التام لدور الرأى العام. وبسبب هذا الغياب اتسمت سياسات العلم والتكنولوجيا بالطابع الشمولى نفسه الذى اتسم به الاقتصاد والنظام السياسى والاجتماعى فى الاتحاد السوفيتى. (Ammau/102)
والواقع أن الصورة كانت مختلفة فى الولايات المتحدة وأوربا الغربية فقط بسبب عوامل كامنة فى النظام الرأسمالى. فالاقتصاد السوفيتى كان من المفترض أن يعمل وفق إرادة واحدة هى إرادة هيئة التخطيط العليا. أما الاقتصاد الرأسمالى فيفترض أن يعمل كتفاعل معقد بين آلاف من الشركات والهيئات الاقتصادية، التى تتخذ كل منها لنفسها ما تشاء من سياسات أو قرارات تكنولوجية.
ومع ذلك، فإنه لا ينكر أن قدرة الشركات على شراء ولاء آلاف من العلماء النوابغ وتمتعها بقوة اقتصادية هائلة إنما يحتوى بحد ذاته على إجحاف شديد ، وعلى مخاطر جمة. فتحالف العلم والقوة المالية الاقتصادية فى غياب رأى عام قوى ومنظم كان كفيلاً بحسم السؤال حول من يملك القدرة على توجيه مسار التطور التكنولوجى. ولهذا السبب تبخرت أحلام الرؤساء والمفكرين الأمريكيين الأوائل الذين دافعوا عن مسار محدد ، وهو أن تقوم التكنولوجيا بخدمة الإنسان العادى.
غير أن الحرب العالمية الثانية شهدت تطوراً آخر، وهو دخول الحكومة طرفاً فى معادلات العلم والتكنولوجيا. وقد بدأ هذا الدخول فى حالة الولايات المتحدة بمشروع مانهاتن عام 1940. ولكن الأهم من هذا المشروع الذى أسفر عن تصنيع القنبلة الذرية لأول مرة هو تشكيل كيان مؤسسى يعكس اهتمام الحكومة بتوجيه مسار أنشطة البحوث والتطوير. وعلى أساس التحالف الجديد بين العلماء والحكومة تطورت الهياكل المؤقتة والسياسات المبعثرة التى نتجت عن فترة الحرب الى كيان واضح وهو مؤسسة العلوم القومية (NSF) عام 1950، حيث عملت هذه المؤسسة كإطار لمناقشة الملامح الأساسية لسياسة العلم والتكنولوجيا فى الولايات المتحدة. ونشأت بعد ذلك هياكل متخصصة مثل NASA ناسا لتطبيق البرنامج الفضائى للولايات المتحدة، والمعهد القومى للصحة، إضافة الى ما تقوم به وزارة الدفاع من مشروعات تكنولوجية عسكرية. (Hiskes/36-52)
وبينما قامت مؤسسة العلوم الأمريكية بتدعيم العلم الصرف أو البحوث الأساسية ، قامت بقية المؤسسات بتدعيم مشروعات ذات طبيعة عسكرية أو شبه عسكرية. وتدفقت أموال هذه الهياكل الأخيرة على الشركات الصناعية الكبرى المهتمة بصناعات وتكنولوجيا الحرب.
وأخذ الانفاق الحكومى على أنشطة البحث والتطوير التكنولوجى يتزايد يوماً بعد يوم. وخاصة أن المنافسات الدولية أصبحت تشكل ضغطاً متزايداً على الحكومات لتقديم مزيد من التمويل لمنظوماتها القومية للتكنولوجيا. والمؤشر المعتمد للمقارنة بين أدوار الحكومات لتشجيع الابتكار والتجديد هو نسبة الانفاق على البحوث والتطوير من إجمالى الناتج القومى.
ففى نهاية الثمانينات كانت الولايات المتحدة تنفق 2.8% من إجمالى الناتج المحلى الاجمالى على هذا النشاط . أما النسب المناظرة فهى 2.9% لليابان، 2.9% لألمانيا، 2.3% لفرنسا ، و2.2% للمملكة المتحدة . (Skolimkoff/23)
وبذلك قام تحالف ثلاثى بين العلماء والفنيين من ناحية، والصناعة أو الشركات الرأسمالية من ناحية ثانية، والحكومة من ناحية ثالثة. وظل دور الرأى العام ضعيفاً فى تحديد مسارات التطور التكنولوجى فى الولايات المتحدة حتى قرب نهاية السبعينات ، عندما بدأ هذا الدور ينشط مما أسفر عن سلسلة من برامج البحوث الجديدة المخصصة للبيئة والصحة والتعليم وغيرها من المجالات ذات التأثير المباشر على حياة الناس العاديين.
لقد صار دور الرأى العام نشطاً بصورة متزايدة منذ ثورة الشباب والحركة الطلابية فى الولايات المتحدة وأوربا فى نهاية الستينيات. ولكن ذلك الدور أصبح أكثر قوة بما لا يقاس فى عقد التسعينات مما كان عليه فى عقد السبعينيات، حيث اصبح يشكل أحد الأركان الأساسية للسياسات التكنولوجية. ولكنه مع ذلك يظل الركن الأضعف فى هذه السياسات.
ساحة النقاش