عندما إنطلق بعض العمال البريطانيين فى خضم الثورة الصناعية الأولى الى تدمير الآلات، لم يفعلوا ذلك بصورة عفوية، بل شكلوا منظمة سرية عام 1813 للقيام بهذه المهمة.
والآن ، لم يعد العمال يخشون الآلات، ولكنهم لازالوا يخشون البطالة، ويعبرون عن هذا الخوف بصورة علنية من خلال نقاباتهم. وتعتقد أكبر نقابات العمال الأمريكية (المعروفة بالرموز (AFL-CIO أن العولمة والثورة التكنولوجية الراهنة قد تجعل البطالة مشكلة أو سمة ثابتة للمجتمع.
ولم تكن الخشية من البطالة هى المشكلة الوحيدة مع نمط التطور التكنولوجى الحديث. بل كانت هناك مشكلة أخرى تؤرق المفكرين وهى السيطرة على الإنسان. وقد عبر جورج أورويل بين مئات من الأدباء والمفكرين عن هذا الخوف فى روايته المشهورة المسماة بـ 1984، والتى تنبأ فيها بهيمنة النظم الشمولية (ويقصد بها حكومات الحزب الواحد الايديولوجى) من خلال التكنولوجيا على المواطنين.
واليوم تبخرت هذه المخاوف من الشمولية السياسية. بل إنهار أكبر مجتمع شمولى فى العالم وهو الاتحاد السوفيتى، فى غضون ساعات فى شهر ديسمبر عام 1991. ومع ذلك، فلازالت المخاوف تتزايد من توظيف التكنولوجيا الحديثة، وخاصة تكنولوجيا المعلومات والإعلام والاتصالات فى تسيير البشر والسيطرة على عقولهم وسلوكهم. وتعبر حركات كبرى مثل حركة العودة الى الطبيعة ، ومئات المنظمات المدنية عن هذه المخاوف.
واليوم أكثر من أى وقت مضى ، لم يعد من الممكن النظر للتطور التكنولوجى، وكأنه أمر يهم الحكومات والفنيين أو العلماء وحدهم. لم يعد ذلك ممكنا لأن كافة جوانب الحياة قد أصبحت ذات محتوى تكنولوجى. وتهيمن نظم تكنولوجية كبرى على إدارة عديد من هذه الجوانب. وحيث أن كافة هذه النظم الكبرى معرضة للمشكلات، بل وللانهيارات المؤقتة أو حتى الدائمة ، فإن شئون التكنولوجيا تفرض نفسها فرضاً على المواطنين فى كل لحظة. تصور مثلاً ما سيكون موضوع المحادثات المنزلية عندما تنهار شبكات الكهرباء التى تدار بالكومبيوترات العملاقة ويحرم الناس من الاضاءة الليلية فى منازلهم؟
وتصور كذلك ماذا سيكون الموضوع الأثير للمناقشات التلقائية عندما تتعطل البنوك وشركات الطيران والبورصات والمؤسسات الاقتصادية المؤثرة فى تدفقات المعلومات المعالجة أو الشبكات التى تنتقل من خلالها. وبوسعنا أن نحشد لك مئات الأمثلة من الحياة اليومية التى لم تعد إدارتها معلقة بقرارات بشرية يومية، بل صارت متوقفة على التكنولوجيا الحديثة.
ولكن أليس الأمر نفسه صحيحاً بالنسبة لشبكة الصواريخ عابرة القارات والمحملة بعشرات وآلاف الرءوس النووية؟ ألا يصدق عليها نفس ما يصدق على أى نظام تكنولوجى واسع النطاق؟ أليست هناك احتمالات، ولو ضئيلة، أن تتعرض لعطل أو اضطراب مفاجئ فى شبكات السيطرة والمعلومات والأوامر؟ .
وحتى إذا استبعدنا هذا الاحتمال الأخير تماماً، فهل تنتهى الأضرار المحتملة لبعض النظم الأخرى؟ هناك عشرات من المصادر لكوارث محتملة، مثل السخونة المتزايدة للأرض أو ما يسمى بأثر الصوبة الزجاجية ، والتلوث الكيميائى الذى يمتد للأنهار والبحار والأرض والهواء، والتسربات الكيميائية السامة، بل والتسرب الاشعاعى من نوع ما حدث فى مفاعل تشرنوبيل فى الاتحاد السوفيتى السابق، وما تجره التجارب النووية تحت الأرض من اضطرابات مناخية، وغيرها من النتائج التى يشعر بها جميع الناس فى كل مكان، حتى الذين يسكنون الغابات الاستوائية والذين يبعدون آلاف الأميال عن تلك النظم التكنولوجية المعقدة .
لقد أدرك الرأى العام فى الدول المتقدمة تلك الحقائق، ومن ثم لم يعد الناس يبعدون أنفسهم عن القضايا المتضمنة فى المسارات المحتملة والمختلفة للتطور التكنولوجى، بل أصبح الرأى العام فاعلاً أصيلاً فيما يسمى سياسات التكنولوجيا. وبلغت قوة الرأى العام، فى عديد من دول العالم وخاصة فى دول شمال أوروبا وألمانيا والولايات المتحدة، أن أصبح له حق رفض إقامة مشروعات تكنولوجية عديدة، وخاصة تلك التى تشتمل على أخطار شديدة أو احتمالات للدمار الشامل.
وتتشكل لأغراض التأثير على سياسات التكنولوجيا منظمات مدنية من أنواع مختلفة بدءاً من جمعيات حماية المستهلك حتى حركة السلام الأخضر ، هذا ناهيك عن انتشار حزب الخضر فى عديد من دول العالم المتقدم، ومشاركته فى الحكومة فى بلاد مثل ألمانيا.
ويضع هارولد جاكوبسون قائمة من 621 منظمة دولية غير حكومية تعمل فى مجال الرقابة على التكنولوجيا ونقلها من بلد الى بلد ورصد آثارها ونتائجها الخطرة المحتملة، والدفاع عن مصالح الشعوب والجماعات الصغيرة والمتعلقة بهذه النتائج. وأغلب هذه المنظمات ينتسب للأمم المتحدة. ولكن هناك حاجة متزايدة للقيام بعمل توجيهى يبادر بطرح إتجاهات جديدة للتطور التكنولوجى لصالح المجتمع، حيث أن أغلبية المنظمات غير الحكومية التى تعمل الآن فى المجتمعات المتقدمة تكتفى بالرقابة ولا تملك قدرة إقتراحية كافية. (Skolimkoff/213)
وحتى عندما لا تتوافر مثل هذه المنظمات ، فإن الحركة العفوية للناس كثيراً ما تنبثق فجأة ودون وعى مسبق لمعارضة سياسات أو ممارسات تكنولوجية خطيرة. وقد مثل حادث جزيرة الأميال الثلاثة فى الولايات المتحدة نموذجاً يحتذى بعد ذلك، حيث وجد أهالى هذه الجزيرة أنفسهم ضحية تسرب مواد كيماوية سامة فى النهر والأرض التى يعيشون عليها ، وبدأوا ثورة حقيقية ضد تساهل السياسة الحكومية تجاه ممارسات إلقاء المخلفات السامة بصورة تعرض حياة الناس لخطر داهم وشديد .
ساحة النقاش