ومّثلتْ المفاوضات التجارية التى دارت معظم سنى التسعينات تحت إسم دورة أوروجواى الفرصة المناسبة لكى تضغط الولايات المتحدة لفرض نمط صارم من الحماية للملكية الفكرية، ونجحت الولايات المتحدة فى ذلك. بل ضاعفت من جهودها لتأمين حماية صارمة للملكية الفكرية عن طريق تأسيس منظمة التجارة العالمية. ووفقاً لاتفاقية التجارة الدولية الجديدة التى أنهت دورة أوروجواى، تمتلك منظمة التجارة العالمية الوليدة سلطات هائلة وغير مسبوقة فى أى منظمة دولية أخرى، وذلك للإشراف على التطبيق الكامل للإتفاقية، وخاصة للبنود المتعلقة بالملكية الفكرية التى تمثل أهم ما جاءت به هذه الاتفاقية من تجديد.

وفضلاً عن ذلك، فإن الولايات المتحدة تتعقب بدقة كل دولة تظن أنها تتسامح مع قيام مواطنيها بالقرصنة على الملكية الفكرية ذات الأصول الأمريكية. ولا تتردد فى إلحاق عقاب شديد لهذه الدولة من خلال منع الصادرات لها والتضييق على فرصها فى تسويق منتجاتها داخل السوق الأمريكى ومنع الاستثمارات الأمريكية فيها، فضلاً عن مطالبتها بالتعويض .
والحقيقة هى أن الولايات المتحدة محقة نظرياً فى بعض حججها الخاصة بالحماية الضرورية للملكية الفكرية. فالشركات صاحبة براءات الاختراع وغيرها من صور الملكية الفكرية تنفق استثمارات هائلة على أنشطة البحث والتطوير التكنولوجى حتى يمكن لها أن تضمن تدفق الابتكارات والتجديدات. وتعانى اقتصاديات البحث والتطوير التكنولوجى من نقاط ضعف كثيرة. فالاستثمارات الضرورية فى هذا المجال كبيرة للغاية، وغير مضمونة النتائج.
فمن بين كل أربعة مشروعات للبحث والتطوير، قد ينجح ابتكار واحد فقط من الناحية التسويقية. وغالباً ما يكون هناك فاصل زمنى يستمر فيه الانفاق على هذا الابتكار حتى يمكن استغلاله فعلياً. ومعنى ذلك أنه لو لم يكن هذا الابتكار مشمولاً بالحماية، فإن الشركات لن يكون لديها أى دافع للاستثمار فيه. وقد تصل صناعة البحث والتطوير التكنولوجى الى ركود كامل، إذا صارت السرقة التكنولوجية أمراً شائعاً وبدون أية تكلفة قانونية أو مالية.
ونضيف الى ذلك، أن تمتع الدول النامية بحق الحصول مجاناً على الابتكارات والتجديدات التى نشأت فى بلاد أخرى ليس خيراً كله، كما قد يعتقد البعض. إذ أن هذه الحالة سوف تؤدى الى فقدان هذه الدول لأى حافز لبناء قدراتها الذاتية للتجديد والابتكار والتطوير. وهى بالتالى لن يكون لها أى رغبة فى القيام باستثمارات مكلفة لإنشاء وبناء مراكز البحث والتطوير، وسوف تفقد أبناءها الأذكياء والعباقرة لصالح الدول الأخرى. وهو ما يحدث على أى حال بسبب ضآلة الاهتمام بوضع سياسة وطنية للعلم والتكنولوجيا من ناحية، والرخص النسبى لاستيراد التكنولوجيا بالمقارنة بالاستثمار من أجل إنتاجها محلياً من ناحية أخرى. وتعد مصر من الدول التى تعانى من هذه المشكلة.
من المفهوم إذاً أن تتمتع الابتكارات والتجديدات التكنولوجية بشئ من الحماية. ولكن المشكلة هى أن الولايات المتحدة والدول الغنية الأخرى تبالغ كثيراً فى مدى الحماية التى تشمل الابتكارات والتجديدات بها، كما سبق وأشرنا. فالمدى الزمنى للحماية طويل، والتكلفة المالية لشراء حق الاستغلال عالية للغاية، والشروط التقييدية لعقود بيع التكنولوجيا كثيرة ومربكة، والممارسات التجارية المرتبطة بالملكية الفكرية - وفقاً للتفسير الأمريكى - تقود الى الاحتكار، وهى حالة ضارة ليس فقط بالتوازن العادل والمطلوب فى الأسواق، بل وبالشركات المنتجة ذاتها.
وأهم من ذلك كله، هو أن النظام الأمريكى للحماية لا يميز بين الدول المستوردة للتكنولوجيا من حيث الغنى والفقر والقدرات الصناعية والتكنولوجية. فأمريكا تعامل الدول الأشد فقراً والتى تفتقر الى قدرات تكنولوجية ذاتية بنفس الطريقة التى تعامل بها الدول الغنية والمقتدرة تكنولوجياً، وهو ما يجعل نظام الحماية الأمريكى بالغ الاجحاف بالدول الفقيرة.
ولهذه الأسباب لا ينبغى أن ينخدع القارئ بوجاهة الحجج الأمريكية بخصوص ضرورة الحماية للملكية الفكرية. كما لا ينبغى أن ينخدع بمصطلح نقل التكنولوجيا transfer of technology لأن هذا المصطلح يعطى إيحاءً كاذباً بأن التكنولوجيا تمنح وتمثل معونة مجانية خيرة. فواقع النظام الرأسمالى والنظام التجارى الدولى يكذب هذه الايحاءات. ومن الضرورى أن يعاد التفاوض حول نظام جديد لحماية الملكية الفكرية يضفى عليها فقط الحماية الضرورية، ويمنعها فى نفس الوقت من أن تصبح أهم دوافع الاحتكار وصور الاستغلال.
والواقع أن هناك حججاً اقتصادية واجتماعية كثيرة لحتمية منح الدول الفقيرة والأقل نمواً مزايا معينة فى إطار نظام الحماية. فأولاً تعد قوة شرائية إضافية للمعارف التكنولوجية تتحقق بعد أن تكون الدولة المنتجة قد تمكنت من الحصول على الربح المطلوب والضرورى من مبيعاتها فى الدول الغنية أو الأسواق الكبيرة الأخرى.
وبتعبير آخر ، فإن الريع التكنولوجى الذى تحصل عليه الدول الغنية المبتكرة من الدول الفقيرة المشترية، يعد زائداً عن الحاجة الضرورية، بل ويعد استغلالاً بقصد الاستغلال وليس تلبية لحاجة جديرة بالتقدير .
ولكن الاعتبار الأهم هو أن نظام الحماية المتشدد الذى أخذت به منظمة التجارة الدولية بضغط من الولايات المتحدة يتجاهل المساهمات غير المباشرة للدول الفقيرة والنامية فى عملية توليد المعارف التكنولوجية والابتكارات فى الدول المتقدمة والغنية. إذ يعمل فى هذه الدول عشرات الآلاف من أبناء الدول النامية ويساهمون مساهمة ملحوظة فى توليد المعارف والابتكارات. وتؤكد التقديرات المتاحة أن الدول الغنية أصبحت تعتمد إعتماداً كبيراً ومتنامياً على العقول المهاجرة إليها من العالم الثالث فى تشغيل قطاعاتها الغنية ومعاملها ومراكز بحوثها، وذلك دون أن تكون قد أنفقت على تعليمهم وتدريبهم الأساسى، أى أنها تأخذهم دون مقابل.
ويدعونا هذا الاعتبار لمناقشة الأمر مع الدول المتقدمة، على أساس أنها ملتزمة أخلاقياً وسياسياً بمنح امتيازات تكنولوجية للدول النامية والفقيرة مقابل حصولها على أفضل أبناء هذه الدول ومساهماتهم فى دفع التطوير التكنولوجى عندها.
وبالمقابل، فإن الدول النامية والفقيرة تنفق على تعليم أبنائها النابغين وتدريبهم ثم تفقدهم بعد ذلك ولا تحصل منهم على عائد اجتماعى أو اقتصادى يذكر بعد أن يقوموا بالهجرة والعمل فى الدول المتقدمة. ويمثل هذا النزيف للعقول أحد أهم أسباب الركود الاقتصادى والاجتماعى، وما يعنيه ذلك من استمرار الفقر والفاقة فى أكثرية دول العالم الثالث، ومن بينها مصر والعالم العربى ككل.
غير أن الأمر يجب أن يناقش بصورة أعمق. فإذا تركنا قضية الحماية وما يجدر بالدول النامية أن تحصل عليه مقابل مساهمة أبنائها النوابغ فى توليد المعارف التكنولوجية فى الدول الغنية المتقدمة ، سنجد أننا أمام مفارقة كبرى.
فالأصل هو أن الدول النامية والفقيرة - ومن بينها مصر - تنفق إنفاقاً عالياً على التعليم لكى تؤهل أبنائها لقيادة التطور الاقتصادى والاجتماعى. ولكنها تفقد أعداداً كبيرة من الشرائح العليا لخريجى نظام التعليم لأنها لا تملك سياسة مناسبة لتشغيلهم فى ميادين البحث والتطوير والتجديد والابتكار التكنولوجى. وبذلك فهى تخسر أبناءها النوابغ القادرين على دفع التطور والتنمية، وتخسر ضمنياً أيضاً الأموال التى أنفقت على تعليمهم ورعايتهم. ولاشك أن جانباً من الأسباب التى تقود الى هذه الخسارة المزدوجة هى افتقار الدول النامية والفقيرة لرءوس الأموال الضرورية للإنفاق المستمر على مشروعات البحث والتطوير.
ولكن ذلك قد لا يكون هو السبب الوحيد أو الأهم للفشل فى بناء قدرات وطنية ذاتية فى مجال العلم والتكنولوجيا. ويكفينا أن ننظر لجانب واحد من الصورة، وهو ما نتحدث عنه فعلاً حول نزيف العقول. إذ يبدو وكأننا أمام دائرة مفرغة، فيما يتعلق بهذا الجانب، ذلك أن الافتقار الى قدرات وطنية فى مجال البحوث والتطوير يؤدى الى خسارة العقول المؤهلة لقيادة هذا المجال، وهو ما يؤدى بدوره الى ندرة العناصر القادرة على تأسيس وقيادة وتشغيل مراكز البحوث والتطوير.
وفى الفصل التالى، سوف نلتفت الى جانب آخر من الجوانب المفتقدة فى أكثرية الدول النامية، ومن بينها مصر والعالم العربى، وهو سياسات التطور والتنمية فى مجال التكنولوجيا .

 

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 82 مشاهدة

ساحة النقاش

mowaten
يأتى الربيع العربى للثورات بمتطلبات ضرورية لعل من اهمها هو نشر التوعية السياسية بين المواطنين بوطننا العربى لارساء وتهيأة البيئة للعيش فى جو ديمقراطى طالما حلمنا به »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

284,149