بدأت بعض الدول العربية مؤخراً في إتاحة هامش أوسع من الحقوق والحريات لمواطنيها ومنها حريات التعبير والتجمع والتنظيم كخطوات على طريق الانتقال إلى الديموقراطية .
وكان السماح بالتعدد الحزبي من أهم التطورات السياسية التي بعثت الحياة في أحزاب قديمة في الجزائر وتونس والأردن ولبنان والسودان واليمن ومصر، كما شجعت على تأسيس أحزاب جديدة بلغ عددها 46 في الجزائر و43 في اليمن و23 في الأردن و19 في المغرب و15 في مصر و11 في تونس وستة أحزاب في موريتانيا، كما ازداد عدد المنظمات غير الحكومية في العالم العربي من عشرين ألف في الستينيات إلى سبعين ألف في التسعينيات وهو ما يمكن تفسيره بعدد من الأسباب.
أولاً : جذور المجتمع المدني
غير أن هذه التطورات ليست جديدة تماماً على العالم العربي، وخاصة مصر بل كانت لها جذورها التاريخية الممتدة منذ عصر الدولة الإسلامية السابقة على الاستعمار الأوروبي، وإن لم تأخذ شكل التنظيمات الحديثة المعروفة حالياً للمجتمع المدني .
1 - مشايخ الطرق الصوفية و علماء الأزهر :
كانت هذه المجموعة من أقدم مؤسسات المجتمع المدني التي عرفتها مصر. وقد لعب علماء و شيوخ الأزهر وكبار التجار ومشايخ الطرق الصوفية وزعماء القبائل وكبار السن دوراً سياسياً هاما في المجال العام، حيث تمتعوا بدرجات عالية من الاستقلال في مواجهة الحكومات سواء في إدارة الشئون الداخلية لجماعاتهم أو حتى في اختيارهم للزعماء الذين يتحدثون باسمهم سواء مع الجمهور أو الحكومة. ولعب هؤلاء الزعماء دور المستشارين الناصحين للحكام بما قلل من انتهاكهم لحريات وحقوق المحكومين (الرعية ). وقد قامت الطرق الصوفية بتوفير المأكل والمأوى لعديد من الفقراء، واعتمدت في ذلك على هبات الأعضاء وزوار الأضرحة والصالحين وما يضعونه في صناديق النذور . كما استخدمت الأموال التي قدمها أهل الخير والإحسان في تمويل بناء المدارس والمساجد وصيانتها .
وهكذا ، لم تخل المجتمعات العربية من أدوات وقنوات وسيطة بين العامة والخاصة، فقامت بدور حلقة الوصل لشرح قرارات الحكومة للمحكومين ثم توصيل مطالب الشعب للحكومة. ولعل من أهم النماذج التاريخية المصرية على ذلك شخصية الزعيم عمر مكرم حيث كان واحداً من علماء الأزهر الذين اشتركوا في مقاومة الحملة الفرنسية ونجحوا في طردها ثم واصلوا الكفاح والنضال ضد الحاكم التركي المستبد خور شيد باشا وأصروا على إسقاطه بعدما رفض الاستماع إلى شكاوى الشعب أو الاستجابة لها. وبلغت حركة النضال قمتها عندما نجحت في إرغام السلطان العثماني على استبداله بمحمد علي ليكون حاكماً على مصر مع العلم بأن زعماء الشعب وعلى رأسهم عمر مكرم كانوا هم الذين اختاروا محمد على واشترطوا عليه الاستمرار في العمل بمشورتهم ونصحهم .واللافت للنظر هنا أن عمر مكرم وزملاءه لم يفكروا في أن يتولى أي منهم السلطة وهو ما يمكن تفسيره جزئياً في ظل ظروف الاحتلال العثماني إلا أن هذا يدل على عمق كبير في فهم هؤلاء الزعماء لدورهم على انهم جزء من المجتمع المدني يتدخلون ضد الحكومة للدفاع عن حقوق المواطنين ووقف الاستبداد والظلم دون سعي للوصول إلى السلطة .
2 - التنظيمات والمؤسسات الخيرية :
عرفت المجتمعات العربية منذ وقت مبكر صورا عديدة من التجمع والتضامن والتنظيم على أسس اجتماعية ومهنية ودينية وسلالية ومحلية. وتميزت تلك الروابط المنظمة بالتدرج والوضوح فضلا عن الاعتماد الذاتي على موارد مستقلة كالتبرعات وأعمال البر والإحسان التي يقدمها أهل الخير ومؤسسة الأوقاف بعيداً عن سيطرة الدولة، حيث كانت الأوقاف جزءاً من المجتمع المدني. وقدمت تلك المنظمات خدمات اقتصادية واجتماعية عديدة قبل ظهور الدولة المستقلة .
وكان لمصر دور ريادى في السبق إلى معرفة الدور المبكر والكبير الذي لعبته مؤسسات الإحسان الخيرية التي كونتها جمعيات دينية سعت لمد يد العون وتقديم مساعدات مالية لكل من الطلبة والمرضى والفقراء والراغبين في الزواج ، كما ظهرت مجموعة من الجمعيات والتنظيمات التابعة لهيئة الأوقاف منذ مطلع العشرينيات. وكانت الجمعيات التعاونية من أولي الحركات الشعبية حيث تأسست جمعية تعاونية زراعية في مصر لأول مرة عام 1907 بدون أي تدخل من الحكومة وكانت تجمع المزارعين في صورة تنظيم يهدف إلى حمايتهم من جشع التجار .
ومما تجدر ملاحظته أن دور هذا النوع من التنظيمات لم يختف في العصر الحالي بل امتد وجودها سواء مع احتفاظها بأسمائها أو مع اكتسابها لأشكال وأسماء جديدة، فرغم أن الطرق الصوفية قد لا يتم تسجيلها كواحدة من مؤسسات المجتمع المدني إلا أنها تعتبر من أهم مكوناته في العالم العربي حتى الآن. وقد استطاعت الطرق الصوفية تأسيس اتحادات لها صار لها وزن كبير لدى الدولة، كما أن لها إسهامات عديدة في مساعدة المرضى الفقراء وإنشاء وتجهيز العيادات الملحقة بالمساجد والمشاغل وفصول تعليم الخياطة فضلا عما تقدمه من دروس تقوية في مواد الدراسة للطلاب المتعثرين من أبناء الفئات محدودة الدخل أو غير القادرة على تحمل نفقات العلاج أو الدروس الخصوصية. ونفس الشيء بالنسبة لجماعات أبناء القبائل .
ساحة النقاش