شهدت سنوات الثمانينيات والتسعينيات في نهاية القرن العشرين حركة سريعة للغاية لانتقال الكثير من مجتمعات ودول العالم نحو الديموقراطية فيما اعتبره البعض موجة اكتسحت العالم وأصابت دوله بعدوى التحول الديموقراطي. ففي الفلبين سقط حكم ماركوس المستبد عام 1986 وحدث نفس الشيء في بنجلاديش والبرازيل نتيجة للدور المتزايد للحركات الاجتماعية التي تكونت بعيدا عن سيطرة الحكومة .
وفي أوروبا الشرقية شهدت فترة نهاية الثمانينيات صحوة في المجتمع المدني فى الدول التي كان يحكمها الحزب الشيوعي، ففي بولندا أيدت الكنيسة الكاثوليكية نقابة تضامن العمالية المستقلة التي تزعمت الاحتجاج على الحزب الشيوعي الحاكم ونجحت في إرغامه على إجراء انتخابات انتهت بفوز تضامن وسقوط الحكومة الشيوعية في خريف عام 1989، ثم انتقلت عدوى الثورة والاحتجاج ضد الحكم الشيوعي إلى تشكوسلوفاكيا على يد المنتدى المدني وإلى ألمانيا الشرقية على يد المنتدى الجديد وإلى المجر على يد المنتدى الديموقراطي. تلك المنتديات كانت عبارة عن تنظيمات لحركات شعبية وجماهيرية عريضة انضمت إليها جموع المواطنين وتدفقوا في إطارها في شكل موجة كاسحة من الاحتجاجات ليس بصفتهم أفراداً وإنما بصفتهم أعضاء في منظمات اجتماعية وحركات طلابية أو نسائية أو عمالية .
وفي عدد كبير من البلاد الإفريقية استطاعت منظمات العمال والروابط المهنية أن تنشر الوعي بضرورة تغيير حكم الحزب الواحد، ولعبت الجمعية القانونية التي تضم آلاف المحامين في كينيا دوراً نشطاً في ذلك، كما قامت جماعات الضغط والنقابات بنفس الدور في بداية التسعينيات ونجحت في إسقاط رئيس الدولة في انتخابات فاز فيها زعيم نقابات العمال. وتكررت القصة نفسها في زائير على يد الكنيسة وحركات العمال والطلبة. وكان السؤال لماذا حدثت هذه التغيرات بتلك السرعة الهائلة؟ وتقدم ثورة الاتصالات والمعلومات والإعلام سببا وجيها لتفسير هذه الظاهرة إلى جانب تزايد أهمية قضايا ومشكلات عالمية تحتاج في معالجتها إلى تعاون وتنسيق على مستوى عالمي ولا تستطيع أي دولة مواجهتها على حدة مثل قضايا التلوث البيئي وتجارة الأسلحة والمخدرات والإرهاب وانتشار أمراض خطيرة مثل الإيدز وفيروسات الكمبيوتر...الخ .
واتفق الجميع على أننا نعيش في عصر جديد أطلقوا عليه عصر العولمة والتي تعني في أبسط معانيها سقوط الحواجز الفاصلة بين الدول والمجتمعات والاتجاه نحو مزيد من الاندماج بما جعل العالم يتحول إلى قرية صغيرة، وصارت كثير من القرارات الاقتصادية تتخذ خارج حدود الدول عن طريق المؤسسات والشركات الدولية متعددة الجنسيات. كما تميز هذا العصر بالتدفق الحر والسريع للأموال والبضائع والخدمات فضلاً عن الأفكار والمعتقدات. وكان للديموقراطية وحقوق الإنسان نصيب الأسد في الانتشار العالمي كقضايا ذات أولوية في جداول أعمال المنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية مع صعود الدعوة العالمية لإعادة الاعتبار للفئات التي تعرضت للإهمال والظلم والاضطهاد لفترات طويلة سابقة كالمرأة والطفل والمعاق .
وكان من أبرز التطورات العالمية الجديدة تزايد عدد المنظمات غير الحكومية واتساع نطاق نشاطها بما يتجاوز ويتخطى حدود الدول القومية. وفي ظل التقدم الهائل في مجال الإرسال الفضائي والأقمار الصناعية والأطباق الهوائية استطاعت منظمات حقوق الإنسان توعية الرأي العام العالمي بما يجري من انتهاكات في أي دولة كما شاهد سكان العالم جميعاً أحداث سقوط النظم الشيوعية في أوروبا الشرقية على أيدي حركات الاحتجاج الشعبي على شاشات التلفزيون وهو ما كان عاملاً هاماً في تشجيع الشعوب الخاضعة لحكومات مستبدة على تقليد الشعوب الأوروبية والمطالبة بالتغيير .
وبعد سقوط الشيوعية تراجعت إلى حد كبير أهمية العقائد والمذاهب الفكرية التى تأسست عليها أغلب الأحزاب السياسية مع اختفاء الفروق بين اليسار واليمين، وهو ما جعل المنظمات غير الحكومية تحتل مركزاً يفوق الأحزاب كقنوات فعالة لمشاركة المواطنين والتأثير فى السياسات الحكومية فضلاً عن تحقيق الإصلاح السياسى والاقتصادى .
وبدأ السياسيون يتحدثون عن عصر العولمة باعتباره عصراً يتكون فيه مجتمع مدني عالمي خصوصا وأن كثيراً من الجماعات المكونة للمجتمع المدني فى عديد من الدول بدأت في الدخول في تحالفات وروابط مع المنظمات العالمية خارج الحدود بما يزيد من قوتها ويحسن من مركزها إزاء الدولة .
كما بدأت المؤسسات الاقتصادية والمالية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي وغيرها من الجهات الدولية المانحة للمساعدات تشترط على الدول النامية المدينة أو الراغبة في الاقتراض المبادرة بإدخال بعض الإصلاحات الديموقراطية من خلال السماح بالتعدد الحزبي والانتخابات وتشجيع منظمات المجتمع المدني كما زادت المعونة الموجهة إلى الجماعات والمنظمات غير الحكومية داخل تلك الدول بحجة توصيل هذه المعونات مباشرة إلى مستحقيها دون وساطة الحكومة. وكان للبنك الدولي دور واضح في تمويل نشاط المجتمعات المدنية جنباً إلى جنب مع دعوته للأخذ بسياسات اقتصاد السوق والتحول إلى القطاع الخاص وتقييد دور الحكومة في الاقتصاد .
ولكن هل معنى ذلك أن تأثير العولمة إيجابي تماماً بالنسبة لتشجيع المجتمع المدني ؟
الإجابة على هذا السؤال هي أن العولمة في الحقيقة سلاح ذو حدين. فتطور وسائل الاتصال يزيد من قدرة المنظمات غير الحكومية على الدفاع عن حقوق الإنسان، ولكن هذه الوسائل ذاتها قد تتحول إلى بديل فهى توفر لتلك المنظمات أداة وسيطة بين الحكام والمحكومين يتم من خلالها التعبير عن وجهات النظر والآراء المختلفة في المجتمع، وهي في نفس الوقت تفوق منظمات المجتمع المدني في السرعة والسهولة والانتشار وتؤدي نفس دورها بكفاءة أكبر. ويتسبب التقدم في وسائل الإعلام في التساؤل حول مبررات وجدوى استمرار منظمات المجتمع المدني في المستقبل .
أضف إلى ذلك أن ارتباط الدفاع عن المجتمع المدني ببعض الجوانب الأخرى السلبية للعولمة قد يدفع البعض في الدول النامية إلى رفضه باعتباره مجرد فكرة غريبة ومستوردة يفرضها الغرب المتقدم على الدول الفقيرة بهدف إضعافها وإخضاعها للتبعية والهيمنة له وللولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص الأمر الذي قد يقلل من ترحيب بعض أبناء الدول النامية بفكرة المجتمع المدني .
وهنا نؤكد أن فكرة المجتمع المدني ليست فكرة غريبة أو مستوردة وليست ظاهرة غربية تماما أو ملكاً للتاريخ الأوروبي وحده، حيث كان لهذه الظاهرة جذور في تاريخنا الحضاري وعرفت الدولة العربية والإسلامية ظواهر شبيهة بالمجتمع المدني أدت نفس أدواره ووظائفه كحلقة وصل توسطت علاقة الحاكم بالمحكومين وإن اختلفت عنه في الأشكال والمسميات .
ولذا، فإنه لتطوير مجتمع مدني حقيقي في مجتمعاتنا لا يجوز أخذ موقف الرفض الكامل للفكرة ولا القبول الكامل والنقل الحرفي والتقليد الأعمى لأشكال التطبيق الغربي لها، وإنما علينا البدء بقبول ما يحمله المجتمع المدني من معاني سامية والاعتراف بأنها ضرورية وأننا في حاجة إليها مع السعي لإحياء الصور الأصيلة له والتي تنبع من تاريخنا وتستمد جذورها من تربتنا الوطنية دون أن يعني ذلك الانغلاق وإنما الاستفادة من كل ما تعطيه لنا التجربة الإنسانية العالمية من دروس لأن العولمة لا تعني إلغاء الاختلافات بين الحضارات أو تذويبها ، وإنما زيادة الحوار والتقارب بينها على أساس من الاحترام والتسامح المتبادل مع احتفاظها بخصوصيتها وهويتها الثقافية .
ساحة النقاش