رابعاً:المجتمع المدني والتحول إلى الديموقراطية
إذا تصورنا أن الدولة والمجتمع المدني دائرتان توجد بينهما منطقة التقاء وتداخل سنجد أن مساحة تلك المنطقة تختلف بحسب مدى ديموقراطية المجتمع والحكومة. فعندما تكون مساحة التداخل ضيقة، فإن ذلك يعني أن الحكومة لا تتدخل في شئون المجتمع المدني إلا في أضيق حدود، حيث يتسم تدخلها بالاحترام الكامل للحقوق والحريات في نفس الوقت الذي يفرض فيه المجتمع المدني الرقابة على تصرفات الحكومة ومساءلتها ومحاسبتها ، وفي هذه الحالة تزيد درجة التوازن والتقارب بين الجماعات المختلفة لما تتسم به من مساواة بينها في امتلاك موارد القوة والنفوذ .
أما الحالات التي تتسم باتساع مساحة التداخل بين الدولة والمجتمع المدني فإنها تعبر عن المجتمعات غير الديموقراطية التي تتوسع فيها الدولة على حساب الحريات والحقوق حيث تتدخل الحكومة بشكل صريح ومستمر في شئون المجتمع المدني الذي يتحول إلى جزء من جهاز الدولة وامتداد لها، وعندئذ تزداد الفجوة والفوارق بين الجماعات بينما تنفرد أقلية محدودة من وحدات المجتمع المدني بالقدرة على ممارسة التأثير السياسي والحفاظ على استقلاليتها عن الدولة لأنها تتفوق على غيرها في امتلاك موارد القوة والنفوذ .
أما أغلب الدول النامية فإنها تمر الآن بمرحلة انتقالية إلى الديموقراطية، ولذا يسودها نظام يطلق عليه تعددية مقيدة وليست كاملة أي أنها تسمح بهامش من الحريات ولكنها تضع شروطاً وقيوداً معينة على ممارستها. ومثل هذه المجتمعات تتغير فيها مساحة تدخل الدولة في المجتمع المدني، حيث تتضاءل وتضيق بصورة تدريجية، وهو ما يعني أن المجتمع المدني هو إحدى أدوات الانتقال إلى الديموقراطية وأن وجوده وقوته من أهم شروط الانتقال إلى مزيد من الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان .
فلا وجود لدولة ديموقراطية دون مجتمع مدني، ذلك أن هذا المجتمع هو أداة تحقيق الديموقراطية في أبسط معانيها بتوفير قنوات سلمية مفتوحة للتنافس على الوصول إلى السلطة و محاسبة الحكومة ومساءلتها من خلال المؤسسات والهيئات الأهلية والشعبية للدفاع عن حقوق المواطنين ووقف تعدي الدولة عليها .
وكما يسهم وجود المجتمع المدني في تحقيق الديموقراطية فإن العكس أيضاً صحيح حيث يؤدي تحقق الديموقراطية إلى بناء مجتمع مدني قوي تضمن الديموقراطية وقايته من الإصابة بأمراض الفساد أو الانتهازية إذا ما حاول كبار المسؤولين بالحكومة استغلال مراكزهم لتحقيق مصالح خاصة وأهداف شخصية على حساب المصلحة العامة، وبنفس الطريقة، يوفر المجتمع المدني درعاً واقياً ودواء معالجا لنفس المشكلات، وباختصار فإن كلاً من الديموقراطية والمجتمع المدني يعتبر سببا ونتيجة للآخر .
والمعروف أن استمرار الحكومة الديموقراطية يتوقف على درجة استجابتها لمطالب المحكومين وأن تقوم بمراجعة السياسات والقرارات في ضوء ردود فعلهم. وهنا تظهر ضرورة وجود مجتمع مدني يتوسط بين الدولة والمواطنين ويتم من خلاله توصيل هذه المطالب والشكاوى والالتماسات بما يؤدي ليس فقط إلى تحقيق الديموقراطية وإنما يضمن أيضاً استمرارها وتدعيمها لأن ما تضعه الحكومة من سياسات تحظى بقبول وتأييد المواطنين .
وكما هو واضح، تعد قوة المجتمع المدني شرطاً لتحقيق الديموقراطية كما تعد شرطاً ضروريا لنجاح التنمية، لكن أهمية المجتمع المدني لا تقتصر على ذلك فقط وإنما تتضح أيضاً في حالة الأزمات الكبرى تؤدى الى انهيار الدولة أو اختفائها .
خامساً:المجتمع المدنى وقت الأزمات
في حالات غياب الدولة أو اختفاء الحكومة تحت ظروف داخلية مثل الحرب الأهلية أو خارجية مثل التعرض للغزو أو الاحتلال يمكن للمجتمع المدني أن يحل محلها ويؤدي دور البديل لحين زوال الأزمة. ويكفي لفهم ذلك الاستعانة بنماذج من داخل عالمنا العربي .......
1 - لبنان :
كان نموذجا فريدا شهد دوراً فعالاً للمجتمع المدني في وضع نهاية لمأساة الحرب الأهلية التي استمرت في لبنان حوالي 16 عاما كاملة وخلفت وراءها آثارا مدمرة. فقد كان للمجتمع المدني الفضل الكبير في الحفاظ على حد أدنى من شعور اللبنانيين بمختلف طوائفهم بالانتماء إلى هوية واحدة وبالمواطنة بالرغم من حالة التردي والانهيار التي وصلت إليها الدولة في تلك الظروف وقد ضرب لبنان المثل على صمود المجتمع المدني وما قامت به المنظمات الشعبية وجمعيات الجيرة في ملء الفراغ المترتب على غياب الدولة حيث وجهت ما يقرب من 30% من تلك المنظمات جهودها إلى أعمال الإغاثة وتسكين المشردين مع تشكيل اللجان الشعبية لسد الحاجات اليومية للسكان كتأمين توفير السلع التموينية والخبز وتنظيم حملات النظافة ..الخ. بل إن الكثير من المنظمات غير الحكومية الطائفية تجاوزت عن خطوط الانقسام الطائفي وبدأت في تقديم خدماتها للمواطنين بغض النظر عن طوائفهم المختلفة .
2 - السودان :
وجهت معظم منظمات المجتمع المدنى نشاطها إلى تنفيذ برامج الإغاثة ولإعادة تأهيل المواطنين فى مواجهة مشكلات المجاعة والجفاف والفقر .
3 - الكويت :
استطاعت جمعيات تعاون المستهلكين القيام بدور بديل للدولة أثناء الاحتلال العراقي لأراضيها فوفرت خدمات الغذاء والصحة والتعليم والبريد والاتصالات والرفاهية .....الخ واتخذت من المساجد مقرات لتقديم المساعدات للمحتاجين .
4 - فلسطين :
كذلك يبرز دور المجتمع المدني في حالة النضال الفلسطيني حيث سبق قيامه زمنياً وجود الدولة. وقدمت كثير من المنظمات والهيئات المدنية نموذجاً لأروع صور المجتمع المدني القادرة على العمل والتأثير وملء الفراغ بين الفرد الفلسطيني وسلطات الاحتلال منذ عام 1967 .
5 - الصومال :
يمثل النموذج الصومالي منذ عام 1992 دليلاً آخر على خطورة الاستهانة بضعف المجتمع المدني أو غيابه وتفككه. فالاعتماد الكامل على الدولة وحدها أدى إلى الانهيار الكامل عندما اختفى دورها. وقد أفادت جميع الدراسات حول أسباب المجاعة في الصومال أنها كانت مشكلة توزيع في المقام الأول حيث تفككت الدولة دون وجود مجتمع مدني يوفر شبكة أمان للمواطنين ويعيد تجميع أجزاء دولته المتناثرة .
بعبارة أخرى يعد المجتمع المدني هو خط الدفاع الثاني عن كيان المجتمع بعد الدولة، وبمجرد تعرض الدولة لأزمة يحتل المجتمع المدني موقعها ويصبح هو خط الدفاع الأول عن بقاء المجتمع على قيد الحياة .
ساحة النقاش