منذ فجر التاريخ، كان الهم الأول للإنسان هو البحث عن أفضل الوسائل لإشباع احتياجاته المادية والمعنوية ومنها الحاجة للاجتماع بالآخرين كغريزة أساسية وتكوين مجتمع منظم يسوده التعاون فيما بين الأفراد والجماعات، وهو ما عبر عنه أبو الفلاسفة أفلاطون بقوله إن الإنسان حيوان مدني بطبيعته، حيث كان يقصد بكلمة مدني أن المدينة هي الشكل المثالي لتنظيم المجتمع الإنساني وتحقيق السعادة .
لكن هذه المثالية لم تتحقق في الواقع، حيث أدت زيادة أعداد البشر وتعقد المجتمعات مع قلة الموارد إلى نشوب الصراعات والحروب التي هددت الجميع بالفناء إن لم يجدوا وسيلة لتسوية الخلافات وتقسيم الموارد بشكل يقبله الجميع ويوفق بينهم. وكان ذلك وراء ظهور الحاجة إلى النظام والقانون وكذلك الحاجة إلى السلطة القادرة على وضعه ثم فرضه على الجميع تجنباً لأخطار الفوضى والدمار . وكانت الحاجة إلى الأمن والسلام هى أم الاختراع الذي أوجد السلطة القادرة على تنظيم الجماعة الإنسانية، وبدأت منذ ذلك الوقت قصة كفاح الإنسان بحثاً عن الأسلوب الأمثل لتنظيم العلاقات الاجتماعية والشكل المثالي للسلطة الذي يضمن تحقيق الخير والسعادة والفضيلة .
وكانت الأسرة هي النواة الأولى للمجتمع المنظم في مراحل الحياة البدائية البسيطة، حيث سادها التعاون الغريزي وانتمى لها الفرد على أساس رابطة الدم وصلة الرحم والقرابة. وتحدد في ظلها دوره بحسب سنه وصفته وهل هو أب أم ابن أم زوج، ثم اتسع نطاق الأسرة وانضمت إليها عائلات جديدة بروابط المصاهرة فتشكلت القبيلة ثم العشيرة التي تضم مجموعة قبائل . ويمتلك السلطة فيها الشيوخ والعجائز الأكبر سناً. ولكن رابطة الدم لم تعد هي الأساس الوحيد للانتماء في المجتمع، حيث ظهرت روابط أوسع: دينية أو مذهبية أو طائفية . وهكذا، كانت المجتمعات الإنسانية تنقسم على أسس طبيعية لا يد للفرد في اختيارها فهو يجد نفسه منتمياً إلى عائلة وقبيلة وعشيرة معينة بحكم ميلاده.
ومع تعقد المجتمعات وتزايد الأعداد لم تعد هذه المجتمعات الطبيعية تنعم بالاستقرار والأمن. فقد بدأ الأفراد يتحيزون لمصالحهم الخاصة ويسعون لتحقيقها ولو على حساب الآخرين. ولم تعد القواعد العرفية والمبادئ الأخلاقية قادرة على حل ما بينهم من صراعات، وظهرت الحاجة الملحة إلى وضع القوانين في شكل نصوص مكتوبة والحاجة إلى سلطة تتولى فرضها وإلزام الجميع بها.
وفي العصور الوسطى لعبت السلطة الدينية هذا الدور، فكانت الكنيسة في أوروبا هي صاحبة السلطة في فرض النظام والقانون، ولكنها ما لبثت أن ادعت أنها تملك سلطة مقدسة مستمدة من الإرادة الإلهية. وتمادت في ممارسة القهر والكبت ضد الحريات، مما أغرق المجتمع الأوروبي في ظلام التخلف والجمود طوال العصور الوسطى في ذات الوقت الذي عاشت فيه الحضارة الإسلامية والعربية أزهى عهودها وعرفت أولى صور الدولة بمعناها الحديث كمجموعة مؤسسات واضحة ذات وظائف محددة .
ومع بزوغ القرن السابع عشر دخلت أوروبا عصر التنوير المعروف بعصر النهضة، حيث بدأ الانتقال من اقتصاد الإقطاع الزراعي إلى الصناعة. وارتبطت الثورة الصناعية واختراع الآلة بحركة هجرة السكان من الريف إلى المدن وانتقال العامل من المنزل أو الورشة إلى المصنع الكبير، الذي يضم أعداداً كبيرة من العمال، فأصبحت هناك طبقتان إحداهما تعمل لدى الأخرى التي تمتلك رأس المال وبدأ التعارض يتضح بين مصالح العمال وأصحاب المصانع .
كذلك ارتبط هذا الوضع الاقتصادي الجديد بظهور حق الملكية الخاصة وهو ما دفع كل مجموعة من الأفراد إلى تأسيس نقابات واتحادات ومنظمات للدفاع عن حقوقهم ومصالحهم الخاصة والمشتركة. وأصبحت هذه الروابط تحظى بولاء وانتماء عدد كبير من الأفراد بغض النظر عما يوجد بينهم من اختلافات في روابط طبيعية كالقرابة والدين والجنس واللون والطائفة.....الخ .
وفرض سؤال جديد نفسه : ما هي العلاقة بين الجماعات المعبرة عن مصالح خاصة لأعضائها والدولة المعبرة عن المصلحة العامة للمجتمع ككل ؟ وهل هناك مجال وسط للالتقاء بينهما؟ هنا، جاء المجتمع المدني كحلقة وصل بين هذين المجالين.
فالمجتمع المدني هو أحد أشكال تنظيم المجتمعات بما يحقق التعاون بين الأفراد والجماعات في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بهدف حماية حقوق ومصالح الفئات المتنوعة والتوفيق بينها ، بما يضمن أعلى درجة من المساواة فيما بينها . وهو يعتمد في ذلك على وسائل مستقلة بعيدة عن تدخل الحكومة وسيطرتها على أساس الاحترام المتبادل والموازنة بين المصالح الخاصة والمصلحة العامة للمجتمع ككل.
ساحة النقاش