ارتبطت ظاهرة المجتمع المدني في نشأتها وتطورها في المراحل اللاحقة لعصر التنوير بتاريخ نضال الشعوب من أجل الديموقراطية والحرية والمساواة. كما عبرت عن أفضل وسيلة لعلاج التعارض الظاهري بين حاجة الإنسان إلى الحرية وحاجته إلى الأمن والنظام. فالسلطة التي جسدتها الدولة ارتبطت في التاريخ بممارسة ألوان من الاستبداد والقهر والظلم والتعدي على حقوق شعوبها بحجة حماية المجتمع من الفوضى والحروب وتسببت عهود حكم الملوك المستبدين في أوروبا في حدوث ثورات شعبية طالبت بالديموقراطية واحترام حقوق الإنسان .
وهنا، ظهرت الحاجة إلى تأسيس منظمات وتجمعات للدفاع عن تلك الحقوق في مواجهة الحكام المستبدين بما يعيد التوازن الذي سبق وأن تعرض للاختلال بين الحرية والنظام. وتمثلت تلك المنظمات في الجمعيات والمنظمات غير الحكومية والنقابات والتي أخذت صورة كيانات مستقلة عن الدولة. فلولا الاستقلال لما تمكنت من الحد من التسلط والاستبداد الحكومي ووقف اعتداء السلطة على حقوق الأفراد والجماعات .
وهكذا، حدث التطور في معنى المجتمع المدني من وسيلة للتنظيم تهدف إلى الحفاظ على المصالح الخاصة فقط إلى وسيلة لحماية الحقوق والحريات في مواجهة الدولة .
ولكن هل معنى ذلك أن المجتمع المدني في صراع دائم مع الدولة ؟
الحقيقة أن هذا غير صحيح، فالمجتمع المدني يتعارض فقط مع الدولة المستبدة غير الديموقراطية. ولكن الدولة لا تسعى بالضرورة لتقييد الحريات أو كبتها، وإنما هي في الأصل جاءت كوسيلة ابتكرها الإنسان للحفاظ على كيان المجتمع وتحقيق النظام. ولذا فإنها لها وجهها الإيجابي المتمثل فى دورها سعيا للآرتقاء بالمجتمع كالتنمية الاقتصادية وحماية الهوية الحضارية والثقافية .
هذه الغايات العامة يتطلع إليها أي شعب، وقد يقبل الأفراد التضحية ببعض مصالحهم الخاصة في سبيلها. ولكن للوصول إلى هذا القبول يحتاج المجتمع إلى الدخول في حوار يتم فيه تبادل وجهات نظر الفئات المختلفة وصولاً إلى حل وسط . فكيف يتم هذا الحوار ؟هنا يأتي دور مؤسسات المجتمع المدني التي توفر قنوات وسيطة يتم من خلالها الحوار بشكل منظم في سلام دون أن يشعر أي طرف بحاجته للجوء إلى العنف .
والآن، هل يمكننا تحديد تلك المعاني المتعددة التي تحملها كلمة مجتمع مدني ؟ يمكن القول أن المجتمع المدني هو رابطة اجتماعية تقوم على الاختيار الفردي يدخل فيها الأفراد طواعية دون إجبار ويتقدمون إلى التنظيمات القائمة بطلب الانضمام إلى عضويتها بإرادتهم الحرة التي تجعلهم يلتزمون بمبادئها ويسهمون بجد في أنشطتها .ووجود هذه الرابطة الاجتماعية يحقق للمجتمع ككل مزيداً من الاستقرار والسلام والأمن، كما يضمن وضع حدود لتقييد سلطة الدولة ومنعها من الاستبداد .
وهذا الشكل من التنظيم الاجتماعي يتكون من مجموعة من المؤسسات المتنوعة دينية وتعليمية ومهنية وسياسية وثقافية، كالنقابات والاتحادات العمالية والمهنية والجمعيات الأهلية، وكذلك الخيرية والأحزاب السياسية ......الخ والتي تسودها قيم ومبادئ التسامح وقبول الآخر والحوار السلمي واحترام الحرية والخصوصية الفردية. وتقوم تلك الهيئات والمؤسسات بممارسة دور الرقيب على تصرفات الحكومة إزاء الأفراد والجماعات ثم محاسبتها وسؤالها .
أضف إلى ذلك، أن المجتمع المدني هو مجال مستقل للحركة متروك للمواطنين يتمتعون في ظله بالحرية في تنظيم حياتهم بعيدا عن تحكم الدولة أو سيطرتها، وأنه يشتمل على منظمات مستقلة مفتوحة أمام المواطنين للانضمام إليها بهدف خدمة مصلحة أو قضية أو التعبير عن رأي مشترك بوسائل سلمية تقوم على احترام حق الأفراد والجماعات الأخرى في أن تفعل نفس الشئ. فالتأسيس يقوم على الحرية والاستقلال والاختيار الإرادي للفرد، والنشاط يقوم على التطوع والعمل العام والأهداف هي مصالح أو قضايا أو حقوق مشتركة، والوسائل سلمية. أما التنظيم فهو يعبر عن بلوغ المجتمع درجة أعلى من الرقي بحيث لم يعد إطار الانتماء قاصراً على الروابط الأولية الموروثة التي ليس للإنسان دخل في اختيارها وإنما تفرضها عليه أقداره بحكم الميلاد. وصار الانتماء يعبر عن رابطة اختيارية يدخلها الفرد طوعاً بإرادته الحرة، وهو ما يعني أن الحياة الاجتماعية تحولت من مسألة قدرية يستسلم لها الفرد ولا يملك تغييرها، إلى قرار واختيار. وهذا هو حق الإنسان في تقرير مصيره .
ويعد اتخاذ قرار الانضمام إلى عضوية إحدى الجماعات بداية المشوار وليس نهايته، حيث يعقبه المشاركة في كل ما يتعلق بالشئون العامة للمجتمع. ويصبح الفرد قوياً وهو عضو في جماعة لأنه صار يمتلك قدرة أكبر على التأثير في مجريات الأمور من حوله، عندما أصبح شريكاً في صنع القرارات سواء على مستوى الجماعة أو على مستوى المجتمع ككل بعدما امتلك أحقية مساءلة الحكومة ومحاسبتها .
وكما ذكرنا من قبل حول علاقة المجتمع المدني بالديموقراطية، فإن ديموقراطية أي مجتمع تتوقف على مدى وجود مجتمع مدني بالمعنى المذكور. فهو أصدق مقياس لحقيقة الديموقراطية لأن وجود المجتمع المدني يضمن دفع الحكومة للاستجابة لما يقدمه لها الأفراد والجماعات من مطالب تعبر عن احتياجاتهم ورغباتهم في تحقيق نوعية حياة أفضل. ولكن لكي يتحقق ذلك لابد أولاً أن يتوافر المواطن الإيجابي الذي يكون لديه اهتمام بالشئون العامة واستعداد لممارسة العمل العام المستقل .
ولكن لا ينبغي أن يقودنا هذا المعنى للمجتمع المدني الذي يؤكد على الاستقلال والحرية وحماية الحقوق إلى الاعتقاد بتناقض دوره مع دور الحكومة. فالصحيح أنه مثله مثل الدولة ليس إلا ظاهرة تهدف إلى تنظيم العلاقات الاجتماعية والسياسية، وهو بذلك يشارك الدولة في غايتها الأساسية، ويضع القواعد الحاكمة لسلوك الأفراد والجماعات بحيث يتم التوفيق بينهم رغم مطالبهم ومصالحهم المتعارضة عن طريق توفير الوسائل السلمية للتعبير عنها، ثم تجميعها ووضعها في شكل بدائل أمام السلطة الحاكمة لتحقيق أعلى درجة من التوازن بين الحقوق والواجبات بما يحفظ كيان المجتمع ككل. فوحدات المجتمع المدني ليست إلا أدوات اتصال تتوسط علاقة الجماعات المختلفة ببعضها البعض كما تتوسط علاقة الحكومة بالمحكومين .
وكما هو واضح، فإنه للقول بوجود مجتمع مدني بمعنى الكلمة لابد أن تتحقق مجموعة من الشروط والصفات. فما هي تلك الصفات التي تعد خصائص مميزة لهذا المجتمع مقارنة بغيره من أشكال التنظيم الاجتماعي الأخرى، وما هى وظائف هذا المجتمع ؟ هذا هو موضوع الفصل الثانى.
ساحة النقاش