2 -
التنوع كمصدر ثراء للحياة :
وتقوم الفكرة وراء اختيار التعاون كطريق لتحسين ظروف البشرية على الاعتقاد بأن كل فرد وكل جماعة بشرية لديها ما تساهم به في مسيرة التقدم الإنساني العريضة، وأن الإثراء الناتج عن تبادل الثقافات والمعارف والأفكار والتقاليد يمكن أن يؤدي إلى تعظيم الفائدة العائدة على الجميع، كما أن من شأنه أن يجعل الحياة الإنسانية أكثر خصبا وإمتاعا وتشويقا. وليس من الصعب علينا أن نتخيل كم ستكون الحياة فقيرة ومملة ومحدودة لو أن البشر جميعا كانوا متشابهين: لهم نفس اللون والملامح، كما لهم نفس الثقافة، فيتحدثون نفس اللغة، ولهم نفس العادات والتقاليد.
وحتى بدون أن ندري ودون أن نفكر كثيرا في مزايا التنوع البشري، فإن كل منا يشعر بقيمة وفائدة التنوع، ويسعى لزيادة تمتعه بالحياة عن طريق التعرف على هذا التنوع، وربما تعلم كل منا أيضاً بعضا من ثقافات أقوام أخرى، والاستفادة منها في حياته اليومية. ويمثل هذا الإيمان الإنساني القوي بمزايا التنوع أحد الأسباب الرئيسية المحركة للسياحة العالمية. فالسياح الذين يتكبدون عناء السفر بين البلاد القريبة والبعيدة، ويتحملون في سبيل ذلك الجهد والمال، فإنهم عادة ما يكونوا مدفوعين بالرغبة للتعرف على حياة وتاريخ وثقافة شعوب أخرى. فمجرد رؤية أشكال مختلفة للحياة والمجتمع يمثل مصدرا للمتعة، وبالتأكيد فإنه يمثل مصدرا ثمينا للخبرة الإنسانية. وأظن أن كلا منا يدرك هذه القيمة. فخبرات البعض منا الذين كان لهم حظ السفر لخارج البلاد هي بالتأكيد أوسع من خبرات أقرانهم الذين لم تتح لهم هذه الفرصة. ومن منا لم يلحظ الشغف الذي يبديه الناس للاستماع إلى حكايات العائدين من السفر، والتقدير الواضح الذي يبديه الناس للخبرات التي أصبحت لدى أمثال هؤلاء نتيجة للسفر والانتقال والتعرف على حياة شعوب أخرى. فالتعرف على ثقافات الآخرين هو مصدر للمتعة، كما أنه مصدر للمعرفة والخبرة، بل واكتساب المكانة، بسبب التمييز الذي يجريه الناس بين الذين يعرفون والذين لا يعرفون.
ولا تقتصر منافع التعامل مع التنوع عن طريق التعاون على العلاقات بين الدول، وإنما تمتد لتشمل أيضا العلاقات بين الجماعات الثقافية المختلفة سواء داخل الدولة الواحدة، أو عبر حدود الدول المختلفة. وفي الحقيقة فإنه لا يوجد ثقافة أو جماعة تستطيع أن تستغني عن مثل هذا التعاون، بدعوى أنها مكتفية بذاتها، وليس لديها حاجة للاستفادة من تجارب وخبرات الآخرين. على العكس فإنه يمكن القول أن الشعوب والثقافات يمكنها أن تكتسب مكانة متميزة في العالم بقدر ما يمكنها التفاعل الخلاق والاقتباس من الثقافات الأخرى في العالم. فالظروف التي تعيشها أي جماعة أو أمة معينة تجعلها مؤهلة لإبداع خاص في مجال من المجالات لا تستطيعه أمم وجماعات أخرى، فيكون في اتصال الأمم وتعارفها منفعة للجميع، يسهم كل منها فيها حسب ما تتيحه له ظروفه. على العكس من ذلك، فإن الثقافة التي تختار الانغلاق على نفسها إنما تفوت على نفسها فرصة التطور والنماء، فيكون حالها في هذا مشابهـا لحال القبيلة أو العائلة التي تفرض على أبنائها وبناتها الزواج من بعضهم البعض، بحيث يكون مصير هؤلاء الذين يتجرأون على الزواج من خارج الجماعة الطرد والعزل. ويقول لنا علماء الوراثة والأطباء أن مثل هذه الجماعات والقبائل تعاني من تدهور مستمر في صفاتها الوراثية، لأن زواج الأقارب يؤدي إلى زيادة فرصة ظهور الصفات السلبية، بحيث أنه بينما تسير البشرية سيرا مستمرا نحو التقدم والرقي، فإن مثل هذه الجماعات والقبائل تتقدم باستمرار في اتجاه عكسي، ومثل هذا يكون حال الجماعات التي تنغلق على نفسها رافضة التعامل مع الآخرين.
وربما كانت هذه هي الحكمة من الآية الكريمة يا إيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا (الحجرات 13). بل أن التنوع والتعدد الذي أراده الله سُنَة وطبيعة للحياة البشرية لم يقتصر على الثقافات وطرائق الحياة، وإنما امتد ليشمل الدين والإيمان بالله. يقول تعالى ولو شاء ربك لآمن من في الأرض جميعا، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين (يونس 99). أكثر من هذا فإن الله اعتبر التنوع بين البشر من آيات قدرته، فيقول عز وجل ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم (الروم 22). وكأن من يتغافل عن هذا التنوع الرائع يتغافل عن آية من آيات الله، أو كأن من يحب لهذا التنوع أن يختفي إنما يريد أن يقضي على واحدة من آيات الله.
فالله اختار للناس التنوع لأن في هذا خيرا لهم، وربما كانت الحكمة وراء هذا هي تأكيد أهمية التلاقح بين الثقافات والتعاون بين الناس، وكأن من يقاومون هذا التنوع والتعدد الإنساني محاولين فرض ثقافة واحدة على كل البشرية، إنما لم يدركوا حكمة الله في خلقه، أما هؤلاء الذين يتمنون أن يجدوا أوطانهم وقد تخلصت من الأقليات الثقافية والعرقية التي تعيش فيها، فإنهم، ودون قصد ، يعملون على حرمانها من عوامل الإغناء والإثراء التي تزيد فرصتها في التقدم، في الوقت الذي يتقدم فيه العالم بسرعة غير مسبوقة بفضل التعاون والإثراء المتبادل الخلاق بين الجماعات والشعوب المختلفة.
ولا يوجد دليل على فائدة التلاقح الثقافي وقدرته على الإسهام في تقدم الشعوب والإنسانية جمعاء خيرا من الخبرة العربية الإسلامية. فقد قام العرب بحمل لواء الإسلام ونشره بين شعوب العالم القديم في الأقاليم المحيطة بموطن الإسلام الأول في شبه الجزيرة العربية. وقد أتاح الدين الحنيف للعرب قوة إيمان وحماسة لم يعهدوها من قبل، حتى أنهم تغلبوا على إمبراطوريات وحضارات عريقة كانت تفوقهم في مستوى التقدم والرقي. وكان للعرب بإيمانهم بدينهم والانتصارات التي حققوها أن ينحوا نحو احتقار الحضارات التي تمكنوا من الانتصار عليها، كما كان لهم أن يظنوا أن آخر الرسالات السماوية تغنيهم عن التعلم من حضارات الشعوب الأخرى. غير أن أيا من هذا لم يحدث، وانفتح العرب على ثقافات الشعوب الأخرى، ولم يستكبروا أن يتعلموا منها ويأخذوا عنها كل ما تستطيع أن تقدمه لهم.

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 119 مشاهدة

ساحة النقاش

mowaten
يأتى الربيع العربى للثورات بمتطلبات ضرورية لعل من اهمها هو نشر التوعية السياسية بين المواطنين بوطننا العربى لارساء وتهيأة البيئة للعيش فى جو ديمقراطى طالما حلمنا به »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

284,150