لنا الآن أن نتخيل كم سيكون العالم وحشيا وقاسيا إذا انغلقت كل دولة أو كل جماعة قومية أو دينية أو كل قبيلة على نفسها وقررت أن تتعامل مع الآخرين باعتبارهم أعداء يجب محاربتهم لمجرد كونهم مختلفين؟ الأرجح أن العالم سيصبح في مثل هذه الحالة غابة كبيرة يحارب فيها الجميع ضد الجميع، فتتحارب الدول مع الدول، كما تتحارب في داخل كل دولة كل جماعة مع كل جماعة أخرى، بكل ما للحرب من آثار مدمرة على حياة البشر والمجتمعات وعلى تهديد إمكانات الازدهار والرخاء الاجتماعي والفردي.
ولحسن الحظ أن البشرية قد اكتشفت منذ فترة ليست قصيرة فائدة التعاون بين الجماعات المختلفة، وبالتالي فإنها عرفت فائدة التنوع والتعدد. ويمكن أن نجد أثرا لهذا الاتجاه في مجال العلاقات بين الدول، كما يمكن أن نجده في مجال العلاقات بين الجماعات المختلفة في داخل الدولة.
1 - أوروبا من التعصب الى التسامح :
لعل الاتحاد الأوروبى هو أشهر مثال لإمكانية تحويل العلاقات بين الدول من الصراع والعداء إلى التعاون المبني على احترام التعدد وقبول الآخر. فلعدة قرون اتسمت العلاقات بين الدول الأوروبية بالتنافس الحاد الذي وصل عدة مرات إلى مستوى الحرب. ودون حاجة للرجوع إلى تاريخ أوروبا القديم الذي شهد العشرات من الحروب التي راح ضحيتها الملايين من البشر، فإن تاريخ أوروبا في القرن العشرين شهد حربين أوروبيتين كبيرتين، سميتا بشكل غير دقيق بالحربين العالميتين الأولى والثانية. فقد بدأت الحرب في المرتين داخل أوروبا، وكانت أطرافها الرئيسية أطرافا أوروبية، واستمرتا هكذا لوقت طويل، ولم تتورط القوى غير الأوروبية - خاصة الولايات المتحدة- فيهما إلا في مرحلة متأخرة. صحيح أن ساحة القتال شملت بلادا ومناطق خارج القارة الأوروبية، إلا أن ذلك لا ينفي عن الحرب صفتها الأوروبية بحكم طبيعة أطرافها وأهدافهم، التي كانت تتركز في الصراع على النفوذ داخل أوروبا ذاتها.
لقد بلغت الحرب العالمية الأولى مستوى غير مسبوق من القسوة والعنف، حتى أنها أسفرت عن مقتل 8.5 مليون جندي، وجرح 15.5 مليون جندي آخر. أما بين المدنيين، فقد بلغ مجموع عدد القتلى والجرحى أكثر من 17 مليونا. وقد مات بعض من هؤلاء عن طريق الإصابة بالغازات السامة التي تم استخدامها في هذه الحرب لأول مرة.
أما الحرب العالمية الثانية فقد تفوقت على سابقتها من حيث عدد الضحايا. فقد سقط من بين الجنود في هذه الحرب 15 مليونا من القتلى و26.5 مليون من الجرحى. أما بين المدنيين، فقد بلغ عدد القتلى 25 مليونا، بينما تجاوز عدد الجرحى أربعين مليونا. وقد مات بعض من هؤلاء بسبب تعرضهم للقصف بالأسلحة النووية التي تم استخدامها في هذه الحرب لأول مرة، ففي السادس من أغسطس عام 1945 قامت الولايات المتحدة بإسقاط أول قنبلة نووية في التاريخ على مدينة هيروشيما اليابانية، فقتلت على الفور 92 ألفا من سكان المدينة البالغ عدد سكانها 230 ألفا، أي أن 40% من سكان هيروشيما فقدوا حياتهم بقنبلة واحدة، بينما تعرض للتشويه أكثر من 100 ألف آخرين من سكان المدينة، التي تحولت تماما إلى حطام، بسبب قوة الانفجار ودرجة الحرارة المرعبة التي أدت إلى انصهار كل الأجسام المعدنية بالمدينة، بما في ذلك الكباري.
ولنا أن نتصور حجم الضحايا والدمار إذا استمرت البشرية على تعصبها وضيق أفقها، وفشلت في تعلم أي شيء من خبراتها، وقررت خوض حرب عالمية ثالثة في ظل التزايد المخيف في الطاقة التدميرية للأسلحة المختلفة وتحسين دقة تصويبها وتطوير أنواع وأجيال جديدة من أسلحة الدمار الشامل. ولتجنب هذا المصير الكارثي المؤلم، لم يكن أمام أبناء وقادة القارة الأوروبية سوى التعامل بطريقة مختلفة تماما مع مشكلة العلاقات بين الدول الأوروبية، فكان إحلال التعـاون محل الصراع هو الحل، وكان تأسيس الاتحاد الأوروبي هو نتيجة هذه المسيرة.
بدأت مسيرة الاتحاد الأوروبي في عام 1951، في شكل المنظمة الأوروبية للفحم والصلب، التي ضمت فى عضويتها ست دول هي فرنسا وألمانيا وإيطاليا وهولندا وبلجيكا ولوكسمبرج، وهي نفس الدول التي سبق لها أن خاضت ضد بعضها حربين عالميتين. وكانت مشاركة فرنسا وألمانيا في بناء هذا التجمع واحدة من أهم ما أبدعته أوروبا من أساليب حل الصراع، بعد أن سئمت الحروب وما تخلفه من دمار. فقد كان التنافس بين هذين البلدين، وسعي كل منهما للفوز بمكانة الدولة الأكبر في أوروبا سببا في أهم الحروب التي خاضتها دول القارة. فبدلا من أن يظل النمو الاقتصادي، خاصة في صناعـات الفحم والصلب وثيقة الصلة بالاستخدامات العسكرية، في أي من البلدان الأوروبية سببا في شعور الدول الأوروبية الأخرى بالتهديد لما قد يترتب عليه من إخلال بميزان القوى العسكري بين دول أوروبا، فإن النمو في أي من البلدان الأوروبية أصبح يمثل مصلحة مشتركة يستفيد منها الجميع، بحيث أصبح تحسن الأحوال الاقتصادية في إحدى البلدان الأوروبية يمثل قوة دفع لتحسن الأحوال الاقتصادية في البلاد الأوروبية الأخرى.
ومنذ ذلك اليوم لم تتوقف مسيرة تقدم التكامل الأوروبي، ففي عام 1958 تحولت منظمة الصلب والفحم إلى الجماعة الاقتصادية الأوروبية، التي استهدفت تحقيق التكامل الاقتصادي بين أعضاء الجماعة، كما تنوعت الأجهزة والمؤسسات التي تدير الكيان الناشئ، فتم إنشاء الجمعية الأوروبية كنواة للبرلمان الأوروبي، والمفوضية الأوروبية والمجلس الوزاري. ومنذ عام 1967 تم دمج جميع هذه المؤسسات في كيان واحد هو الجماعة الاقتصادية الأوروبية. ومنذ عام 1972 اتفقت الدول الأعضاء على عقد اجتماع دوري لوزراء خارجية الدول الأعضاء مرة كل ستة شهور، فتأسست آلية أوروبية لصنع القرارات والسياسات، وهي الآلية التي أثبتت فاعليتها في صياغة مستقبل القارة الأوروبية. ومنذ عام 1979 تم الأخذ بأسلوب الانتخاب المباشر من جانب مواطني الدول أعضاء الاتحاد لاختيار أعضاء البرلمان الأوروبى ، الأمر الذي أكد الطبيعة الديمقراطية للاتحاد الأوروبي.
ومنذ عام 1973 بدأت مسيرة توسيع الاتحاد الأوروبي، فانضم إليه في ذلك العام كل من بريطانيا وأيرلندا والدانمرك، واستمرت عضوية الاتحاد في الاتساع حتى وصلت الآن إلى خمسة عشر عضوا، بعد أن انضم إلى عضويته كل من أسبانيا والبرتغال واليونان والنمسا والسويد وفنلندا، وهو العدد المرشح للتزايد بعد قرار الاتحاد الأوروبي بقبول عدد كبير من دول الكتلة الشيوعية السابقة بالإضافة إلى تركيا وقبرص ومالطا كأعضاء مرشحين لعضوية الاتحاد الأوروبي.
وبكل المعايير فإن الاتحاد الأوروبي يعد الكيان الاقتصادي الأكبر في عالم اليوم، ففي عام 1997 بلغت نسبة مساهمة الاتحاد الأوروبي في الصادرات العالمية 38.15%، بالمقارنة بنسبة 12.46% للولايات المتحدة، و7.61% لليابان، و3.1% للصين. أما بالنسبة للواردات فقد بلغ نصيب الاتحاد الأوروبي منها ما نسبته 38.7%، بالمقارنة بنسبة 16.82% للولايات المتحدة، و5% لليابان، و2.5% للصين.
ساحة النقاش