لقد عاش العالم طوال الحقبة التي تلت الحرب العالمية الثانية وحتى تفكك الاتحاد السوفيتي السابق في عام 1991، في ظل نظام اتسم بتنافس دولتين كبيرتين -هما الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي- من أجل كسب القوة والنفوذ في العالم. وقد سُمي النظام الدولي في تلك الحقبة بنظام القطبية الثنائية لأن العامل الرئيسي الحاكم لطبيعة العلاقات الدولية وتطوراتها طوال تلك المرحلة كان هو التنافس بين القطبين الكبيرين، أو الدولتين العظميين، اللتين فاقت القوة المتاحة لكل منهما القوة المتاحة لأي دولة أخرى بمرات عديدة.
وهنا علينا أن نلاحظ أمرين: الأمر الأول هو أنه ليس من قبيل المصادفة أن كلتا الدولتين العظميين قامتا على مجتمعين تعدديين ، حيث قام المجتمع في كل منهما على التعايش بين عدد كبير من الشعوب والجماعات القومية والعرقية والدينية. فقد تكون الاتحاد السوفيتي السابق من ست عشرة جمهورية، مثلت كل منها قومية قائمة بذاتها. وفي داخل أغلب هذه الجمهوريات كان يوجد إلى جانب القومية المهيمنة عدد آخر من القوميات والجماعات الأولية الأصغر عددا. ومع أن القومية الروسية كانت هي الغالبة في الاتحاد السوفيتي، فإن نسبة أبناء القومية الروسية لمجموع سكان الاتحاد السوفيتي لم تزد عن 53%، بينما مثلت شعوب أوكرانيا وأوزبكستان وكازاخستان وروسيا البيضاء أكبر الأقليات، تلتها في ذلك شعوب أذربيجان وجورجيا وطاجيكستان ومولدوفا وقرجيزستان وأرمينيا، بالإضافة إلى عدد كبير من الأقليات الصغيرة جدا من الشعوب التتارية مثل الشيشان والأنجوش واليهود والبولنديين والألمان.
وبالرغم من الاختلاف الكبير بين الأوضاع في الولايات المتحدة ومثيلتها في الاتحاد السوفيتي، إلا أن أحد أهم عناصر التشابه بين البلدين هو التعددية العرقية والثقافية فيهما. فالجسد الرئيسي للمجتمع الأمريكي يتكون من الأمريكيين ذوي البشرة البيضاء من ذوي الأصول الأوروبية، والذين تبلغ نسبتهم حوالي 75% من مجموع السكان. وإلى جانب هؤلاء يوجد أقليات كبيرة، أهمها الأقلية السوداء التي تبلغ نسبتها 12.1%، والأمريكيين من مهاجري أمريكا الجنوبية المتحدثين باللغة الأسبانية، والذين تبلغ نسبتهم 9% من السكان، والآسيويين بنسبة 2.9%، وأخيرا السكان الأصليين من الهنود والإسكيمو بنسبة 0.8%، أما القسم الصغير الباقي فيتوزع بين سكان ترجع أصولهم إلى مناطق مختلفة من العالم.
وفي داخل كل جماعة توجد انقسامات فرعية إضافية، خاصة في أوساط الأمريكيين من ذوي الأصل الأوروبي والآسيويين. فبين البيض الأمريكيين، تتمتع جماعات أولية معينة بدرجة أعلى من التماسك والتعبير عن الذات والحضور في الحياة الثقافية والسياسية، وأهم هذه الفئات الأولية هي الأمريكيين من أصول أيرلندية وإيطالية ويونانية. بينما ينقسم الآسيويون على أساس الموطن الأصلي، فنجد الصينيين والكوريين واليابانيين.
أما من الناحية الدينية، فإننا نجد البيض الأمريكيين ينقسمون إلى أغلبية تتبع المذهب البروتستانتي، وتبلغ نسبتها 61% من مجموع السكان، يليهم الكاثوليك الذين تبلغ نسبتهم 25%، واليهود بنسبة 2%. أما النسبة الباقية فتتوزع بين 7% من غير المؤمنين بأي ديانة، و5% أخرى تضم أتباع عدد كبير من الديانات الأصغر عددا، منها الإسلام والبوذية والهندوسية.
ويوجد في العالم العربي أمثلة كثيرة لمجتمعات تعدديـة يتنوع فيها السكان على أساس الانتماء الثقافي والعرقي والديني. ففي العراق ذى الثلاث وعشرين مليون نسمة، ينقسم السكان بين عرب يمثلون 80% من السكان، وأكراد يمثلون 15% من السكان، بينما تتوزع الخمسة بالمائة الباقية بين جماعات قومية صغيرة مثل التركمان والسريان والآشور. أما من حيث الديانة، فنجد الشيعة يمثلون حوالي 60% من السكان، بينما يمثل أهل السنة حوالي 37% من مجموع العراقيين، وتتوزع الثلاثة في المائة الباقية بين المسيحية وديانات أصغر مثل الزيدية والصابئة. وكما هو واضح من هذه البيانات، فإن أكراد العرق، يشاركون قسما من عرب العراق في إتباع المذهب السني، في الوقت الذي يمثل فيه الشيعة الجماعة الدينية الأكبر بين أهل العراق المتحدثين بالعربية.
ويوجد في لبنان مثال آخر للتنوع البشري. فمن بين سكان لبنان البالغ عددهم 3.5 مليون نسمة، يوجد 95% من العرب، و 4% من الأرمن، أما النسبة الباقية فتتوزع على عدد من الفئات صغيرة العدد. ومن الناحية الدينية ينقسم لبنان إلى 60% من المسلمين، الذين تزيد نسبة المسلمين الشيعة فيهم عن 60%، و 40% من المسيحيين الذين يتوزعون على 17 طائفة، أكبرها هي الطائفة المارونية.
وفي الجوار القريب جدا يوجد نموذج، وإن كان مصغرا للحالة الهندية. ففي السودان الذي لا يزيد عدد سكانه عن الخمسة وثلاثين مليون نسمة، يوجد العشرات من الجماعات الأولية. وبينما يظن الكثير من الناس أن الانقسامات في السودان تقتصر على الانقسام بين الشمال العربي المسلم، والجنوب الأفريقي المسيحي، فإنه لا يوجد شيء أبعد عن الحقيقة من هذه الصورة التبسيطية. فمن الناحية العرقيـة، يتنازع السودان السلالات الزنجية من الجنوب والسلالات القوقازية من الشمال، ويعتبر خط العرض 12 درجة هو الحد التقريبي الفاصل بين الجماعتين، ومع هذا فإن علينا أن نلاحظ أن هذا التقسيم هو مجرد تقسيم تقريبي لتبسيط الصورة. فبعض القبائل غير الزنجية - مثل قبائل البقارة التي تعيش في غرب السودان- تعيش جنوب هذا الخط، كما أن أكثر من مليونين من الجنوبيين الزنوج قد هاجروا إلى شمال خط العرض 12، وتركز القسم الأكبر منهم في العاصمة الخرطوم وحولها.
و داخل كل من هاتين المجموعتين الكبيرتين يوجد مئات من الجماعات الفرعية. فالعرب هم الفئة الأكبر بين السودانيين من السلالات القوقازية، وينقسم هؤلاء بدورهم إلى عدة قبائل، أهمها قبائل الجعليين، التي تتركز في شمال الخرطوم، وتضم قبائل الجوابرة والبديرية والشايقية والبطاين والجوامعة. وهناك أيضا قبائل الجهنيين، والتي تضم قبائل الحوازمة والعبدلاب والشرية والزريقات والحبانية والحمر والتعايشة والكبابيش. وتنقسم كل قبيلة من هؤلاء بدورها إلى قبائل أصغر وإلى بطون وبدنات ربما تتصارع أحيانا فيما بينها.
أما في جنوب السودان فإن الواقع القبلي أكثر تنوعا ورسوخا، وفيه يوجد العدد الأكبر من القبائل السودانية، حيث أن القبيلة هناك تضم عددا أقل من الناس. ويوجد في جنوب السودان ثلاث مجموعات قبلية هي القبائل النيلية، وأهمها الدنكا والنوير والشلك. والقبائل النيلية الحامية، وأهمها الباري والمندراي والنيانجيار ولولابا. وأخيرا مجموعة القبائل السودانية، وأهمها قبيلة الزاندي.
وبالإضافة إلى قبائل شمال وجنوب السودان، توجد قبائل شرق السودان، التي تسمى قبائل البجة، وهي قبائل غير زنجية ولكنها غير عربية أيضا وإن كانت تدين بالإسلام. وتضم البجة قبائل عدة منها البشاريين والأمرار والهدندوة وبني عامر. أما في غرب السودان، فتوجد قبائل غير زنجية وغير عربية، أهمها قبائل الفور والمساليت والزغاوة والمسبعات، بالإضافة إلى النوباويين الذين يعيشون في جبال النوبا في غرب السودان.
ومن الناحية الدينية، يدين حوالي 75% من السودانيين بالإسلام، بينما يدين 20% منهم بديانات أفريقية محلية، بالإضافة إلى 5% من المسيحيين. وينقسم مسلمو السودان إلى عدد من الطوائف. والطائفة في السودان هي شيء شبيه بالطريقة الصوفية، ولكنها تتمتع بتنظيم أكثر إحكاما، حتى أن الأحزاب السياسية الكبيرة في السودان - مثل حزب الأمة والحزب الاتحادي - هما في الحقيقة حزبا طائفتى الأنصار والختمية. وأهم الطوائف السودانية هي طائفة الأنصار -والتي تسمى أيضا الطائفة المهدية- والطائفة الختمية، بالإضافة إلى طوائف مثل القادرية والسمانية والمجذوبية والإدريسية والإسماعيلية والهندية. وعادة ما تجمع الطائفة في عضويتها قبائل عدة. ومن المألوف أن نجد عضوية نفس الطائفة تجمع بين قبائل تنتمي لجماعات عرقية تتحدث لغات مختلفة. فطائفة الأنصار تضم بالإضافة إلى بعض القبائل العربية، الكثير من قبائل غرب السودان غير العربية. كما تضم الطائفة الختمية، أيضا بالإضافة إلى بعض القبائل العربية، الكثير من قبائل شـرق السودان...وهكذا.
وعموما فإن متحدثي العربية في السودان لا يزيدون عن 40% من مجموع السكان، بينما يتحدث الباقون لغات محلية متنوعة، أي أن أقل قليلا من نصف مسلمي السودان هم من غير المتحدثين بالعربية. وإن كان أغلب السودانيين يستطيعون التفاهم بلهجة عربية خاصة، أي أن العربية تظل هي أكثر لغات السودان انتشارا.
فالمواطن السوداني العادي ينتمي لقبيلة معينة، والقبيلة بدورها هي عضو في طائفة جنبا إلى جنب مع قبائل أخرى، وبعض هذه القبائل يتحدث العربية بينما لا يتحدثها البعض الآخر. ويزيد تعقيد هذه الصورة إذا اتجهنا نحو الجنوب، حيث نجد نسبة المسلمين بين السكان لا تزيد عن 17% من السكان، إلى جانب نسبة مماثلة من أتباع طوائف مسيحية مختلفة. أما الأغلبية العظمى من سكان الجنوب فتضم أتباعاً لديانات محلية. أكثر من هذا، ولأن الجنوب كان طوال القرنين الماضـيين ساحة مفتوحة للتبشير والدعوة الدينية لكل من الإسلام والمسيحية، فإنه من غير المستغرب في الجنوب أن ينتمي أخـان شقيقان إلى ديانتين مختلفتين، وهو أمر مقبول ولا يثير أي قدر من الحساسية هناك.
ربما كان الحديث المفصل عن الانقسامات الأولية في السودان مملا بعض الشيء، ولكني أظنه كان ضروريا لتوضيح التعقيد الشديد الذي يمكن أن نجده في بعض المجتمعات. والخلاصة هي أن التنوع وانقسام المجتمعات بين عدد من الجماعات القومية والعرقية الدينية هو ظاهرة أصيلة في تكوين أغلب المجتمعات الإنسانية، وأن هذا بالتالي هو الوضع الطبيعي للمجتمع الإنساني، ومن ثم فإنه من الخطأ اعتبار الحالة الطبيعية للمجتمع هي تلك الحالة التي لا يوجد فيها في المجتمع سوى جماعة أولية واحدة.
وبينما تتراجع في العالم أجمع أهمية الانقسامات العرقية التي تميز بين الناس على أساس اللون وملامح الجسد والوجه، تزايدت أهمية التمييز بين الناس على أساس اللغة والدين والعادات والتقاليد التي تكونت بسبب الاشتراك في خبرة تاريخية معينة. ولنتفق على أن نجمع كل هذه الاختلافات تحت عنوان الاختلافات الثقافية التي تبين أحداث العقد الأخير أنها مازالت ذات أهمية وخطورة كبيرة.
ومن الخطأ التعامل مع الثقافة باعتبارها شيئا جامدا معزولا غير قابل للتغير، إذ أن كل الثقافات تتغير بمرور الزمن، ونستطيع أن نلاحظ ذلك في التغيرات التي لحقت ببعض مظاهر الثقافة المصرية ذاتها، فالثقافة المصرية في مطلـع القرن الحادي والعشرين تختلف عما كانت عليه في بداية القرن السابق، فمصريو اليوم لم يعودوا يلبسون الطرابيش، وأصبح ما كان يسمى بالملابس الأفرنجية هو الملبس اليومي لأغلب المصريين. ولم تعد المرأة المصرية تضع النقاب على وجهها إلا نادرا، وأصبح تعليم المرأة وحصولها على وظيفة خارج المنزل أمرا شائعا. وبينما كانت الفتاة المتعلمة في مصر حتى الستينيات من القرن العشرين تحرص على ارتداء الملابس الغربية، بما فيها الميني جيب وملابس البحر الأوروبية أثناء قضاء عطلة الصيف على الشاطئ، فإن المرأة المصرية في سنوات الثمانينيات كانت أكثر محافظة واحتشاما. أما في مطلع القرن الحادي والعشرين، فإننا نجد الاتجاهين المحافظ والمتحرر من التقاليد يتعايشان جنبا إلى جنب، ليساهما معا في إكساب الثقافة المصرية طعما خاصا لا تستطيع أن تجده في أي من دول المنطقة المحيطة بنا.
وباختصار، فإنه لا توجد ثقافة ساكنة لا تتطور، كما لا توجد ثقافة منعزلة عن الثقافات الأخرى. فالثقافات المختلفة هي في حالة تفاعل دائم، وقد أدت الثورة في وسائل المواصلات والاتصالات إلى زيادة هذا التفاعل. ويمكن ملاحظة ذلك بسهولة في المجتمع المصري. فقد عاد المصريون الذين ذهبوا للعمل في المملكة السعودية وبلاد الخليج بعادات وتقاليد أثرت بعمق على الثقافة المصرية، في نفس الوقت الذي ترك فيه المصريون الذين أتيحت لهم الفرصة لقضاء بعض الوقت في أوروبا وأمريكا بصمات واضحة على الثقافة المصرية، وبحيث أصبحت الثقافة المصرية السائدة محصلة لتفاعل القيم الثقافية المصرية الأصيلة مع التأثيرات القادمة من الشرق والغرب، وإن بدرجات متفاوتة.
ويمكن الخروج من المناقشة السابقة باستنتاجين أساسيين: الاستنتاج الأول هو أن الثقافة التي مازالت تستخدم في كـثير من المجتمعات للتمييز بين الجماعات البشرية، هي في الحقيقة كيان متغير، وبالتالي فإنه لا يوجد مبرر كاف لاعتبارها أساسا للتمييز بين البشر. بل إن الاعتقاد الخاطئ بوجود سمات ثقافية جامدة يمكن تمييز البشر على أساسها، يؤدي في الحقيقة إلى فقدان القدرة على ملاحظة التغيرات التي تحدث للثقافات المختلفة، فيظل تصورنا لها خاطئا وقاصرا.
أما الاستنتاج الثاني، فهو أن كل ثقافة هي في الحقيقة محصلة للتفاعل مع ثقافات أخرى، بحيث يصعب إقامة خطوط فاصلة تعزل بين كل ثقافة وأخرى. لا يعني هذا القول غياب أي معنى للخصوصية الثقافية، وإنما يعني أن الخصوصية الثقافية لكل جماعة هي قيمة نسبية، وأن أشكال التشابه بين الثقافات هي في الحقيقة أكثر مما يبدو على السطح، ومما يظن كثير من الناس. أما ما يمنع الناس من ملاحظة هذا التشابه فهو نظام التنشئة الاجتماعية والثقافية والسياسية التي تجعل الناس أكثر استعدادا لملاحظة الفروق بين الثقافات والتركيز عليها، أكثر من استعدادهم لملاحظة أشكال التشابه والقيم المشتركة بينها.
ساحة النقاش