التاريخ العربي الإسلامي غني بوقائع وخبرات التفاعل الثقافي بين العرب والشعوب الأخرى. وقد بدأ هذا الاتجاه مبكرا منذ أخذ الخليفة عمر بن الخطاب عن الروم أسلوب تنظيم الدولة، عندما نقل عنهم نظام الدواوين الذي لم يكن معروفا لدى العرب. أما العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية، كما تجسد في زمن الدولة العباسية، فقد كان هو نفسه العصر الذهبي للتفاعل الثقافي بين العرب وغيرهم من الشعوب، وقبل أن ينقضي وقت طويل على تأسيس بغداد كعاصمة للخلافة العباسية أصبح متاحا لقارئ العربيـة لأول مرة أهم كتب أرسطو وشروح أفلاطون والكتب الطبية لجالينوس ، بالإضافة إلى مجموعة هائلة من الكتب العلمية والفلسفية المترجمة عن الفارسية والهندية، وسريعا ما هضم طلاب العلم من العرب ما وصلهم عن طريق الترجمة، فأصبحوا قادرين على الانتقال إلى مرحلة التأليف والإبداع.
وهناك الكثير من الأمثلة على هذا. ففي سنة 154 هجرية، الموافقة 771 ميلادية، قدم إلى بغداد رحالة هندي ومعه كتاب - أو رسالة بلغة أهل ذلك الزمان- في الفلك. وعلم الخليفة المنصور بأمر تلك الرسالة، فأمر بترجمتها إلى العربية، وكلف محمد بن على إبراهيم الفزاري، وكان له اهتمام بعلم الفلك، بتلك المهمة. فعندما انتهى الفزاري من مهمته كانت قد تكشفت له حقائق كثيرة عن علم الفلك لم يكن على دراية بها من قبل، فهضمها وأضاف إليها. وانفتحت شهيته لمزيد من الرغبة في التعرف على إسهامات الشعوب الأخرى في علم الفلك، فجمع كل ما وصل إليه من علم الفلك عن الهنود والإغريق في كتاب - أو كما يسمونه مصنف- واحد، حتى أصبح الفرازي أهم فلكيي عصره.
وكانت بلاد فارس مشهورة بتقدمها في علوم الطب، وكانت مستشفى - بيمارستان- جنديسابور أشهر معاهد الطب في فارس، وكان على رأسها طبيب شهير هو جورجيس بن بختيشوع، الذي كان من أتباع طائفة دينية صغيرة هي الطائفة النسطورية. في هذا الوقت اعتلت صحة الخليفة المنصور وعجز أطباء بغداد عن علاجه، فلما علم المنصور بأمر جورجيس النسطوري أرسل في استدعائه، فداواه، فاتخذه طبيبا خاصا له، وعاشت عائلته في بغداد، وقدمت ستة أجيال من أشهر أطبائها، وظلت عائلة بختيشوع تسهم في تطوير علوم الطب عند العرب لثلاثة قرون كاملة، فنقلوا لأطباء العرب خبرة شعب فارس في الطب والدواء.
وقد لعبت الترجمة عن اللغات الفارسية واليونانية والهندية دورا كبيرا في تحقيق هذه النهضة. فأنشأ الخليفة المأمون في بغداد مؤسسة كبرى أسماها بيت الحكمة، كان عليها تنظيم وتشجيع الترجمة عن الكتب الأجنبية، خاصة اليونانية، وحفظها وإتاحتها للقراء لتسهيل نقل المعرفة والتشجيع علي التعلم والانفتاح الثقافي والفكري على حضارات الشعوب الأخرى، في تطبيق خلاق للحديث الشريف اطلبوا العلم ولو في الصين. وكان نتيجة ذلك أن نشطت حركة النقل والترجمة، وتركز الاهتمام على كتب جالينوس في الطب، وإقليدس في الرياضيات، وبطليموس وأفلاطون وأرسطو في الفلسفة. وكان المترجمون يأتون إلى بغداد ومعهم المخطوطات التي يتولون ترجمتها، كما فعل قسطا بن لوقا وابن البطريق وسـلام الأبرش. واستعان الخليفة بالإضافة إلى ذلك بالعديد من المترجمين من غير العرب، لما وجده فيهم من خبرات ومعارف لم تكن متاحة بعد للعرب، فبرزت أسماء مثل يوحنا بن ماسويه، وهو سرياني، وحنين بن إسحاق، الذي كان من النساطرة المقيمين في إمارة الحيرة العربية، وكان طبيبا بارعا حتى أن المأمون اتخذه طبيبا خاصا، كما سلمه أمانة إدارة بيت الحكمة، وطلب إليه أن يقوم بالترجمة بنفسه، فكان من بين ما نقله للعربية مؤلفات لجالينوس وأبقراط وديسقوريدس وكتاب السياسة لأفلاطون والطبيعة لأرسطو.
لقد كانت الحواضر العربية الإسلامية، خاصة بغداد، مقصدا لأهل العلم من كافة الثقافات والديانات، كما وجد المؤلفون والمترجمون من غير العرب ومن غير المسلمين في الدولة العربية الإسلامية البيئة الصالحة لازدهار أعمالهم، فأفادوا العرب والمسلمين كما أفادوا البشرية، وبرزت أسماء كثيرة في كافة مجالات العلم والمعرفة، ومن بينها ثابت بن قرة الذي لمع في مجال الترجمة إلى العربية. وكان ثابت من بين أبناء طائفة الصابئة الذين عاشوا في منطقة حران، والذين اشتهر عنهم الاهتمام بعلوم الرياضة والفلك. وقد وجد بن قرة رعاية خاصة من الخليفة المعتضد. أما بعد ثابت فإن ابنه سنان، ومن بعده أحفاده إبراهيم وثابت وأبو الفرج قد تابعوا القيام بالترجمة إلى العربية.
ساحة النقاش