أما القرن العاشر الميلادي فقد شهد قيام جماعة المترجمين من أبناء الطائفة اليعقوبية بدور كبير، فكان منهم يحيى بن عدي وأبو علي بن زعة. أما من اليهود فقد برز اسم موسى بن ميمون الذي عاش في قرطبة زمن الحكم العربي الإسلامي. كما برز اسم كوهين العطار، الذي عُرف باسمي داود العطار، والذي عاش في القرن السابع الهجري-الثالث عشر الميلادي. ومن أهم مؤلفاته كتاب منهاج الدكان في الطب. وكذلك داود الأنطاكي، صاحب تذكرة أولي الألباب المعروفة بتذكرة داود، التي تُعتبر أهم مراجع الصيدلة والدواء في العصر الذي عاش فيه، أي القرن العاشر الهجري-السادس عشر الميلادي. أما أشهر مترجمي ومؤلفي القرن الثاني عشر الميلادي، فهـو ياقوت الحموي، المولود لأبوين يونانيين في آسيا الصغرى، أي فيما يعرف الآن بتركيا. وكان الحموي أحد من كتبوا الموسوعات في التاريخ العربي الإسلامي، ومن أهم أعماله معجم البلدان الذي هو موسوعة هائلة في الجغرافيا وعلم السلالات البشرية.
فإذا تركنا التاريخ العربي الإسلامي ونظرنا إلى العالم من حولنا لوجدنا فوائد التنوع والتفاعل الحضاري والثقافي حاضرة في أركان المعمورة. فإذا نظرنا إلى اللغة الإنجليزية التي هي أوسع اللغات انتشارا، لوجدناها تحتوي على مفردات مقتبسة من حوالي 240 لغة أخرى، الأمر الذي أتاح للإنجليزية قدراً واسعاً من المرونة والثراء الذي يتيح لها القدرة على التعبير السلس عن الحقائق والأفكار بطريقة لم يكن من الممكن أن تتوافر لها لولا انفتاحها على الثقافات واللغات الأخرى الموجودة في العالم.
أما في داخل الدولة الواحدة، فإنه يمكن للتنوع، إذا أُحسن توظيفه والتعامل معه، أن يكون سببا في قوة المجتمع والدولة وإغنائهما. ولنأخذ المجتمع الأمريكي كمثال، فالولايات المتحدة هي مجتمع تكوَّن نتيجة الهجرة من كافة بقاع العالم إلى الأرض الجديدة. وقد نجح هؤلاء، وإن لم يكن هذا أمرا سهلا، في تحقيق درجة مناسبة من التعايش بين الجماعات الثقافية والعرقية المختلفة، بالشكل الذي أتاح لكل منها المشاركة في بناء الولايات المتحدة التي أصبحت القوة العظمى الوحيدة في عالم اليوم. وهو الإنجاز الذي يفخر به الأمريكيون ذوي الأصول الإنجليزية الذين لعبوا الدور الأساسي في صياغة الإطار القانوني والدستوري الذي ينظم المجتمع. كما يفخر به الأمريكيون ذوو الأصول الألمانية الذين قدموا إسهاما كبيرا لتقدم العلوم في الولايات المتحدة. أما في الرياضة والفنون فإن إسهام الأمريكيين السود هو إنجاز رائع بكل المقاييس.
كان أمام الأمريكيين الأوائل، الذين جاءوا من بريطانيا، الدولة التي سيطرت على الجزء الأكبر من أمريكا الشمالية، عدة اختيارات. فقد كان لهم أن يقصروا قبول المهاجرين إلى العالم الجديد على المهاجرين من الجزر البريطانية، بحيث تتحول القارة الجديدة إلى مجرد ملحق لبريطانيا، كما كان لهم أن يقصروا الهجرة لها على اتباع المذهب البروتستانتي، الذي يدين به أغلب البريطانيين، حتى لو اختلفوا في الانتماء اللغوي والثقافي. كما كان يمكن لهم أن يقصروا الهجرة إلى أمريكا على شعوب شمال أوروبا التي يوجد تشابه كبير بينها من حيث الدين والثقافة والعادات، حتى وإن اختلفت لغاتهم. أو كان لهم أن يقصروا الهجرة للأرض الجديدة على الشعوب البيضاء وحدها. أو بدلا عن كل ذلك فإنه كان لهم أن يتيحوا الهجرة لأي من كان، بشرط أن يكون إعطاؤه الحقوق الكاملة للمواطن مرهونا بإتقانه اللغة الإنجليزية أو تبنيه المذهب البروتستانتي.
غير أن أياً من هذا لم يحدث، واختار الجيل المؤسس للولايات المتحدة الأمريكية أن يفتح أبواب أمريكا للمهاجرين من بقاع العالم المختلفة، فكانت الدرجة العالية من التنوع، التي أصبحت علامة مميزة للمجتمع الأمريكي، مصدرا للقوة والإغناء، الأمر الذي يمكن ملاحظته في تحول هذا البلد صغير السن إلى أكبر قوة في عالم اليوم.
وكان طريق الولايات المتحدة إلى هذا النجاح هو بناء نظام لديه قدرة عالية على استيعاب المهاجرين من خلفيات مختلفة، وكان الأسلوب المناسب لتحقيق هذا النجاح هو تجنب إكراه أي جماعة عرقية أو ثقافية على التخلي عن هويتها أو لغتها أو دينها، وترك أبناء الجماعات المختلفة يقررون لأنفسهم المستوى المناسب من الاندماج في المجتمع الأمريكي. وكان ذلك يتم عادة وفقا لمدى شعورهم بالحاجة إلى ذلك. فبقدر ما كان تعلم اللغة الإنجليزية ضروريا للحصول على وظيفة، أو للتخاطب مع الأمريكيين من المتحدثين بالإنجليزية، أو للاستماع والاستمتاع بوسائل الإعلام والترفيه، بقدر ما كان المهاجرون الجدد يتعلمون الإنجليزية ويكتسبون بعض العادات التي سبقهم إليهم المهاجرون الأسبق عهدا، وبقدر ما كان الاندماج في المجتمع الأمريكي يتحقق دون إكراه، فإنه سمح للجماعات الثقافية المختلفة بالحفاظ على الجزء من هويتها الذي لا يعوق اندماجها في المجتمع الأوسع، والذي يتيح لها في الوقت نفسه الاحتفاظ بتميزها.
وقد تحقق الاندماج التدريجي للجماعات العرقية والثقافية المختلفة عبر عدد من الأساليب. ومن أهم تلك الأساليب المساواة الكاملة التي يضمنها الدستور والقانون. فالدستور والقانون في الولايات المتحدة لا يميز بين المواطنين على أساس الدين أو العرق أو اللغة أو اللون أو الأصل، أو أي أساس آخر. ومع هذا فإنه يجب أن نتذكر أنه بالرغم من أن الدستور الأمريكي الذي تم وضعه منذ أكثر من قرنين من الزمان ينص على المساواة بين المواطنين، إلا أن الممارسة الواقعية في الولايات المتحدة تضمنت قدرا مخيفا من التمييز والعنصرية ضد الأمريكيين من أصول غير أوروبية. وقد استلزم الأمر سنوات طوال من الكفاح الشاق، حتى أصبحت الولايات المتحدة أقرب كثيرا من تحقيق نموذج المجتمع المتسامح الذي يضمن المساواة الكاملة بين أبنائه. وليس أدل على ذلك من أن الولايات المتحدة كانت مضطرة لخـوض حرب أهلية استمرت عدة أعوام لإلغاء العبودية التي عانى منها الأمريكيين من أصول أفريقية.

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 115 مشاهدة
نشرت فى 2 أكتوبر 2011 بواسطة mowaten

ساحة النقاش

mowaten
يأتى الربيع العربى للثورات بمتطلبات ضرورية لعل من اهمها هو نشر التوعية السياسية بين المواطنين بوطننا العربى لارساء وتهيأة البيئة للعيش فى جو ديمقراطى طالما حلمنا به »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

284,186