وقد تقدم المجتمع الأمريكي من تحقيق نموذج المجتمع المتعدد الأعراق القائم على المساواة بقدر اقترابه من نموذج التعددية الثقافية. فبقدر ما أصبح المجتمع الأمريكي أقدر على الاعتراف بالتعدد العرقي والثقافي وقبوله على أساس من المساواة، بقدر ما كان هذا المجتمع قادرا على تحقيق قدر أعلى من التعايش البناء والخلاق بين الجماعات العرقية والثقافية المختلفة. فالاعتراف بوجود الجماعات المختلفة، والاستعداد لقبول كل ما يترتب على الاعتراف من حقوق في المساواة والاحترام، يمثل ركيزة أساسية للتعامل مع التنوع العرقي والثقافي بطريقة تضمن تحوله إلى رصيد وليس إلى نقطة ضعف ومصدر للتوتر.
ويعد الزواج المختلط من الأساليب التي ساعدت المجتمع الأمريكي على تطوير درجة تماسكه الاجتماعي وقدرته التكاملية. ومع أن اتباع هذا الأسلوب قد يكون متعذرا في بعض المجتمعات، إلا أن التعرف على الخبرة الأمريكية في هذا المجال يظل ذا فائدة كبيرة. ففي عام 1960، لم يكن سوى 6% من اليهود الأمريكيين متزوجين من غير أتباع الديانة اليهودية. وقد وصلت هذه النسبة إلى 25% في عام 1985، أما بنهاية التسعينيات فإن نسبة اليهود المتزوجين من غير اليهود قد وصلت إلى 52% من يهود الولايات المتحدة البالغ عددهم ستة ملايين. ومن المعروف أن اليهود هم من أكثر الأقليات اندماجا في المجتمع الأمريكي، وهم بالتأكيد أقل الأقليات شكوى من تعرضهم للاضطهاد والتمييز، على العكس فإن البعض يتهمهم بالسيطرة على المجتمع الأمريكي، أو على الأقل فإنهم يتمتعون بمستوى من النفوذ يزيد بشكل ملحوظ عن نسبة وجودهم في المجتمع. وبغض النظر عن مدى دقة هذا القول أو ذاك، فإنه ليس من الصعب ملاحظة التوازي بين تحسن وضعية اليهود في المجتمع الأمريكي من ناحية، وازدياد اندماجهم فيه على كافة المستويات من ناحية ثانية.
وقد حدث تطور مشابه مع الأمريكيين السود. فبينما لم تزد نسبة السود الأمريكيين المتزوجين من زوجة أو زوج غير أسود عن 2.6% في عام 1970، فإن هذه النسبة قد وصلت إلى 12.1% بحلول عام 1993. أما بين الأمريكيين من أصل آسيوي، فإن نسبة الذكور المتزوجين من شريك ينتمي لجماعة عرقية/ثقافية أخرى قد بلغت 12%، أما بين الإناث الآسيويات فإن نسبة الزواج المختلط بينهن قد بلغت 25%.
لقد أدى انتشار الزواج المختلط إلى تغيير كبير في التركيب السكانى للولايات المتحدة، حتى أن الصورة التقليدية للولايات المتحدة كمجتمع يتكون من أعراق محددة متعددة لم تعد دقيقة. فقد ظهرت فئة واسعة من الأمريكيين الذين لا يمكن وصفهم باعتبارهم بيض أو سود أو من أصول أسبانية أو آسيوية. إنها فئة مختلطي أو متعددي الأعراق، وهي فئة يتضاعف عددها مرة كل حوالي عشر سنوات، حتى أن كثيرين في المجتمع الأمريكي أصبحوا يطالبون باعتبار فئة مختلطي أو متعددي الأعراق فئة قائمة بذاتها إلى جانب الجماعات العرقية الأكثر وضوحا وتحديدا.
لكن العيش في ظل عالم أو مجتمع يتسم بالتعدد والتنوع يحتاج إلى وجود قدر وافر من التسامح بين الفئات الاجتماعية المختلفة، أي من القدرة على قبول الآخر برغم اختلافه، بالإضافة إلى التحلي بقدر كبير من العدالة والموضوعية عندما يتعلق الأمر بفرد أو جماعة يختلفون عنا في اللون أو الثقافة أو الدين. ولكن التسامح والقبول في حد ذاتهما قد لا يكونا كافيين لتحقيق الغرض المطلوب. فالواحد منا قد يتسامح مع من أخطأ في حقه، باعتبار ذلك نوعاً من السمو الأخلاقي والتعالي عن الانشغال بصغائر الأمور، بالضبط كما نتسامح مع الحماقات التي يرتكبها الأبناء في مرحلتي الطفولة والمراهقة، باعتبارها نتيجة لنقص الخبرة والنضج. فالتسامح من هذا النوع ينطوي على معنى استصغار الآخر، وهو أساس غير كاف لقيام علاقات تقوم على التكافؤ والمساواة بين الشعوب والجماعات.
فالآخر العرقي أو الثقافي ليس شخصا ناقص الأهلية أو النضج لكي نتسامح معه كما نتسامح مع الخطائين من البشر أو مع الأطفال والمراهقين. ولا يخفى أن مثل هذا النوع من التسامح يقوم على ادعاء ضمني بالتفوق على الآخر، فهو بالتالي نوع من التسامح لا يخلو من عنصرية كامنة يمكن لها أن تنفجر وتطفو إلى السطح في أي لحظة إذا توافرت الظـروف المناسبة.
أما التسامح وقبول الآخر الذي يمكنه أن يكون أساسا متينا للتعايش في سلام والتعاون بين الشعوب والجماعات، فإنه التسامح القائم على أساس من الاحترام، احترام خصوصية الآخر وثقافته وحضارته، وهو يقوم على الإيمان بأن التنوع إنما هو أمر طبيعي، وبأن القضاء على التنوع أو إزالته هو مطلب مناقض لطبيعة الكون والبشر، وأن كل شعب أو جماعة بشرية قد طورت ثقافتها في ظل ظروف معينة ساهمت في تشكيل هذه الحضارة وتلك الثقافة، وأنها بالتالي تستحق الاحترام باعتبارها، بالضبط مثل حضارتنا وثقافتنا، تعكس الأسلوب الذي اختارته جماعة بشرية معينة للتكيف مع ظروف البيئة المحيطة بها، وأنها نتيجة منطقية لظروف موضوعية كانت غالبا خارج سيطرة البشر.
ساحة النقاش