التفكير عمليّة، ولعلها من أكثر العمليات التي حار العقل البشري في فهمها وبالتالي تعريفها! أتدرون لماذا؟ فكر الإنسان في كثير من العمليات الفيزيائية والحيوية التي تدور حوله. فهم بعضها وما زال يحاول فهم البعض الآخر. وهو في هذه الحالات يفكر في شيء خارج عنه وهذا إلى حد ما أسهل. فعندما تكون في قمة جبل فإن معرفتك بمن هو في أسفل الجبل أفضل من معرفته بك وقدرتك على جمع المزيد من المعلومات عنه أكبر. لعل إجابة التساؤل قد اتضحت إلى حد ما الآن.
عند محاولتنا فهم عملية التفكير فإننا نوظف أداة التفكير لتفهم نفسها، وفهم الشيء يحتاج أن تنظر إليه من خارجه أو مكان أعلى منه، ولكننا هنا لا ندرس شيئا ماديا لنخرج عنه أو نرتفع لنراه من الأعلى.
محاولة تعريف التفكير: يواجه علماء الفيزياء مشكلة لعل لها وجه شبه من ناحية أخرى توضح لنا نوعية المشكلة التي نواجهها وإن كانت مشكلة علماء الفيزياء مع أشياء مادية، فمشكلتهم من هذا الجانب تبقى أسهل. تتلخص مشكلة الفيزيائيين في قياس خصائص الجسيمات الصغيرة، مثل الحجم والشحنة الكهربائية والسرعة وغيرها. فقد وجدوا أنهم عند تسليط أجهزة القياس على هذه الجسيمات فإنها تؤثر على خصائصها فتأتي النتائج غير دقيقة.
ومشكلتنا في محاولة فهم عملية التفكير أننا لا نستطيع أن نفصل أداة التفكير عن موضوع التفكير. فالأداة والموضوع واحد وهما بالإضافة لذلك أشياء غير مادية وإنما عمليات فكرية مجردة وهذا ما يجعل مهمتنا أصعب. ومع كل هذه التحديات سنحاول تعريف التفكير آخذين في الاعتبار جميع العوامل المذكورة سابقا.
الدماغ: ذلك العضو المدهش. |
التفكير عملية حيوية، عليا موجهة تتم في الدماغ، تشترك في تنفيذها أداة التفكير، الدماغ، ويعالج فيها بعض ما يختزنه وما يتلقاه لحظة التفكير من معلومات وتجارب وقناعات واتجاهات، ويشارك في تنفيذها السيالات العصبية والتيارات الكهربائية، وتتمثل المعالجة في نوع من العمليات الأدنى كالمقارنة، والمغايرة، والتحليل، والتركيب، والتصنيف، والترتيب ... إلخ، لتكون نتيجتها في النهاية ربما فكرة جديدة أو إعادة ترتيب وتنظيم الأفكار أو بناء التوجهات والقناعات أو القيم وقد تتجاوز النتيجة مجرد إعادة بناء المعلومات الداخلية إلى إنتاج المشاعر الداخلية مثل الغضب أو الفرح أو الحزن ... إلخ، ويعبر الانسان عن هذه المشاعر بلغة الجسد وقد يتجاوزها فيعبر عنها بكلمة أو كتاب أو خطبة وقد تتحول إلى سلوك عارض أو سلوك منهجي مخطط يهدف للوصول إلى النتيجة التي قادت إليها عملية التفكير.
التفكير: مصدر كل فعل للإنسان. |
التعريف ينبغي أن يكون جامعا مانعا كما يقول العارفون بأصول فن صياغة التعريفات. وهذا ما حاولت أن أقوم به في تعريفي للتفكير، ولكن من خصائص التعريف أن يكون مختصرا أيضا، وهذا ما لم أستطع الوصول إليه، ولعل تصدينا لتعريف عملية التفكير يشفع لذلك. من خلال التأمل في هذا التعريف نستطيع التوقف عند المعاني التالية:
عملية حيوية:
العملية هي ذلك الفعل المتكرر والذي يمر بخطوات معروفة ومتتابعة بشكل منطقي. والعملية التي نحن بصددها، التفكير، عملية مركبة، استطاع المختصون في هذا المجال تفكيك بعض أجزائها والتعرف على خطوات هذه الأجزاء. فعملية استئصال الزائدة الدودية عند الجراحين، هي مجموعة من الخطوات المتبعة لتشخيص حالة المريض المحتاج لتلك العملية تتبعها خطوات تعارف عليها الجراحون لاستئصال ذلك الجزء، وهي تتكرر بنفس الخطوات بغض النظر عن الجراح الذي يقوم بها. وهنا نحن أمام عملية معالجة للمعلومات تتتابع بخطوات مازال الانسان يحاول التعرف عليها وإن كان قد تعرف على بعضها. التفكير عملية عليا مركبة كما سبق الاشارة لذلك، ومن العمليات البسيطة التي تكون عملية التفكير، عملية المقارنة وعملية الترتيب وعملية الاهتيار على سبيل المثال. فالتفكير في اختيار وظيفة من بين عدة وظائف ذات رواتب مختلفة ستتم كالآتي. نقوم أولا بالمقارنة بين كل وظيفة والوظائف الأخرى حتى نصل لترتيب الوظائف تصاعديا أو تنازليا ثم نختار أعلاها راتبا. مجموعة العمليات البسيطة بمجملها تشكل عملية التفكير والتي لا يتحتم أن تشتمل عليها جميعا في نفس الوقت. فلو قمت بعملية بسيطة واحدة فقد فكرت كما لو أنك قمت بجميع عمليات التفكير البسيطة فأنت كذلك قد فكرت. وتعدد عمليات التفكير البسيطة بشكل مذهل وتنوع اختلاف ترتيبها يضعنا أمام شبكة ضخمة من عمليات التفكير التي تكاد تكون لا نهائية. وإذا أضفنا لذلك خاصية التفكير العشوائي فإننا نصبح أمام قدرة مذهلة تدل على عظم قدرة الخالق سبحانه الذي أبدع هذا العقل وخلقه. فخاصية التفكير العشوائي كانت سببا في كثير من الاكتشافات البشرية المذهلة مثل اكتشاف أرخميدس لقانون إزاحة السوائل واكتشاف المركبات الهيدروكربونية الحلقية وغيرها. وهي حيوية لأنها تتم في وسط حيوي.
أداة التفكير:
الدماغ هو أداة التفكير التي يكاد يجمع عليها جميع العلماء. ويكاد يكون ذلك من المسلمات بين الباحثين في هذا مجال. والدماغ هو ذلك العضو الرخو المحاط بالجمجمة. ولعل هذا من عجائب المسلمات. فهذه العملية، التفكير، لا يزال علماء الأعصاب يجدون صعوبة بالغة في رصدها في هذا العصر، 1430 هـ الموافق 2009م، فكيف تم التوافق على أن الدماغ هو من يقوم بها رغم عدم القدرة على رصدها حتى الآن.
الفرق بين دماغ أينشتاين وأي دماغ آخر ليس في البنية الأساسية ولكن فيما يضيفة كل إنسان على هذه البنية |
هنالك إشارة في القرآن الكريم إلى أن تلك العملية قد تتم في مكان آخر بالتوازي مع الدماغ وربما على انفراد مما يتطلب عمل الباحثين المتخصصين في هذا المجال لاستجلاء الأمر. يقول الله تعالى : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج: 46]. فهل الدماغ هو أداة التفكير الوحيدة، أم أن هناك أعضاء أخرى تساعده وتوازره، أم أنه متخصص في عمليات محددة ويقوم القلب بعمليات أخرى؟ أسئلة تحتاج إلى بحث متخصص. كما لو أن الحيرة في أداة التفكير أين تكمن لم تكن كافية لنضيف إليها بعدا آخر أكثر إبهارا! هل أداة التفكير هي هذا العضو المادي وحسب؟ في الواقع أن هذا العضو المادي لا ينفك يبهر دارسيه والمتأمين فيه. عند ولادة الانسان يكون دماغه مزودا بمجموعة أساسية من المهارات العقلية مثل الادراك، الحفظ، الاسترجاع، التمييز...وغيرها. بمرور الزمن يزداد مخزون الدماغ من المعلومات وتزداد معه قدرته على التمييز بين الأشياء ومن ثم المقارنة والتفضيل وغيرها من المهارات. وبالتالي نحن أمام أداة حية تنمو وتزداد في القدرات والمهارات باستمرار.
موضوع التفكير:
إذا كان الدماغ هو الأداة ففيم تعمل هذه الأداة. بمتابعة قراءة التعريف نجده يذكر مجموعة من الأشياء التي يعمل فيها التفكير، المعلومات والتجارب والقناعات والاتجاهات. وهذه مجرد أمثلة لموضوع التفكير. على قدر التعقيد والتشابك الذي رأيناه في تعريف عملية التفكير يواجهنا تعقيد وتشابك أكثر في التعرف على موضوع التفكير. يتلقى الدماغ معلوماته الحية عبر الحواس الخمس. هل هي خمس أم ست أم أكثر! هذه المعلومات تشكل اللبنات الأساسية لتشكيل المعرفة التي يشتمل عليها العقل. صور وأصوات ومذاقات وروائح ومحسوسات متنوعة، يراكمها الدماغ في ذاكرته ليشكل منها قواعد معلومات ومن ثم معارف. تتطور بعض هذه المعلومات لتشكل قدرات مختزنة، ومهارات مكتسبة، وقناعات ومسلمات واعتقادات وقيم وتوجهات وسمات شخصية وعادات متأصلة. عندما يعمل الدماغ التفكير في شيء ما فإنه قد يرجع إلى كل هذه المعلومات والمعارف السابق ذكرها لتحقيق هدفه من التفكير. هنالك مصدر آخر للمعلومات التي يرجع إليها الدماغ ألا وهي مجموعة البيانات والمعلومات الفطرية وهي التي تخلق وتخزن في الدماغ عند تكونه أول مرة. لا توجد أية أبحاث تناولت هذه المعلومات بالبحث. ولكن المؤكد أن دماغ الانسان يمارس الكثير من الأنشطة الذكية منذ الأيام الأولى لخلقه. وهذا لا يمكن أن يكون إلا يناء على معلومات فطرية. ومن أمثلة هذه الأنشطة التي يمارسها الدماغ تنظيم ضربات القلب، والتنفس، وإفراز العصارة الهضمية، والتحكم في الكثير من العمليات الحيوية اللاإرادية.
هدف التفكير
وراء كل سلوك حيوي هدف، بغض النظر عن مشروعية الهدف من عدمها أو من نبل ذلك الهدف أو دناءته. والتفكير سلوك فلا يمكن أن يكون بدون هدف. هنالك كما سبق الاشارة تفكير واعي وتفكير لا واعي. فهل التفكير اللاواعي له هدف كذلك؟ التفكير اللاواعي ينشأ نتيجة للنشاط الواعي
كم يختزن هذا الدماغ من البيانات والمعلومات والمعارف. |
للانسان. وهو لذلك يحاول تحقيق أهداف التفكير الواعي. إذا يبقى لدينا السؤال عن أهداف التفكير الواعي. بالتأمل في كل ما أنتجه الإنسان طوال تاريخه على الأرض، نستطيع أن نعيد كل منتج إلى فكرة. فالسيارة التي تركبها كانت فكرة في رأس شخص ما يوما ما وبادر إلى العمل من أجل وضعها موضع التنفيذ، وربما احتاج الأمر إلى أجيال حتى اكتملت صورتها على الشكل الذي نراه الآن. هذه المقالة التي تقرأها الآن، كانت يوما ما فكرة فر رأس كاتبها، وربما حدث بها بأشكال عديدة وهي اليوم بين يديك على شكل "نول" بعد أن طرحت جوجل هذه الخدمة على الإنترنت.
الفرق بين التفكير في المشكلة والتفكير في الحل
يتقلب كل إنسان في حياته بين المشاكل والحلول. قال الله تعالى في القرآن الكريم: (لقد خلقنا الإنسان في كبد) الآية 4 سورة البلد، وقد ورد في تفسير معنى الكبد أنه الشدة والمشقة والمعاناة. عد إلى عنوان الموضوع وتأمل هل ترى فرقا بين التفكير في المشكلة والتفكير في الحل؟ البعض يقولون أنه لايمكن حل المشكلة مالم تفكر فيها. أما الفريق الآخر فيقولون أن التفكير في المشكلة ربما يزيد الأمور تعقيدا فلنفكر في الحل.
الفارق بين الفريقين دقيق جدا حتى أن الكثير من الناس لايدركونه. وهذا الفارق يمثل الحد الفاصل بين العيش في المشكلة والانطلاق نحو الحل، وهنا يكمن الفارق الكبير بين نوعي التفكيرحيث سيظل الفريق الأول يفكر في المشكلة ويدور حول نفسه مما يجعل حياته كلها تدور حول هذه المشكلة، بينما الفريق الثاني ينطلق من فهم المشكلة للبحث عن الحل ولا يظل حبيسا للتفكير في المشكلة ذاتها.
إدراك هذا الفارق رغم بساطته ودقته يمثل فارقا شاسعا بين الفريقين. فهناك فريق من الناس عندما يقع في مشكلة، تحاصره هذه المشكلة ويبقى أسيرا للتفكير في أسبابها، ومتى بدأت ومن السبب في حدوثها ...إلخ ويقودة ذلك إلى الوقوع في المزيد من المشاكل المرتبطة بنفس المشكلة الأولى ويعيش طوال حياته أسيرا لهذه المشاكل رغم أنها ربما تكون بسيطة جدا وكل ما يحتاجه للخروج منها هو فقط التفكير في الحل.
التفكير في المشكلة
فهم المشكلة أمر هام جدا ولا ينبغي الهروب منه. ولكن علينا ألا نسمح للمشكلة أن تحاصرنا ونبقى أسيرين للتفكير فيها، بل نجعل تفكيرنا فيها مجرد محطة سريعة وعابرة لوضع الأساس للبحث عن الحل. عندما تحاصرك مشكلة قم بالخطوات التالية لتحدد حجمها وتعد نفسك للدخول في إطار التفكير عن الحل: النقاط التالية فكر فيها مرة واحدة، واحدة فقط ولا تعد إليها.
- عرف المشكلة. ما هي المشكلة التي تفكر فيها؟ هل هو دين تريد سداده؟ أم فتاة تريد الزواج بها؟ أم مشروع ترغب في الشروع فيه؟
- هل هذه المشكلة اجتماعية؟ أم مالية إقتصادية؟ هل هي مشكلة عائلية؟ أم مشكلة عمل؟
- اسأل نفسك: متى بدأت هذه المشكلة؟
- ما هو سبب نشوء هذه المشكلة؟
- من هو المتسبب في نشوء هذه المشكلة؟
- ما هي الآثار السلبية على حياتي التي خلقتها هذه المشكلة؟
- كيف تمنعني هذه المشكلة من تحسين ظروف حياتي؟
- كيف سيصبح حالي لو استمرت معي هذه المشكلة لشهر قادم، لسنة قادمة، لـ 3 سنوات، ... إلخ.
يشكل العقل ما يمكن أن نسمية حلقات التفكير المفرغة. يمثل نمط التفكير في المشكلة واحدة من أشهر حلقات
حلقات التفكير المفرغة: التفكير في المشكلة. |
التفكير المفرغة التي يعاني منها الكثير من الناس. ما لم يكن لديك الشجاعة الكافية للتعرف على حلقات التفكير المفرغة التي تعيش معك وكسرها للتفكير في إطارات أخرى فإنك ستظل حبيس هذه الحلقات. كسر حلقة التفكير المفرغة الخاصة بالتفكير في المشكلة يتمثل في التفكير في الحل.
الانطلاق نحو الحل
- والآن إبدأ الانطلاق نحو الحل بالسؤال التالي: هل علي أن أقضي باقي عمري مع هذه المشكلة؟!
- ما هي الفوائد التي استفدتها وتعلمتها من هذه المشكلة؟
- ما هي الموارد التي أمتلكها وتساعدني على حل هذه المشكلة. علم، مهارات، علاقات، مال، ثقافة ... إلخ.
- ما هي المشاكل التي واجهتني في حياتي واستطعت التغلب عليها وحلها؟
- ما الذي سيتحسن في حياتي عندما أحل هذه المشكلة؟
- كم من الوقت سأحتاج حتى أصل إلى الحل؟
- ما هي الخطوة الأولى التي ينبغي القيام بها للانطلاق نحو الحل؟
تمثل الأسئلة في المجموعة الأولى 1 - 8 إطار المشكلة والتي يبقى الكثير من الناس حبيسين فيها ويدورون حولها في حلقة مفرغة. ليس من العيب أو الخطأ أن نفكر في مشاكلنا ولكن الخطأ أن نبقى نفكر في المشكلة ولا نفكر في الحل. فكر في المشكلة مرة واحدة ثم انطلق نحو إطار الحل إلى مجموعة الأسئلة الثانية 1 إلى 7 وفكر فيها مرة واثنتين وثلاث مرات وربما عشر حتى تصل إلى مجموعة من الحلول لهذه المشكلة. تابع معي المشهد التالي ثم أجب على السؤال: أي نوع من التفكير يمثل هذا المشهد؟ هل هو التفكمير في المشكلة أم التفكير في الحل؟