الأوراق النقدية
نشأتها، وتطورها، وجريان الربا فيما بينها
لمحة تاريخية مختصَرة في تعريفِ تطوُّر النظام النقدي في العالَم:
مرَّ النظام النقديُّ القائم الآن بمراحلَ تاريخيَّة، تطوَّر فيها من حال إلى حال، حتى وصلَ إلى ما نحن عليه الآن، وما زال يتطوَّر، حتى إنَّ بعض رجال الاقتصاد تنبَّأَ أن نصل في وقتٍ قريب إلى الحال التي لا نحتاج أن نحمِل نقودًا حين نتسوَّق، ونستطيع أن نُدوِّن هذه المراحل باختصار شديد:
المرحلة الأولى:
في بدايةِ الحياة البشرية شَعُر الناس بحاجةٍ إلى تبادُل السِّلع، ولما كان الإنسانُ بطبعه يضنُّ ببذْلِ ما لديه إلا بعوض، نشأتِ الحاجة إلى ما يُسمَّى بالمقايضة؛ لأنَّ الناس في تلك الحِقْبة من التاريخ كانتْ معاملاتهم المالية بسيطة، والسِّلع كانتْ محدودة، ومع نموِّ السكَّان، وكثرة السِّلع وَجَدَ الناس أنَّ هذه الطريقة فيها من المشقَّةِ ما تمنع مِن استعمالها كطريقٍ عام يصلُح في كلِّ زمان ومكان، فانتقلوا إلى المرحلة الثانية.
المرحلة الثانية:
اختار الناسُ بديلاً للمقايضة ما يُسمَّى نِظامَ النقود السِّلعية، وذلك أنَّ الناس قد اختاروا بعضَ السلع لتستعملَ استعمال الأثمان في معظمِ عقود المبادلة، وانتُقِيتْ من أجل ذلك سِلعٌ يَكثُر استعمالها، وتشتدُّ الحاجة إليها في بيئة خاصَّة؛ كالحبوب الغذائية، والمِلح، والجلود، وما إلى ذلك.
ولكن استعمال هذه السِّلع في التبادل كان فيه مِن مشاكلِ الحَمْل والنقل ما لا يَخْفَى، فلمَّا كثُر العمران، وازدادتِ الحاجة، وكثرتِ المبادلات، شَعُر الناس بحاجة إلى اختيار نَقْدٍ يخفُّ حملُه، وتتوفَّر ثِقةُ الناس فيه، وبهذه انتهتِ المرحلة الثانية في تاريخ النِّظام النقدي، لتبدأ المرحة الثالثة.
المرحلة الثالثة:
في هذه المرحلة تَوجَّه الناسُ إلى استخدامِ الذهب والفِضَّة كأثمانٍ في المبادلات لقِيمتها الذاتية في صُنْع الحُليِّ، والأواني، ولسهولةِ حمْلِها، وادِّخارها، حتى أصبحَ هذانِ المعدنان عيارًا للقِيمة يعتمد الناسُ عليها في جميعِ البلاد والأقطار، وقد مرَّ على هذا النِّظام تطوُّرات كثيرة، نستطيع أن نُلخِّصها فيما يلي:
في بداية استخدامِ الذهب والفِضَّة كأثمانٍ كان الناس يستعملونهما على شكلِ قِطع متباينةِ الحجم، والوزن، والنقاء، سواء كانتْ تبرًا، أو مصوغة في صورة الحُلي، أو الأواني وغيرها، وكان التعامُل بها يتمُّ بالوزن.
ثم شَرَع الناسُ في سَبْكِ النقود مِن الذهب في بعضِ البلاد، ومن الفِضَّة في بلاد أخرى، كوحدات متساوية في الحجْم والوزن والنقاء، مختومة بختْم رسمي يَشْهَد بسلامتها، وقابليتها للتداوُل، وكانتْ قيمةُ القطعة الاسمية مساويةً لقِيمة ما تحتويه مِن ذهب أو فِضَّة.
وجَدَ الناس أنَّ القطع النقدية سواء كانتْ مِن الذهب أو الفضة، وإن كان يخفُّ حملها بالنِّسبة إلى السِّلع النقدية، ولكنَّها في جانب آخر يسهُل سَرِقتُها في نفس الوقت، فكان من الصعْب على الأثرياء أن يُخزِّنوا كمياتٍ كبيرةً من هذه القطع في بيوتهم، فبدأ الناس في أوربا في القرن السابع عشر يُودِعون هذه الكمياتِ الكبيرةَ عند بعض الصاغة على أساس أنَّ هؤلاء الصياغ يَملِكون خزائنَ بعيدةً عن السرقة والضياع، في نظيرِ أن يُعطيَهم هؤلاء الصاغة شهادة، أو إيصالاً بما أوْدَعوه بدقَّة، ويتعهَّدوا بردِّ هذه المعادن عندَ الطلب.
ولما ازدادتْ ثِقةُ الناس بهؤلاء الصاغة صارتْ هذه الإيصالات تُستعمَل في دفْع الثمن عندَ البيعات، فكان المشتري بدل أن يدفع القِيمة نقدًا يُسلِّم إلى البائع سندًا مِن هذه الإيصالات بعدَ تظهيره للغيْر، وكان البائعُ يَقْبَلُها ثِقةً بالصاغة الذين أصْدروها.
ثم تطوَّر الأمرُ، وأصبحت هذه الإيصالات متشابهةً؛ بحيث انتفى تدوينُ اسم مودِع السبائك عليها، فأصبحتْ تتداول بدون تظهير، بل بمجرَّد التَّسليم مع بقاء تعهُّدِ الصاغة بالوفاء بها عندَ الطلب بسبائك ذهبيَّة.
هذه هي بدايةُ الأوراق النقديَّة، فهي في بدايةِ أمرها لَم تكن لها صورةٌ رسمية، ولا سُلْطَة تلزم بقَبولها، وإنَّما كان المرجِعُ في قَبولها وردِّها إلى ثِقة البائع أو الدائن بمَن أصدرها.
وحين كثُر تداول الإيصالات في السوق في مطلع القرنِ السابع عشر الميلادي، تَطوَّرتْ هذه الأَوْراق إلى صورةٍ رسميَّة تُسمَّى (البنكنوت)، ويقال: إنَّ بنك "استاك هوم" بالسويد أوَّلَ مَن أصدرها كأوراقٍ نقدية، وكانتْ هذه الأوراق النقدية آنذاك مغطاةً بغطاء كامِل عندَ البنك الذي أصدرها، ومدعومةً بالذهب بنِسبة مائة في المائة، وكان البنك يلتزمُ ألاَّ يُصدِر هذه الأوراق إلا بقدر ما عندَه مِن الذهب، وكان لكلِّ مَن يحمل هذه الأوراق أن يذهبَ بها متى شاء إلى البنك، ويحول ما شاء منها إلى سبائكِ الذهب.
وفي مرحلةٍ ثالثة تبيَّن لأصحاب الصاغة أنَّ الإيصالات التي أصدروها لم تكن في غالب الأحيانِ ترجع إليهم؛ ليصرفوا قيمتها بالمعادن، وإنما جزءٌ يسير مِن حملة هذه الأوراق يقوم بذلك، وهذا ما دفَع أصحابَ الصاغة رغبةً في الربح أن يُصدِروا من الأوراق ما يجاوز قِيمةَ العملة المعدنية المحتفَظ بها لديهم كغِطاء.
وحينئذٍ اضطرت السلطات العامَّة للتدخُّل، وتكليف مؤسَّسات ذات طبيعة خاصَّة (مؤسَّسات الإصدار أو المصارف المركزيَّة)، باحتكارِ إصدار هذه النُّقود، وإحكام رقابتها.
تبيَّن للسلطات في ذلك الوقتِ أنَّه من الصعوبةِ المحافظةُ على مِثل هذه التغطية الذَّهبية الكاملة للنقود الورقيَّة في المدَى الطويل، فاحتياجاتُ النموِّ الاقتصادي وتمويل المشاريع في السِّلْم والحرب تتطلَّب زيادةً مستمرَّةً وملموسة في كميَّة النقود المتداوَلة، بينما الرصيدُ الذَّهبي ينمو بمعدَّلات ضئيلة بفِعْل القيود الطبيعيَّة، فلجأت إلى طبْع كميات كبيرة مِن النقود الورقيَّة تَزيد عن كمية الذهب الموجودة عندَهم؛ لتستعملها في سدِّ حاجاتها، فصار غطاء الأوراق النقدية يتناقص شيئًا فشيئًا، وهبطتْ نِسبةُ دعْمها بالذهب الحقيقي عن المائة بالمائة إلى نِسبةٍ أدْنَى بكثير، وذلك لأنَّ البنوك التي تصدر الأوراق النقدية كانتْ تستيقن بأنَّ جميعَ هذه الأوراق لا يُطلب تحويلها إلى الذَّهب في وقتٍ واحد، وقد قَبِلها الناس رغمَ أنَّ هذه الأوراق لم تكن مدعومةً بالكامل بالذهب نتيجةَ ثقتهم بأنَّ مصدرها يقدِرُ على تحويلها إلى الذَّهَبِ كلَّما طلب منه ذلك، بفضل الذهب الموجود عندَه، وإنْ كانت كمية الذهب أقلَّ مِن كمية الأوراق الصادرة مِن عنده، وأنَّ هذه الأوراق النقدية كانتْ تُسمَّى نقود الثقة.
بدأتْ نقود الثقة تتزايد إلى حدِّ أنَّ الأوراق بلغتْ أضعافَ مقدار الذهب الموجود في البلاد، ممَّا حمل إنكلترا إلى تعطيلِ تحويل هذه الأوراق إلى الذهب بعدَ حرب عام 1914 م، ثم عادتْ إلى جواز التحويلِ في سنة 1925، ولكن بشرْط: أنَّ ما يُطلب من البنك تحويله لا يكون أقل مِن ألف وسبعمائة جنيه بما جعَل عامَّة الناس لا يَقْدِرون على تحويل أوراقهم إلى الذهب، ولكنَّهم لم يحتفلوا بذلك لشيوعِ الأوراق كنقدٍ قانوني تنفعُهم في متاجراتهم الأهلية.
وفي عام 1931م منعتْ حكومة بريطانيا مِن تحويلِ الأوراق إلى الذهب إطلاقًا، حتى ولو طلب أكثر مِن ألف وسبعمائة جنيه، وأَلزمتِ الناس أن يقتنعوا بهذه الأوراق كبديلٍ للذهب، ويَتعاملوا بها في سائرِ مداولاتهم، ولكن الحكومات استمرَّتْ في احترام حقِّ بعضها لبعض، فإنَّ تحويل الأوراق وإنْ كان ممنوعًا داخلَ البلاد، ولكن كانتْ كلُّ دولة ملتزمةً بتحويل عملتها إلى الذهب لدولة أخرى إن تَقدَّمت إليها بعُملة الدولة الأولى، فلو شاءتْ أمريكا مثلاً أن تتقدَّم بأوراق جنيهات إسترلينية إلى إنكلترا، فإنَّ إنكلترا ملتزمة بتحويلِ تلك الأوراق إلى الذَّهَب، ويُسمَّى هذا النظام: قاعدة التعامُل بالذَّهَب.
ظلَّ هذا العمل بهذه القاعِدة مُستمرًّا إلى أنْ واجهتِ الولاياتُ المتحدة أزمةً شديدةً في سعر دولارها، وتدفَّق الذهب منها في سَنَة 1971م، فاضطُرَّتْ إلى إيقاف تحويل الدولار إلى ذهب حتى للدول، وذلك في تاريخ 15 من شهر أغسطس، سنة 1973، وبهذا قُضِي على آخِرِ شكل مِن دعْم الأوراق بالذهب، وأصبحت هذه النقود مُجرَّد قصاصة ليستْ لها قيمةٌ ذاتية كسِلعة، وإنما تُعتبَر قوَّة شِرائية بناء على ثِقة الأفراد فيها وأمر القانون، فاكتمَل بذلك تطوُّر النقود الورقيَّة، حتى أصبحتْ نقودًا ائتمانية خالِصة، بحيث أصبحتِ النقود الورقية تُمثِّل الصورةَ العامَّة للنقود في الاقتصاد المعاصر.
فهي نقودٌ قانونيَّة، يصبغ عليها القانون صِفةَ الشرعية، ولها القُدرةُ على تسويةِ الدُّيون، والإبراء منها، وهي تُمثِّل قِمَّة السيولة، حيث يمكنها أن تتحوَّل مباشرةً إلى سِلع وخِدْمات بحسب قوَّتها الشرائية، أو يحتفظ بها كما هي، وهي أيضًا نقودٌ نهائية؛ أي: لا تتحوَّل إلى ذهب، فلا يجوز لحاملِها تقديمُها إلى المصرف المركزي لتحويلها إلى ذهبٍ أو فِضَّة، وإنما ذلك هو مجرَّد أثرٍ تاريخي فحسب، والشكل الأساسي لهذه النقود يَتمثَّل في أوراقِ البنكنوت التي تُصدرها البنوكُ المركزية، ولها وحدة قياس خاصَّة بكلِّ قُطر، وتخضع لرقابة المصرف المركزي والحكومة، وتُحدَّد كميتها طبقًا للسياسة النقدية المتبعة، واتِّفاقًا مع حاجة المعاملات والمبادلات، وهذا يعني القدرةَ على تغيُّر كميتها حسبَ ظروف الزمان والمكان.
وبهذا نكون قد عَرَفْنا أنَّ النظام النقدي في العالَم لم يكن قائمًا على طَوْرٍ واحد في حقيقتها، ومكانتها النِّظامية، وإنما مَرَّت عليها أدوارٌ وأطوارٌ شتَّى، تنقَّلت فيها مِن كونها سنداتٍ للديون في مبدأ أمرها إلى أن تحوَّلَتْ إلى أثمان عُرْفية، وبهذا نعرِف أنَّ الخلاف الفقهي في تكييفها لا يَرجِع إلى خلافٍ حقيقي، وإنما يرجع إلى الحُكم عليها مِن خلال مراحلِ نموِّها وتطوُّرِها.
فالذي يقول: إنَّها مجرَّد وثيقة بدَيْن، فذلك يَرجِع إلى بدايةِ نشأتها، ومثله الذي يقول: إنَّها قائمةٌ مقامَ الذهب والفضة باعتبار أنها كانتْ في مرحلة مِن تاريخها مغطاةً بالذهب والفِضَّة، وأمَّا الذي يرى أنَّها أثمانٌ عُرْفيةٌ قائمة بذاتها، حَكَم عليها بالنسبة لمآلها التي آلتْ إليه.
ولم يقفِ التطورُ النقديُّ عندَ هذا الحد، بل ما زال الأمرُ يتطوَّر، وما زالتِ المجتمعات تُحدِث أشكالاً من النقود، ونستطيع أن نقول: إنَّ المجتمعاتِ اليوم تَعرِف - وبشكل واسع جدًّا - ما يُعرَف بالنقود الائتمانية، وهذا جزءٌ من تاريخ التطوُّرِ النقدي للمجتمعات الإنسانية، فهو يُعبِّر عن مرحلة مِن مراحلِ تطوُّرِ النقد، ولقد تنبأ الكاتبُ الأمريكي (Edward Beamy) في عام 1888م في كتابه (looking Backward) أنَّه بحلول عام 2000 م سوف يحلُّ محلَّ النقود بطاقاتٌ للشراء محدَّدة القِيمة، وسوف تسمح لحاملها بالحصولِ على الائتمان دونَ الحاجةِ إلى حمْل النقود؛ ليستغنيَ المجتمع بها عن النقود، وستكون النقودُ الائتمانية وبطاقات الائتمان محلَّ عناية لمقال قادم - إن شاء الله تعالى.
وبعدَ هذا الموجَز التاريخي للأوراق النقدية نُريد أن نَعرِف حُكمَ جريان الرِّبا فيها بناءً على فَهْم حقيقتها.
خلاف العلماء في جريان الرِّبا في النقود الورقية:
بالنِّسبة إلى رِبا القرْض، فإنَّه يجري فيها قولاً واحدًا؛ لأنَّ ربا القرْض لا يختصُّ بمال دون آخَر، بل كل منفعة مشروطة، أو متعارَف عليها يأخذها المقرِض على المقترِض، فهي مِنَ الربا المُجمَع على تحريمه، وإنَّما الخلافُ في جريان الربا في الأوراق النقدية إنَّما هو في البيوع خاصَّة.
كما أنَّ هذه الأوراق النقدية لم تكن معروفةً عندَ قدماء فقهاء الإسلام؛ لعدمِ تداولها في زَمنهم؛ ولذا سيكون العزوُ في البحْث إلى أقول المتأخِّرين مِن الفقهاء حين توجَّهوا لها بالبحْث بعد أن كثُرَ تداولها، وقامتِ الأسئلة الملحَّة في أحكامها، من حيثُ وجوب الزكاة فيها، وجعلها رأسَ مال في عقْد السَّلَم، وجريان الرِّبا فيها إلى غيرِ ذلك من المباحِث التي تصدَّوْا لها بالبحث، ويرجِع الخلاف فيها إلى خمسة أقوال:
القول الأول: أنَّ الأوراق النقدية إسنادٌ بدَين على جِهة إصدارها، وهي مؤسَّسة النقْد، أو البنك المركزي.
وبه قال الشيخ الشنقيطي في "أضواء البيان"، وعبدالقادر أحمد بن بدران، وأحمد الحسيني، وبعضُ مشيخة الأزهر، وبه أفتَى معظمُ علماء الهند وباكستان.
وقد استندَ أصحابُ هذا القول على ما يأتي:
(1) أنَّ هذه الأوراق ليس لها قِيمةٌ في ذاتها، وإنما قِيمتها في التعهُّد المسجَّل على كلِّ ورقة نقدية بتسليمِ قِيمتها لحاملها عندَ طلبه.
(2) ضرورة تَغطيتها بذَهَب أو فِضَّة، أو بهما معًا في خزائن مُصدِّريها.
(3) ضمان سُلطات الإصدار قِيمتها عندَ إبطالها، ومنع التعامُل بها، بخلاف الذهب والفِضَّة فإنَّ قِيمَتَهما في ذاتهما، ولا تلتزم الحكومةُ بدفع بدلهما عندَ هلاكهما.
كما استَندَ أصحابُ هذا القول إلى ما نصَّ عليه (لاروس)، أكبرُ وأشهر قاموس للغة الفرنسية في تعريفِ أوراق (بنكنوت) حيث يقول: "ورقة البنك عُملةٌ قابلة لدفْع قِيمتها عينًا لدَى الاطلاع لحاملها، وهي يُتعامل بها كما يُتعامل بالعملة المعدنية نفسها، غير أنَّه ينبغي أن تكونَ مضمونةً ليِثقَ الناس بالتعامل بها".
الأحكام المترتبة على هذا القول:
يترتَّب على القول بأنَّ الأوراقَ النقديةَ سنداتٌ بدَين نتائج وأحكام شرعيَّة، من ذلك:
(أ) منْع كلِّ المعاملات التي يُشترَط لصحتها التقابضُ في مجلس العقْد، من ذلك: لا يصحُّ جعلها رأسَ مال في عقْد السَّلَم؛ لأنَّ من شروط صحَّة السَّلَم قبضَ رأس مال السَّلَم في مجلس العقد، والأوراق النقدية تُعتبر سندًا بدَيْن، فلا يُعتبر قبضُها قبضًا لما تحتويه.
كما لا يجوز صرفُها بنقد معدني مِن ذهب أو فِضَّة، ولو كان يدًا بيد؛ لأنَّ مِن شروط الصَّرْف التقابضَ في مجلس العقد، والورقة النقدية على رأيِ أصحاب هذا القول وثيقةٌ بدَيْنٍ غائب عن مجلس العقد.
ومِن ذلك لا يجوز بيعُ ما في الذمَّة بهذه الأوراق حتى لا يُؤدِّي ذلك إلى بيع الكالئ بالكالئ؛ أي: بيع الدَّيْن بالدَّيْن.
(ب) عدم زَكاتها على قول مَن يرى أنَّ الدَّيْن لا تجب زكاتُه قبل قبضه، حتى يقبضَ ما يقابل هذه السندات.
مناقشة هذا القول:
والحقُّ أنَّ هذا القولَ يصدُق على الأوراق النقدية في مرحلة مِن مراحلِ تطورها، فهي كانتْ وثائقَ للديون في مبدأِ أمرها، وليستْ أموالاً، ولا أثمانًا، وأمَّا الآن لا يصدُق عليها ذلك بعد أن أصبحَ لها قِيمةٌ ذاتية؛ لأنَّ التعهُّد القاضي بتسليم المبلغ المرقوم على الورقة والذي كان مطبوعًا على هذه السندات في مرحلةٍ مِن تاريخها قد سُحِب، ولم يَعُدْ مطبوعًا، وقد تحوَّلتْ إلى نقودٍ إلزاميَّة لا تقبل الاستبدالَ بذهبٍ أو فِضَّة.
كما أنَّ الاستدلالَ على سنديتها بضرورةِ تغطيتها جميعًا بذهب أو فِضَّة، أو بهما معًا كان ذلك أيضًا في مرحلةٍ من تاريخها، ولم يعُدْ مُلحًّا الآن، فلم تقُمْ حاجةٌ إلى تغطيتها جميعها، وإنما قد يُغطَّى بعضها، ولا يلزم أن يكونَ الغِطاءُ ذهبًا، بل ربَّما كان مِن أمور عِدَّة، وذلك مثل الذَّهب، والعُملات الورقيَّة القويَّة، وهذه التغطية ليستْ نتيجةً للتعهُّد الصادر مِن مصدريها، ولكن حاجة الاقتصاد إلى وجودِ غطاء داعِم يُوفِّر الاستقرار للاقتصاد، ويدعم حركةَ تبادل المال، ويُوفِّر التزامًا سلطانيًّا بضمان قِيمة النقْد في حال تعرُّضِه للبطلان.
وأمَّا انتفاء القِيمة الذاتية لهذه الأوراق فليس في هذا دليلٌ على سنديتها؛ لأنَّ النقد قد سبَق لنا تعريفُه: بأنَّه ينطبق على كلِّ شيء يَلْقَى قَبولاً عامًّا، ويكون وسيطًا للتبادل، هذا مِن جهة، ومِن جهة أخرى فإنَّ النقود المعدنية لها قيمةٌ أكبرُ مِن قيمتها الذاتية، ومع ذلك لم يقلْ أحد: إنَّ الزيادة على قِيمتها الذاتية تُعتبَر سندًا على الدولة.
وأمَّا ضمان سلطاتِ إصدارها قيمتَها وقتَ إبطالها، ومنْع التعامل بها، فهذا سِرُّ اعتبارها والثقة بتموُّلها، وتداولها؛ إذ إنَّ قِيمتها ليستْ في ذاتها، وإنما هي في ضمانِ السلطات لها، وليس في هذا دَلالةٌ على اعتبارها سندًا بدَيْن على مصدريها.
القول الثاني: إنَّ الأوراق النقديَّة عَرَض مِن العُروض، لها ما للعروض مِنَ الخصائص والأحكام.
وبهذا قال الشيخ عليش المالكي، وعليه كثيرٌ من متأخِّري المالكية، واختاره شيخُ شيخِنا عبدالرحمن السعدي، والشيخ يحيى آمال، والشيخ سليمان بن حمدان، والشيخ علي الهندي، والشيخ حسن أيوب.
وجه كون الورق النقدي عُروضًا:
أولاً: تخريج الورق النقدي باعتبارِه مالاً متقومًا مدخَّرًا، يُباع ويُشترَى كالسِّلع، فيأخذ حُكمَها.
ثانيًا: أنَّ حقيقةَ الورق النقدي ليس ذهبًا ولا فِضَّة، لا في شَرْع، ولا في لُغَة، ولا في عُرْف، فلا يَثبُت له أحكامُ الذهب والفِضَّة، وأدلَّة التحريم في جريان الرِّبا إنما هو في جِنس الذَّهب والفِضَّة، ولا تتناول هذه الأوراق.
ثالثًا: أنَّ الورق النقدي يُخالِف الذهب والفضَّة في المعيار، ويُخالفها في الجِنس، وأما المعيار فإنَّ الذهب والفِضَّة معيارُه الوزن، بخلاف الأوراق النقديَّة، حيث لا تُكال ولا تُوزن، فانتفى إمكانُ المماثلة في القَدْر بين الأوراق وبين الذهب والفِضَّة، كما أنَّ جنس كلٍّ منهما مختلِف عنِ الآخر، فالنقود أوراق، والذهب والفِضَّة معدن، فانتفَى الجامع بين الورق النقدي وبيْن الذهب والفِضَّة مِن كلِّ وجه، وعليه فلا يمكن اعتبارُه جِنسًا من الأجناس الرِّبويَّة المنصوص عليها، وكون الورق النقدي يتَّصف بالثمنيَّة كالنقدين، فلا يكفي لجريانِ الرِّبا؛ لكونه يخالف النقدَيْن في ذاته ومعدنه، فلا يُعطَى حُكمَ الذهب والفضة، كما أنَّ أنواع الجواهر الثمينة لا يُحكَم لها بأحكامِ النقدين، وإلا أدخلْنا في كلامِ الشارع ما ليس منه.
الرابع: أنَّ الأصلَ في المعاملات الحِلُّ، حتى يَرِدَ دليلُ المنع، وليس عندنا دليلٌ يمنَع مِن التفاضُل والنَّساء في تبادُلِ الأوراق النقدية بعضها ببعض.
الأحكام ا لمترتِّبة على هذا القول:
عدم وجوبِ الزكاة فيها ما لم تُعدَّ للتجارة؛ لأنَّ مِن شروط وجوب الزكاة في العُروض إعدادَها للتجارة.
أنَّه لا يجري فيها لا رِبا الفَضْل، ولا رِبا النَّسيئة، فيجوز بيْع بعضها ببعضٍ متفاضلاً، كما يجوز بيْعُ بعضها ببعضٍ نسيئة، فلا تجري عليها أحكامُ الصَّرْف؛ لأنَّها ليستْ ذهبًا ولا فِضَّة.
كما أنَّه لا يجوز أن تكونَ رأسَ مال في عقد السَّلَم لدَى مَن يقول باشتراط أن يكون رأس مال السَّلَم نقدًا من ذهب أو فِضَّة، أو غيرهما من أنواع النقد؛ لأنَّ الأوراق النقدية بمقتضى هذا القول عُروض، وليست أثمانًا.
ويناقش هذا القول:
بأنَّ هذا القولَ خطير جدًّا؛ حيث يفتح بابَ الرِّبا على مصراعيه للبنوك الرِّبويَّة، وبدلاً مِن تقديم القروض بفوائدَ مُجْمَعٍ على تحريمها تستبدل ذلك بأنْ تبيع الدراهم بدارهم أكثرَ منها نسيئة، دون أن تُغيِّر شيئًا في حقيقةِ المعاملة، كما أنَّه سيَحرِم الفقراء كثيرًا من أموال الزكاة.
وأمَّا القول بأنَّ الورق النقدي يخالف الذهبَ والفِضَّة في المعيار، حيث إنَّ التقدير في الذهب والفضة الوزن، وأمَّا الأوراق النقدية فليست مكيلةً ولا موزونة، فهذا يُقال لمَن يقول: إنَّ علة الربا في الذهب والفضة الوزن، وأمَّا مَن يرى أنَّ علة الربا هي مطلق الثمنيَّة كما رجَّحْنا عندَ الكلام على عِلَّة الربا في الذهب والفِضَّة، فلا يعترض عليه بذلك، وسنزيد الأمرَ إيضاحًا - إن شاء الله تعالى - عندَ الكلام على بيانِ الراجح.
القول الثالث: أنها مُلحَقة بالفلوس.
وجه هذا القول:
أنَّ الأوراق النقدية تُشبِه الفلوسَ من حيث:
رواجها، وطروء الثمنية عليها، فكلاهما نقدٌ اصطلاحي، وكلاهما ليسا ذهبًا ولا فضَّة.
إلاَّ أنَّهم اختلفوا في مقتضياتِ هذا القول، كما اختلفوا في الفلوس:
فمَن اعتبر الفلوسَ عُروضًا اعتبَر النقود عُروضًا، فلم يُوجِبِ الزكاةَ فيها إلا بنيَّة التجارة، ولم يُجْرِ الربا فيها بنوعيه.
ومَن اعتبر الفلوسَ أثمانًا ألْحَق الأوراق النقدية بالنقدين في وجوبِ الزكاة، وجريان رِبا النسيئة فيها، إلا أنَّه لم يُلحقْها بالنقدين في ربا الفضل، فأجاز بيعَ بعضها ببعض متفاضلاً إذا كان يدًا بيد، وهذا ما ذهب إليه الشيخ عبدالرحمن السعدي، وشيخُنا ابن عثيمين - عليهما رحمة الله.
وقد استند أصحابُ هذا القول في التفريقِ بيْن رِبا الفضل وربا النسيئة إلى مبرِّرات، منها:
(أ) أنَّ ربا الفضْل حُرِّم تحريمَ وسائل؛ لكونه وسيلةً إلى رِبا النسيئة.
(ب) أنَّ الأوراقَ غيرُ منقودة حقيقة.
(ج) أنَّ بعض العلماء أجاز بيعَ الفلوس بعضها ببعض، أو بأحد النقدين مع التفاضُلِ إذا كان يدًا بيد، ومَنَع ذلك مؤجَّلاً؛ والأوراق إلى الفلوس أقرب منها إلى النقدين.
(د) أنَّ رِبا الفضل أُبيح منه ما تدعو الحاجةُ إليه كمسألة العرايا.
(هـ) أنَّ بعض العلماء أجاز بيعَ الحُليِّ من الذهب بالدنانير، وبيع الحليِّ من الفِضَّة بالدراهم متفاضلاً يدًا بيد، فجعلوا للصنعة أثرًا.
(و) أنَّ الرِّيال المعدني السعودي يختلف عن الرِّيال الورقي السعودي، وإنْ كانت جهة الإصدار واحِدة؛ لأنَّ حقيقة الأمر أنَّ هذا جنسٌ مقصود بنفسه، وذلك جنس مقصودٌ بنفسه أيضًا، وكوننا نقول: إنَّ هذا الرِّيالَ الورقي يقابل هذا الريال المعدني في قيمته النظامية، لا يلزم أن يكون مساويًا له في قيمته الحقيقيَّة.
ويناقش هذا القول:
بأنَّ قياس الورق النقدي على الفلوس مِن القياس الفاسِد لسببين:
الأول: يُشترَط في المقيس عليه - الأصل - أن يكون له حُكمٌ ثابت بنفْسِه، فإنْ لم يوجدْ له حكمٌ ثابت من الكتاب أو السُّنَّة، أو الإجماع فلا يصحُّ جعله أصلاً يُقاس عليه؛ لعدمِ وجود حُكْم الأصل.
الثاني: مِن شروط حُكمِ الأصل أن يَثبُتَ بغير القياس في أشهر أقوالِ الأصوليِّين، أما الحُكْم الثابِت بالقياس، فلا يُقاس عليه؛ لاستلزامِه وجودَ قياسين، أحدهما: لإثبات حُكْم الأصل، والثاني لإثبات حُكم الفَرْع، فإذا اتحد القياسان في العلَّة، فلا حاجةَ للقياس الثاني، فالفلوس مقيسةٌ على النقدين، والورق النقدي يجب أن يُقاس عليهما، لا على الفلوس بجامِع الثمنيَّة.
وحُكم الفلوس ثابتٌ عند المالكية بقياسها على الذهب والفِضَّة، فيمكن قياسُ الورق النقدي على الأصْل المقيس عليه، وهو الذهب والفِضَّة.
هذا مِن جهة، ومِن جهة أخرى فإنَّ هناك فرْقًا كبيرًا بيْن الأوراق النقدية والفلوس يجعل مِن القياس قياسًا مع الفارِق، مِن ذلك:
أنَّ الأوراق النقدية تتمتَّع بقوة إبراء غيْر محدودة، فهي موغلة في الثمنيَّة إيغالاً شديدًا، حتى تَغلَّبَ الورق النقدي على الذهب والفضة؛ حيث لم يَعُدِ الناس يتعاملون بالذهب والفِضَّة كأثمان، واستبدلوهما بهذه الأرواق بخلافِ الفلوس، فإنَّها لا تتمتَّع إلا بقوَّة إبراء محدودة، ولذلك مَن صار أكثر ماله مِن الفلوس عُدَّ مفلِسًا، ولا يتعامل بالفلوس إلا في المحقَّرات دون الأشياء الثمينة.
يقول المقريزي: إنَّ الفلوس لم يجعلْها الله سبحانه نقدًا في قديم الدهر وحديثه، حتى راجتْ في أيَّام الناصر فرج بن برقوق 808 هـ، وكان قبيحَ السِّيرة، وقد حَدَث من رواج الفلوس خرابُ الإقليم وذَهابُ نِعمة أهل مصر، فإنَّ الفضَّة هي النقد الشرعي، أما الفلوس فهي أشبهُ شيءٍ بلا شيء، فيصير المضاف مضافًا إليه... إلى أن يقول: ولا يُعلَم في خبرٍ صحيح ولا سقيم عن أُمَّة من الأمم اتَّخذوا نقدًا غير الذهب والفِضَّة، أمَّا السفاسف والمحقَّرات والتوافه فقدِ احتاج الناس لشرائها بأقلَّ مِن الدرهم وأجزائه، فكانت الفلوسُ وسيلةَ هذه المبادلات، ولكنَّها لم تكن نقدًا البتةَ، ولم يوجدْ منها إلا اليسير، ولم تقُمْ في إقليمٍ ما بمنزلة النقدين.
فهذه الفروقُ لها أثرُها الواضِح في تمييز الأوراق النقدية عن الفلوس، فلا يصحُّ أن تكونَ هذه الأوراق مقيسةً على الفلوس.
وعلى التسليم بأنَّ هناك شبهًا بيْن الفلوس وبيْن النقود، فإنَّ القول بجواز التفاضُلِ دون رِبا النسيئة تفريقٌ لا يقوم على دليل؛ لأنَّنا إذا حرَّمْنا فيها النسيئة في الأوراق النقدية، فيلزم أن نُحرِّم التفاضُلَ فيها؛ لأنَّه وسيلة إلى ربا النسيئة بِناءً على قاعدة سدِّ الذرائع.
والمعروف في الشَّرْع أنَّ الجنس الواحِد مِن الرِّبويات يحرم فيه ربا الفضل وربا النسيئة، كالذهب بالذهب، والفِضَّة بالفضَّة، فهكذا الورق النقدي إذا كان صادرًا من بلدٍ واحد؛ لأنَّه جِنس واحد، والعلَّة فيه واحدة، والمبرِّرات التي ذكَرها - خصوصًا دعوى الحاجة إلى جريان التفاضُل في الأوراق - لا تَكفي؛ لأنَّ مجرَّد دفْع الحاجة لا يكفي مبرِّرًا لإباحةِ الشيء دون نظَرٍ إلى الضرر المترتِّب عليه، إذ من المعلوم أنَّ درءَ المفسدة مُقدَّم على جلْب المصلحة، وقوله: إنَّ ربا الفضل أُبيح منه ما تدعو الحاجةُ إليه كمسألة العرايا.
وأجاز كثيرٌ مِنْ أهْلِ العلم بيْع الحليِّ مِنَ الذهب أو الفضَّة بمثله مُتفاضلاً، فيُجاب عنه: بأنَّ العرايا قدِ استثناها النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ممَّا نَهَى عنه من المزابنة، وهي أن يَشتري الرُّطَب في الشجر بخَرْصه من التَّمْر؛ لأنَّه إذا لم يعلمِ التماثُل في ذلك لم يَجُزِ البيع، ولهذا يقول الفقهاء: الجهلُ بالتساوي كالعِلم بالتفاضل، والتماثُل يُعلم بالوزن والكيل، وأمَّا الخَرْص فيعمل به عندَ الحاجة، فالعرايا رُخْصة رَخَّص فيها الشارعُ تُقدَّر بما ورد به النصُّ فقط، ولا يُقاس على الرُّخص؛ لأنَّها استثناءٌ مِن النهي، وليس فيها تفاضُلٌ محقَّق، بل يجتهد في خرْصها وتماثلها، فإنْ حصل بعد ذلك فيها تفاضل فهو غير متعمَّد، ثم هل بلغتِ الحاجة إلى التفاضُل في الأوراق النقديَّة مبلغَ الحاجة إلى العرايا التي رخص فيها رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم؟
وأمَّا مسألة إجازة بعضِ العلماء بيعَ الحُليِّ المصوغ من الذهب أو الفضة بمثله متفاضلاً، فهي مسألةٌ اجتهاديَّة تفتقر إلى دليل، والراجِح المنع، وقد حُكِي في منْعها الإجماع، فلا يصحُّ أن تُتَّخذ دليلاً لِمَا نحن فيه، والله أعلم.
نعم لو أنَّه قيل بالتفاضُلِ بين الجِنس المعدني مِنَ الريالات، والجنس الورقي كان الأمرُ قد يُقْبَل، باعتبار أنَّ المسوغ للتفاضُل ليس كونها بمنزلة الفلوس، وإنَّما المسوغ للتفاضُل اختلافُ الجنس، كما قيل باختلاف التفاضُل عندَ اختلاف جِهة الإصدار بيْن الرِّيال السعودي والرِّيال القَطري، وإنْ كان كلٌّ منهما يُسمَّى رِيالاً، فالرِّيالات المعدنية السعودية جِنس، والرِّيالات الورقيَّة السعودية جنس، ولا أثَرَ لمجرَّد الاشتراك في الاسمِ مع الاختلافِ في الحقيقة، لو كان هذا هو المسوِّغ للتفاضل كان الأمرُ أهونَ مِن كون المسوغ للتفاضل بين الريالات السعودية كونها ملحقةً بالفلوس، والله أعلم.
القول الرابع: أنَّ الأوراق النقدية بدلٌ عن الذهب والفضَّة، وقد ذهب إلى هذا القول جماعةٌ مِن أهل العلم، منهم: فضيلة الشيخ عبدالرزاق عفيفي، عضو هيئة كبار العلماء بالسعودية في وقته، والشيخ حسنين مخلوف، واختار هذا القولَ الشيخ أحمد الساعاتي في بلوغ الأماني شرْح الفتح الربَّاني، ومحمد رشيد رضا، والشيخ يوسف القرضاوي.
دليل هذا القول:
الدليل الأول: ما رواه مسلمٌ من طريقِ سليمان بن يسار، عن أبي هُرَيرةَ: أنَّه قال لمرْوان: أحْلَلْتَ بيْعَ الرِّبا؟ فقال مرْوان: ما فعلتُ؟ فقال أبو هريرة أحْلَلْتَ بيع الصكاك، وقد نهى رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن بيعِ الطعام حتى يُستوفَى، قال فخَطب مرْوانُ الناس، فنهى عن بيعها.
قال سليمان: فنظرتُ إلى حَرَسٍ يأخذونها مِن أيدي الناس.
فالمراد بالصكاك هنا ورقةٌ تخرج من وليِّ الأمر بالرِّزْق لمستحقِّه، بأن يكتب فيها للإنسان كذا وكذا مِن طعام أو غيره، فيبيع صاحبُها ذلك لإنسان قبلَ أن يقبضَه، فإذا كانتْ هذه الصكاك قد أَخذتْ حكم الطعام؛ لأنَّها نابَتْ عن الطعام، فكذلك هذه الأوراق النقديَّة لها حكمُ الذهب والفضَّة؛ لأنَّها نابتْ منابَ الذَّهب والفِضَّة، وقد تقرَّر شرعًا أنَّ البدل له حُكمُ المُبدَل منه، فالمقصود مِن هذه الأوراق أن تكونَ أثمانًا نائبةً عن الذهب أو الفِضَّة.
الدليل الثاني: المقصود مِن هذه الأوراق أن تكونَ أثمانًا نائبةً عن الذهب أو الفضَّة، والأمور الشرعية بمقاصِدها ومعانيها، لا بألفاظها ومبانيها، ومَن نظر إلى المعاني الشرعيَّة، وعرَف الواقِع لم يكن لديه أدْنَى شكٍّ أنَّ الأوراق النقدية حالها حالُ الذهب والفضَّة.
الدليل الثالث: يقول الشيخ عبدالرزاق عفيفي في معرِض استدلاله لما يراه مِن كون الأوراق النقديَّة بديلاً عن الذَّهَب أو الفضَّة:
يقول - عليه رحمة الله -: "لما كانتِ الأوراق النقدية لا قِيمةَ لها في نفسها، ولم تكن قيمتُها مستمدَّةً مِن مجرَّد إصدار الدولة لها وحمايتها إيَّاها، وإنما قيمتُها فيما أكسبَها ثِقة الدول بها، وجعَلها مع سَنِّ الدولة لها قُوةً شرائية، وأثمانًا للسلع، ومِقياسًا للقِيَم، ومستودعًا عامًّا للادخار، ولَمَّا كان الذي أكْسَبها ذلك وجعَلَها صالحةً للحلول محلَّ ما سبقَها من العملات المعدنية هو ما استندَتْ إليه من الغطاء ذَهبًا أو فِضَّة أو ما يُقدَّر بهما من ممتلكات الدولة أو إنتاجها أو احتياطها، أو أوراق مالية أو أوراق تجارية - لَمَّا كان الأمر كذلك كانتِ الأوراقُ النقديَّة بدلاً عمَّا حلَّتْ محلَّه مِن عملات الذهب أو الفِضَّة التي سبقتْها في التعامل بها، وكانتْ تابعةً لهما، فما كان منها متفرِّعًا عن ذهَب فله حُكْم الذهب، وما كان منها متفرِّعًا عن فضَّة فله حُكْم الفِضَّة، وعلى هذا تجِب فيها الزكاة كأصلها، ويُقدَّر فيها النصاب بما قُدِّر به في أصلها، ويَجري فيها ربا الفضل والنسيئة مع اعتبار أنَّ ما كان منها متفرِّعًا عن فضَّة حسب الأصل جِنس، وما كان متفرعًا عن ذهب في الأصل جِنس، ولا يجوز بيْع الورقة النقدية بما تفرَّعت عنه من الذهب أو الفِضَّة مع التفاضُل، ويُعتبر قبضُ الأوراق النقدية في حُكم قبض ما حلَّتْ محله من الذهب أو الفضَّة، هذا، وليس بلازم أن يكونَ في خزينة الدولة ذهبٌ أو فضَّة بالفعل، ما دامتْ خاماتها وسائرُ إمكانياتها التي تُقدَّر بوحدتها السابقة مِن الذهب أو الفضة قائمة محقَّقة تقوم مقامَها في استمرار الثِّقة بالأوراق النقدية في دولة الإصدار وغيرها مِنَ الدول، وليس بلازمٍ أيضًا أن تُسلِّم مؤسسة النقد ذهبًا أو فضَّة لحامل الورقة النقدية مقابلَ ما فيها، ما دامتِ الأوراق النقدية تؤدِّي وظيفتَها، وتقوم بما أُنشِئت من أجله، فإنَّ لولي الأمر أن يتصرَّف في غطاء الأوراق النقدية، أيًّا كان الغطاء فيما يعود على أُمَّته بالمصلحة مِن وجوه تنمية الثروة، والترفيه عن الرعية؛ حتى لا تبقى مُعطَّلة في خزينةِ الدولة أو مُعرَّضة للتبديد والتهريبِ في أيدي الأفراد.
وبهذا يُعرَف أنَّ عدم وجود الغطاء في خزينة الدولة بالفِعل، وعدم ردِّ المقابل لحاملها لا يُعتبر إلغاءً للغطاء، ولا إبطالاً له، ما دام الغطاءُ الذي هو رُوح العملة، وسِرُّ الثِّقة بها - موجودًا قائمًا ممثلاً فيما يُثبِت ملاءة الدولة وقوَّة إمكانياتها، ويكسِب الثقةَ بها في الداخل والخارج من كل ما يُقدَّر بوحدتها التي كانتِ الدولة تتعامل بها قبلَ إصدار الأوراق النقدية.
وإنَّ وجود وحدة متَّفق عليها - كالذهب مثلاً - تُقاس بها موجوداتُ وإمكانيات الدول ليُعرَفَ بها مدى ملاءة كلِّ دولة بالنسبة للأخرى، لا يُنافي وجودَ غطاء لأوراق الدولة النقدية وإنْ تنوَّع، كما أنه لا يُنافي وجودَ وحدة خاصَّة بكلِّ دولة تتصل بعُملتها المعدنية السابقة...".
الأحكام المترتبة على هذا القول:
يترتَّب على هذا القول أحكام، منها:
(أ) إذا بُودِل بين نوعين مِنَ الورق النقدي متفرِّعَيْن عن ذهب أو فضَّة، امتنع التفاضُلُ بينهما، وإذا بُودِل بين جنسين مِن الورق أحدهما متفرِّع عن ذهب، والثاني متفرِّع عن فِضَّة جاز فيهما التفاضل، وامتنع فيهما التأخير.
(ب) جريان الرِّبا في الأوراق النقدية بنوعَيْه، وثبوت الزكاة فيها، وجواز جعْلها رأس مال في عقْد السَّلَم، ونحو ذلك.
يناقش هذا القول:
هذا القول مبنيٌّ على أنَّ الأوراق النقدية إنَّما كانتْ بديلاً للذهب والفِضَّة؛ لأنَّها مغطاة تغطيةً كاملة بذهب أو فِضَّة، وهذا إنَّما كان في مرحلةٍ مِن تاريخها، وأما واقعها الآن فهذا الغطاءُ قد أُلْغِي منذ زمن بعيد، ولم يعد إصدارُ الأوراق النقدية وقَبولها مستندًا إليه، وإنَّما تستمدُّ قوتها مِن قوة اقتصاد الدولة المصدِّرة لها، وملكيتها لمختلفِ وسائلِ الإنتاج، وتنوُّعِ ثروتها، نَعَمْ القليل منها قد يُغطَّى، ولا يلزم أن يكون مُغطًّى بذهب أو فضة.
القول الخامس: أنَّ الأوراقَ النقدية ثمنٌ مستقلٌّ، قائِم بذاته، ويُعتبر كلُّ نوع منها جنسًا مُستقلاًّ، فتتعدَّد الأجناس بتعدُّد جهات الإصدار، فالورق النقدي السعودي جِنس، والدولار الأمريكي جنس، والجنيه المصري جنس، والدِّينار الكويتي جنس، وهكذا.
وبهذا القول صَدَرت فتوى هيئة كبار العلماء بالبلاد السعودية، وقرار المَجْمع الفقهي الإسلامي بمكَّة المكرمة، وعليه أكثرُ الباحثين المعاصرين.
وجه قول مَن قال بهذا:
الوجه الأول:
أنَّ الراجح في عِلَّة جريان الرِّبا في الذهب والفضة مُطلَق الثمنية، وهذا يعني أنَّ الحكم ليس مقصورًا على الذهب والفِضَّة، بل يتعدَّاه إلى كلِّ ما يتَّخذه الناسُ ثمنًا للأشياء.
الوجه الثاني:
أنَّ حقيقة النقد: هو كلُّ شيء يَجري اعتباره في العادة، ويَلْقى قَبولاً عامًّا كوسيط للتبادل، كما قال ابن تيميَّة - رحمه الله -: "وأمَّا الدرهم والدينار فما يُعرَف له حدٌّ طبعي، ولا شرعي، بل مرجعُه إلى العادة والاصطلاح؛ وذلك لأنَّه في الأصل لا يتعلق المقصود به، بل الغرضُ أن يكون معيارًا لما يتعاملون به، والدراهم والدنانير لا تُقصد لنفسها، بل هي وسيلةٌ إلى التعامل بها، ولهذا كانتْ أثمانًا بخلاف سائرِ الأموال، فإنَّ المقصود بها الانتفاع بها بنفسها، فلهذا كانتْ مُقدَّرة بالأمور الطبعيَّة أو الشرعيَّة، والوسيلة المحضة التي لا يتعلَّق بها غرض، لا بمادتها ولا بصورتها يحصُل بها المقصود كيفما كانتْ".
وجاء في المدوَّنة: "قلت: أرأيتَ إنِ اشتريتُ فلوسًا بدراهم، فافترقْنا قبل أن يقبض كلُّ واحد منها؟
قال: لا يصلُح هذا في قولِ مالك، وهذا فاسدٌ، قال لي مالك في الفلوس: لا خيرَ فيها نَظِرَة بالذهب ولا بالوَرِق، ولو أنَّ الناس أجازوا بيْنهم الجلود حتى يكونَ لها سكة وعين لكرهتُها أن تباع بالذهب والورِق نَظِرة"، وهذا القولُ هو أقوى الأقوال، وأقربُها إلى الصواب، والله أعلم.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/0/29095/#ixzz3JGEowqr8