مستويات التفكير الإستدلالي.
واذا حاولنا تقصى أو فهم الأسباب التي جعلت التفكير الإستدلالي ينال هذا الإهتمام من قبل الباحثين في الحقبة المعاصره سنجد أنها متمثلة في المستويات التالية:
المستوى الإجتماعي: مساعدة الأفراد على النظر بعمق للمشاكل الإجتماعية التي يعاني منها المجتمع، وتحليل أحداثها، والفصل بين السبب والنتيجة، وإجراء تنبؤات مستقبلية لمسارات الأحداث اليومية، وتتبع ما تفضي إليه من نتائج، وتشخيص، وفهم عناصر الموقف على نحو دقيق مما يضمن للفرد الوصول إلى إستدلالات إجتماعية تتسم بالدقة النسبية وهذا من شأنه تحسين أداءه في مواقف التفاعل الإجتماعي.[1]
ويذكر هولين و تروان Hollin & Trowen بأننا حين نحلل أداء غير الماهرين إجتماعياً سنجدهم أكثر وقوعاً في الأخطاء الإستدلالية.[2]
المستوى الشخصي: هنالك الكثير من المواقف الحياتية التي تتطلب إتخاذ قرارات مستقبلية، وإفتراض فروض حيال هذه الأمور مثل إختيار تخصص معين، إقامة علاقة مع صديق، شراء سيارة معينة، بناء على معلومات، وحقائق متصلة بها لمحاولة للتنبؤ بالنتائج المترتبة على إتخاذه للقرار معين مما يسهم في جعل حياة الفرد الشخصية والمهنية أكثر تنظيماً.[3]
وعلى حد قول المفتي بأن التفكير الإستدلالي لم يعد قاصراً فقط على إكتساب المعرفة بل إمتد إلى الحياة الشخصية للأفراد الذين هم في حاجة للتفكير الإستدلالي لحل التناقضات من حولهم.[4]
فضلاً عن دوره في التحصين من الوقوع في التفسيرات غير المنطقية حول سلوك الآخر (كأن يعمم بأن شعب معين سيئ نتيجة لتصرف صدر من أحد أفراده ..)، فضلاً عن إقتصاره للوقت والجهد في الوصول إلى حلول لمشكلاتنا لما يتضمن من تحديد الحقائق،وتصنيفها، وإستنتاج النتائج، ووضع إفتراضات منطقية، وتحليل الملاحظات ذهنياً دون الحاجة إلى تطبيقها في الواقع.
المستوى التعليمي: التفكير الإستدلالي مرتبط بالتحصيل الدراسي بشكل عام، فقد توصل كيلي إلى أن الإرتباط بين التفكير الإستدلالي والتحصيل الدراسي بلغ ٨٧ , وفي دراسة أجرها دوزاير على عينة من ١٠٥ طالبا وطالبة في المرحلة المتوسطة في ولايه كارولينا الجنوبية توصل إلى أن هناك علاقة إيجابية بين الإستدلال المنطقي والتحصيل الدراسي في مادة العلوم لم تقتصر هذه العلاقة على المواد العلمية بل أيضا المواد الأدبية، فقد توصل لوسون إلى وجود علاقة بين الإستدلال الشكلي والتحصيل الدراسي في مواد القراءة، والأدب، والمواد الإجتماعية، والرياضيات، وقد بلغ متوسط هذه الإرتباطات ٧٦. [5]
وفي هذا السياق يتفق عدد من الباحثين بأن النجاح في الكثير من المواد الدراسية العلمية والأدبية يتوقف إلى حد كبير على القدرة الإستدلالية للطالب.[6]
بالإضافة إلى أن المهارات الإستدلالية تمارس دوراً موجباً في حدوث عملية التعليم, فعند قيام الطالب باكتشاف الذاتي للعلاقات في مسالة معينة يساعده في فهما، وتذكرها بشكل صحيح، وأيضا عندما يتبع المعلم الطريقة الإستدلالية في توضيح الخطأ الذي يقع فيه الطلاب من خلال تتبع القاعدة التي توصل عن طريقها إلى النتيجة.
ومن جهة أخرى يستخدم الإستدلال كمهنج للبحث في فروع المعرفة المختلفة مثل الرياضيات، والفلسفة، والمنطق، ولهذا يطلق عليه المنهج الإستدلالي أي المنهج الذي يتبع القضايا المسلم بصحتها للوصول إلى نتائج لازمه عنها، لهذا فإن الحصول على هذه المزايا يعني ضمنا السعي إلى مزيد من التدريب والتنمية لمهارات التفكير الإستدلالي. [7]
بالرغم أننا لم نجد إجماعاً من قبل باحثي التفكير الإستدلالي حول تعريف معين إلا أنه يمكن أن ننظر إلى تعريف التفكير الإستدلالي من خلال مستويين أساسين:
١. المستوى الأول التفكير الإستدلالي كعملية عقلية.
يقدم أنجيل تعريفا للتفكير الإستدلالي يتسم بالعمومية فيعرفه بأنة عملية عقلية يحاول فيها الفرد الوصول إلى إستنتاج ما بناء على أسباب منطقية تبدو واضحة له.[8]
ويعرف بينكلي التفكير الإستدلالي بأنة عملية عقلية نسير فيها من حيث نعلم (المعلوم) إلى ما لا نعلم (المجهول)، بمعني آخر ينتقل بها الفرد من نقاط بداية تدعى مقدمات إلى نقاط نهاية أو إستراحة تدعى الإستنتاجات (النتائج).
يرى بعض الباحثين أن التفكير الإستدلالي عملية عقلية منطقية يسير فيها الفرد من حقائق معروفة أو قضايا مسلم بصحتها إلى معرفة المجهول الذي يتمثل في نتاج ضرورية لتلك القضايا على المستوى الذهني.[9]
ويقدم شابلان تعريفاً صريحا للتفكير الإستدلالي بأنه يقوم على إكتشاف معلومات جديده فيعرفه بأنه عملية عقلية تبدأ من قضايا معينة وتنهي بإشتقاق نتيجة جديدة مترتبة على هذه القضايا.
مما جعل سترينبرج Strenberg ينظر للإستدلال بأنه محاولة للربط بين المعلومات القديمة من أجل إنتاج وإستقراء معلومات جديدة.[10]
ويذكر جروان في هذا الصدد عند مراجعتة لعدد التعاريف في بعض الموسوعات العلمية بأن التفكير الإستدلالي عملية عقلية يتم بموجبها التوصل إلى قرار أو إستنتاج، وتوليد معرفة جديدة من معلومات متوفرة باستخدام قواعد، وإسترتيجيات معينة في التنظيم المنطقي.
ويرى نيكرسون Nicerson بأن التفكير الإستدلالي يشتمل على مجموعة من العمليات العقلية التي نستخدمها في تكوين وتقييم أفكارنا فيما نعتقد بأنه صحيح، وتقييم البراهين والحجج، والبحث عن الأدلة، والتوصل إلى الإستنتاجات، وإختبار الفروض، وتوليد معرفة جديدة.[11]
ويرى رابز بأن التفكير الإستدلالي هو القدرة على التعليل المنطقي، والإستنتاج، وإدراك العلاقات للربط بين الأسباب والنتائج، وهو يتضمن بذلك عمليات مثل التجريد والتوصل إلى التعميمات، وإثبات علاقات، والتوصل إلى حلول للمشكلات، وتقييم الآراء وإستنباط النتائج. [12]
ويقدم قودمان وقودمان Goodman تعريف ينطوي على بعد إنعكاسي يضمن دور التفكير الإستدلالي في تعديل معتقداتنا غير المنطقية بقوله بأن التفكير الإستدلالي هو القدرة العقلية التي تتطلب التفكير المتميز، ومتابعة التسلسلات المنطقية، والتصحيح الذاتي للأفكار والمعتقدات غير المنطقية التي كونها الفرد، وحل المشكلات المحيطة بالفرد، وإدراك العلاقات بين الأشياء.[13]
نلاحظ مما سبق بأن الباحثين يركزون على أن التفكير الإستدلالي عملية عقلية يحاول فيها الفرد الإستفادة من المعلومات والبيانات المتاحة في الكشف عن نتائج جديدة, وذلك عن طريق السير بخطوات إستنتاجيه وربط كل سبب بنتيجة ثم يقوم بإدراك العلاقات بين النتائج ليصل إلى علاقة جديدة معينة.
٢. المستوى الثاني التفكير الإستدلالي كسلوك موجه نحو حل المشكلة.
يقدم بيجي وتوماس Page & Tomas تعريف يتسم بالعمومية المفرطة مفاده أن التفكير الإستدلالي هو عملية حل المشكلات.
ويعرفه جيتس وآخرون بأنه التفكير المنتج الذي يتضمن تنظيم الخبرات السابقة أو يربط بينها بطريقة جديدة لحل مشكلة فالإستدلال إذن هو أداة لحل المشكلات. ويشير هذا التعريف إلى أن التفكير الإستدلالي نشاط ينخرط فيه الفرد لإكتشاف خبراته بما يعود علية من خبرات جديدة موجة لحل مشكلة معينة.
ويرى الصبوة بان التفكير الإستدلالي عملية معرفية يتم فيها جمع وتنظيم الخبرات السابقة بطريقة تؤدي إلى حل المشكلة الماثلة أمام الفرد.[14]
ويرى راحج بأن التفكير الاستدلالي نمط من أنماط التفكير التي تهدف إلى حل المشكلات ذهنياً، وإتخاذ القرارات، ويعرفه المقوشي بأنه قدرة الفرد على تحديد كل العوامل التي تتعلق بحل مشكلة تصادفه ويعتمد في هذا الحل على فرضيات مجردة عن طريقها يصل إلى إستنتاج معين وفقا لقواعد المنطق.
ويأخذ الزيات إتجاهاً معاكساً قوامه أن نشاط حل المشكلات هو نمط من التفكير الإستدلالي لما ينطوي عليه من عمليات معقدة مثل التحويل، والمعالجة، والتنظيم، والتركيب والتقويم للمعلومات الماثلة أمام الفرد في الموقف المشكلة وتفاعلها مع الخبرات والتكوينات المعرفية السابقة التي تشكل محتوي الذاكرة بهدف إنتاج الحل وتقويمية.[15]
يعرف برونر Bruno التفكير الإستدلالي بأنة عملية إدراكيه تشمل على تقييم الحقائق والفرضيات والإستنتاج للوصول إلى حل للمشكلة.[16]
يعرف ستياسي Stuessy بأن الإستدلال هو نمط من التفكير المنطقي الذي يتم من خلاله عملية الإستقصاء العلمي التي تمكن الأفراد من إقتراح علاقات بين الظواهر والملاحظة، وإختبار الفروض التي تختص بالعلاقات لتحديد كل البدائل المتاحة، والنتائج الممكنة، ولدراسة الإحتمالات لحدوث أمر معين، والتنبؤ بالنتائج المنطقية، وتقييم الدليل والبرهان.[17]
أما منصور ففسر هذا الجانب سيكولوجيا بأن التفكير, ،والتبرير، والإستنتاج الإستدلالي يعتمد في تكوينه العقلي على بناء مادة إدراكية جديدة لم يسبق وجودها في العقل, وهذه المادة الإدراكية هي التي تمكن الفرد من القدرة على التصور كما تجعله قادرا على إستعادة ما سبق وإن مر بخبرته أو ذاكرته مما يمكنه من الإستدلال على نتائج المواقف التي تواجه.
نلاحظ مما سبق بأن الباحثين يشيرون إلى أن هناك علاقة تماثل بين التفكير الإستدلالي والقدرة على حل المشكلات، ولكن هذه العلاقة ليست علاقة ترادف ولكنها علاقة الجزء بالكل فالقدرة على حل المشكلات تتطلب أنماط من التفكير تختلف بإختلاف نوعية المشكلة وبالتالي نوعية الهدف المراد الوصول إليه الذي يتطلب نمط معين من التفكير دون غيره لحل المشكلة، ولهذا التفكير الإستدلالي أحد الأساليب الهامة لحل المشكلات. [18]
[1]- Nisbett, R. E, et, Teaching Reasoning skills, Science, 238, 1987, P; 625.
[2]- طريف شوقي فرج, المهارات الإجتماعية من منظور معرفي, دراسة ماجستير غير منشورة, جامعة الملك سعود, الرياض, السعودية, 2001م, ص: 48.
[3]- روبرت سولسر، علم النفس المعرفي, ترجمة محمد الصبوة ومصطفي كامل ومحمد الدق, دار الفكر الحديث, الكويت, 1996م.
[4]- محمد المفتي، بحوث تنمية التفكير وحل المشكلات, دراسات في المناهج وطرق التدريس, عدد: ٤٥, 1997م, ص: 12.
[5]- موسى الياسين, بناء إختبار الإستدلال العلمي وإستخراج دلالات صدقه وثباته, رسالة ماجستير غير منشورة, جامعة اليرموك, إربد, 1985م.
[6]- Fitzgerald, J.F, Proof in Mathematics Education ,Journal of Education, Vol: 178, No: 1, 1994, PP. 37-44.
[7]- محمد المفتي، مرجع سابق, ص: 12.
[8]- Angell. R. B, Reasonin Practical Reasoning g and Logic, Meredith Publishing Company, New York.1964.
[9]- طريف شوقي فرج, إرتقاء مهارات الحاجة, مجلة الآداب والعلوم الإنسانية, عدد: 36, 2000م, ص: 44.
[10]- روبرت سولسر، مرجع سابق, ص: 17.
[11]- Small, M.Y, Cognitive development, HBJ. Pub, New York, 1990.
[12]- Rips, Reasoning, Annual Reviews Psychology, 4, 1990, PP .321-353.
[13]- Goodman, D & Goodman, P, Teaching Reasoning skills in School and homes; A Gamebook of Methods Springfield ,Illinois C Thomas Pub,1991.
[14]- محمد الصبوة, التفكير وحل المشكلات, دارغريب, القاهرة, مصر,1990م.
[15]- فتحي الزيات، نمذجة العلاقة السببية بين السن والذاكرة والمستوى التعليمي ومستوي الأداء, مجلة التربية, مجلد: ٢، عدد ١٣, 1984م, ص: 84.
[16]- Bruno, The Family Encyclopedia of child Psychology and development, John Wiley & Sons, Inc, 1992.
[17]- Stuessy, Path Analysis: A modal for the Development Scientific Reasoning Abilities Adolescents, Journal Research in Science Teaching, 26, 1988, PP.41-53.
[18]- خالد العتيبي, مرجع سابق, ص: 16.