شهد العقد الأخير من القرن العشرين تطورات عميقة وشاملة في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، ذلك أن التطورات الحديثة عبر شبكات الإنترنت والإنترانت والإكسترانت، أتاحت الفرصة لربط أجزاء المؤسسة مهما تباعدت المسافات بينها، بنظام عمل متكامل موحد، وذلك بالاعتماد على التطورات الحديثة في طرق إنشاء السجلات الإلكترونية وحفظها وتبادلها، وسهولة نقل الرسائل والوثائق والبرمجيات إلى أية نقطة متصلة بالشبكة في أي مكان من العالم، مما دفع أعداداً متزايدة من المؤسسات العامة والخاصة إلى العمل عبر شبكات الاتصالات الدولية بشكل كامل. ومن البديهي أن انتشار هذه الطرق الجديدة في العمل، سيؤدي فوراً إلى ظهور وثائق إلكترونية تنتجها المؤسسة العامة أو الخاصة خلال عملها دون أن يتوفر أي مقابل ورقي لها، ذلك أن العمل بأكمله يجري تماماً في بيئة إلكترونية بحتة.
كل ذلك أدى إلى وضع الأرشيفيين في مواجهة تحديات كبرى:
" فهل يمكن لأي أرشيف وطني أن يهمل الوثائق الإلكترونية التي تنتجها المؤسسة العامة والخاصة، بحجة عدم وجود مقابل ورقي لها ؟.
" وما الطريقة لحفظ الوثائق الإلكترونية بطريقة آمنة تمنع أية محاولة للتشويه أو التزوير أو التخريب المتعمد؟.
" كيف يمكن معالجة الوثائق الإلكترونية، وكيف يمكن استرجاعها بسهولة بهدف اطلاع المستفيدين عليها؟.
" هل الطرق القديمة لحفظ الوثائق أكثر أمناً من طرق الحفظ الإلكترونية؟.
وغني عن البيان، أن الإجابة عن هذه الأسئلة تشكل ملامح المهمات الجديدة الملقاة على عاتق الأرشيفيين في القرن الحادي والعشرين.

- التقنيات الحديثة وأمن الوثائق الإلكترونية:

واجه الموثقون في البداية مسألة تطوير استخدام التقنيات الحديثة في مجال الأرشيف بكثير من الشكوك، ومعظم هذه الشكوك يتعلق بأمن الوثيقة الإلكترونية، فمن المعروف أن صورة الوثيقة الورقية المحفوظة إلكترونياً، يمكن أن تتعرض للتخريب أو التزوير المتعمد، كما يمكن أن تتعرض للتدمير غير المتعمد، عندما تتقادم النظم والأجهزة، ويضطر الفنيون إلى نقلها إلى نظم جديدة، أو عند حدوث أخطاء في النظام تستدعي إعادة تحميله، أو عندما يتعرض النظام الحاسوبي لهجوم من فيروسات جديدة غير معروفة.
ولكن تراكم الخبرات، وتقدم وسائل الحماية التكنولوجية، سمحت بتخفيض مستوى المخاطرة الناتجة عن استخدام النظم الحاسوبية في حفظ الوثائق، وأصبحت نسبة المخاطر التي تتعرض لها الوثائق المحفوظة بالنظم الحاسوبية لاتتعدى مستوى المخاطر التي تتعرض لها الوثائق الورقية، ونوجز فيما يلي أهم التحفظات التي أبداها الموثقون تجاه النظم الإلكترونية، وطرق الحماية الملائمة التي ساهمت في تقليل قيمة هذه التحفظات، وفي بعض الأحيان إزالتها وإهمالها:

" أولهما: أن العمر الافتراضي للوثيقة الورقية انخفض كثيراً، بسبب زيادرة الطلب على الورق، واضطرار معظم المؤسسات الرسمية والخاصة إلى استخدام نوعيات أقل جودة من الورق، لتخفيض نفقات المؤسسة، كما ساهمت عوامل التلوث البيئي في تخفيض العمر الافتراضي للوثيقة الورقية، ويندر اليوم أن نجد وثيقة عمرها خمسين عاماً بحالة جيدة.
1.2- أبدى الموثقون تحفظهم تجاه الوثيقة الإلكترونية، انطلاقاً من عمرها الافتراضي: حيث أكدوا أنه لا يتجاوز ثلاثين عاماً، في حين أن الوثيقة الإلكترونية تستطيع أن تصمد أكثر من ذلك بكثير، و إن تفحص هذه الحجة بعمق سيؤدي إلى ردها وذلك لسببين:

" وثانيهما: أن العمر الافتراضي المذكور أعلاه، هو للمعلومات المسجلة على الأقراص الصلبة للحاسوب تعتمد طريقة كهرومغناطيسية في تسجيل المعلومات، أما الأقراص المدمجة CD-ROM فطريقة الحفظ فيها مختلفة، وتعتمد على إحداث حفر صغيرة جداً على سطح القرص الضوئي، بحيث تمكن إعادة قراءته من خلال انعكاسات الشعاع الليزي المسلط عليه، وهذه التقنية تجعل عمر الوثيقة الإلكترونية أكثر بكثير من الطريقة الأولى، كما أنه يمكننا إعادة نسخ الأقراص المدمجة عدة مرات، وربما باستخدام تقنيات أكثر تطوراً، وعمرها الافتراضي أكبر من العمر الافتراضي للأقراص الضوئية.

2.2 - أبدى الموثقون تحفظهم تجاه الوثيقة الإلكترونية، انطلاقاً من التغيرات السريعة التي تطرأ على النظم الإلكترونية: مما يستدعي إعادة استنساخ دائم للوثائق مع تغير الأنظمة، وفيما لو غفلت إحدى المؤسسات عن إعادة نسخ وثائقها الإلكترونية القديمة، فإنها لن تجد طريقة لإعادة إظهارها فيما لو مر وقت طويل على إهمال نسخها، وربما ستحتاج إلى "حجر رشيد" جديد لفك طلاسم الأنظمة القديمة التي تحفظ الوثيقة الإلكترونية، وهنا لا بد من التأكيد على وجود حل ملائم لهذه المشكلة، ويتمثل هذا الحل في نقل السجلات و الوثائق وتهجيرها بصورة مستمرة من النظم والحواسيب القديمة إلى النظم والحواسيب الجديدة، فطالما أن السجلات قيد الاستخدام ضمن نظام محدد لا بد من تجديدها ونقلها إلى النظام الجديد المعتمد.
3.2 - أبدى الموثقون تحفظهم تجاه القدرة على حفظ الوثيقة الإلكترونية أو صورة الوثيقة الورقية دون تزوير أو تخريب: وقد استطاع التقدم العلمي أن يسد هذه الثغرة، وذلك من خلال تخزين صور وثائق الحفظ النهائي على أقراص WORM-DISK، وهي أقراص من نوع خاص ملائمة لأغراض الأرشيف، واسمها مأخوذ من الأحرف الأولى للكلمات ( Write Once Read Many) وتعني ( الكتابة مرة واحدة والقراءة مرات عديدة ) وبذلك يستطيع الموثق أن يضمن أن الوثيقة الإلكترونية أو صورة الوثيقة الورقية التي تم حفظها على هذا النوع من الأقراص لن تتغير أبداً، ويستطيع الموثق أن يضع الأقراص في ناخب الأقراص الضوئية JUKE BOX، يتصل مع الحاسوب، ويمكن له أن يستعيد صورة الوثيقة من قرص WORM-DISK في فترة زمنية لا تتجاوز ثماني ثوانٍ.
4.2 - أبدى الموثقون تحفظهم تجاه اعتماد التوقيع الإلكتروني على أساس أن التوقيع الإلكتروني يمكن كشفه واستخدامه: إلا أن التقنيات الحديثة للتوقيع الإلكتروني جعلت احتمال اكتشافه أمراً شبه مستحيل، وهو يتطلب تغطية احتمالات لا نهائية قد تتطلب عمل الحاسوب بصورة مستمرة لأكثر من عام، ومن غير المعقول أن يحافظ أحد على الرمز الخاص لتوقيعه الإلكتروني لفترة تقارب هذه المدة، وقد أصبح إقرار التوقيع الإلكتروني قانونياً حقيقة واقعة في أمريكا ومعظم الدول الأوربية، وتتعامل المصارف والمؤسسات الاقتصادية يومياً بمئات ملايين الدولارات باستخدام نظم المصارف الإلكترونية، والتي تعتمد أساساً على التوقيع الإلكتروني، فمن غير المعقول أن تخاطر هذه المؤسسات بثروتها من خلال استخدام التوقيع الإلكتروني لو كان يمثل تقنية غير مأمونة، فهو يماثل درجة أمان التوقيع اليدوي على الورق، إن لم يفقه أماناً، ويتميز التوقيع الإلكتروني اليوم بأنه يحوي معلومات عن الوثيقة التي اعتمدها، مثل عدد الحروف وعدد الأسطر والأعمدة وعدد الجداول أو الصور المتضمنة في الوثيقة مما يجعل التلاعب بالوثيقة صعباً جداً أو أشبه بالمستحيل..
5.2 - أبدى الموثقون قلقهم تجاه أخطار الفيروسات التي يمكن أن تخرب الأنظمة الحاسوبية: ويمكن أن تدمر بالتالي الوثائق الإلكترونية المحفوظة فيها، وحل هذه المشكلة قديم ومعروف جداً ويتمثل في عملية الحفظ الاحتياطي للمعلومات المسجلة على الحاسوب بشكل يومي على أقراص أو أشرطة تحفظ في مكان أمين خارج الحاسوب أو النظام الحاسوبي كله، وبالتالي عندما يفاجأ المسؤولون عن المؤسسة بأي تخريب لنظامهم يمكن لهم أن يعيدوا بناء النظام، ثم يستعيدوا المعلومات التي كانت محفوظة فيه باستخدام أشرطة أو أقراص الحفظ الاحتياطي Back UP.
6.2 - أبدى الموثقون تحفظهم تجاه توقف النظام الحاسوبي عن الأداء لفترة طويلة، بسبب أخطاء النظام أو التخريب المقصود: ولكن نظم الشبكات الحديثة توفر حلاً ملائماً لهذه المشكلة، من خلال استخدام تقنية المرآة Mirroring، وتسمح هذه التقنية بالحصول على صورة فورية عن ملفات المخدم الأساسية، فعند حصول أية مشكلة، يمكن جلب المخدم - المرآة وإعادة تحميل المعلومات منه إلى المخدم الأساسي، وهذه العملية لا تستغرق سوى دقائق ولا تتجاوز الساعة. كما يمكن استخدام تقنية أخرى وهي تقنية العنقود Cluster، وتسمح هذه التقنية بوجود مخدمين يعملان معاً كمجموعة واحدة وفي حال تعطل المخدم الأساسي يمكن للنظام أن يعيد الإقلاع خلال ثوانٍ قليلة.
7.2 - أبدى الموثقون تحفظهم تجاه صورة الوثيقة المخزنة في الحاسوب، فهذه الصورة لا يمكن أن يروها أو يلمسوها: ففضل كثير منهم الاستمرار في تخزين صور الوثائق على الميكروفيلم، فهو وإن كان صغيراً ولا يظهر الصورة بالعين المجردة، إلا أنه شيء ملموس ومحدد، ويمكن التيقن من وجوده وسلامته بالعين المجردة. إلا أن للميكروفيلم على الرغم من عمره الافتراضي الطويل، سلبيات واضحة، تتمثل في صعوبة الاسترجاع، كما أن أخطار تخريب الميكروفيلم لا تقل بأي حال عن أخطار تخريب النظام الحاسوبي، ومن ناحية أخرى يستطيع الميكروفيلم أن يحفظ صور الوثائق الورقية، ولكنه لا يستطيع حفظ الوثائق الإلكترونية.

- هل ثمة بديل لنظام الوثائق الإلكترونية:

قد يكون الخيار متاحاً بين الاعتماد على نظام حفظ ورقي أو الحفظ باستخدام الميكروفيلم أو نظام الأرشفة الرقمية، وذلك إذا كان موضوع الأرشيف هو الوثائق الورقية فقط، أما عندما نتحدث عن الوثائق الإلكترونية، أي الوثائق التي تنتجها النظم الحاسوبية، وتؤدي عملها ضمن بيئة إلكترونية بحتة، فليس ثمة خيار سوى نظام الوثائق الإلكترونية، لأن عدداً كبيراً من الوثائق في هذه الحالة ليس له نسخ ورقية، وعدد هام من الوثائق بنيته معقدة ويتصف بوجود ارتباطات بين عدة ملفات، وحتى إذا حصلنا على نسخ ورقية من جميع هذه الملفات، فإننا لا نستطيع تمثيل البنية الحقيقية لهذه الوثيقة الإلكترونية ورقياً.
ولذلك نستطيع أن نقول دون مبالغة: إن أرشيف القرن الحادي والعشرين هو أرشيف إلكتروني أساساً، ولن يكون ثمة خيار في استخدام النظم التقليدية (ورق + ميكروفيلم) أو استخدام النظم الإلكترونية، فالخيار الوحيد للتعامل مع الوثيقة الإلكترونية ومعالجتها وحفظها واسترجاعها، هو اعتماد نظام الوثائق الإلكترونية.
لقد توسعت مهام الأرشيف، وتوسعت سلطته على الوثائق، فلم تعد هذه السلطة محصورة بالوثائق الورقية، بل توسعت لتشمل الوثائق الإلكترونية، حيث إن الدوائر الحكومية في البلدان المتقدمة، انتهت من مرحلة أتمتة أعمالها بشكل كامل، وهي تتقدم بسرعة باتجاه الحكومة الإلكترونية، فأصبحت الوثيقة الإلكترونية هي الأصل والنسخة الورقية مجرد صورة للأصل، حتى إن بعض الوثائق الإلكترونية مثل النصوص الممنهلة HyperText لا يمكن نقل بنيتها عند نسخها على الورق، وكذلك توسعت سلطة الأرشيف باتجاه المؤسسات الخاصة والأفراد والعائلات، حيث أصبحت عملية نقل هذه الوثائق بشكلها الإلكتروني وضمّها إلى الأرشيف الوطني أمراً بسيطاً وسهلاً.
وكذلك توسعت مهام الأرشيف باتجاه اطلاع الجمهور على الوثائق المخزونة، فمع انتشار مفاهيم الشفافية والحكومة الإلكترونية، تتجه دور الأرشيف في العالم إلى تخفيض المدة المقررة لمنع الجمهور من الاطلاع على الوثائق، فبعد أن كانت الوثائق التي مر ثلاثون عاماً على إنشائها، هي الوثائق المتاحة للجمهور تتجه الدول الأوربية إلى جعل هذه المدة خمسة عشر عاماً، باستثناء الوثائق المتعلقة بأمن الدولة. ومع دعم حق اطلاع الجمهور على الوثائق، يزداد عدد المستفيدين الراغبين بالاطلاع على الوثائق مما يجعل تقديم الخدمات لهذا العدد الكبير من الباحثين والمستفيدين صعباً جداً بالطرق التقليدية.

- بنية الوثيقة الإلكترونية:

تختلف بنية الوثيقة الإلكترونية اختلافاً جذرياً عن بنية الوثيقة الورقية، ذلك أن مضمون الوثيقة التقليدية يسجل على وسط ورقي في أغلب الأحيان، ويستخدم الموثق رموزاً معينة للدلالة على مضمون الوثيقة كالأحرف الأبجدية والصور ورموز أخرى، مما يسمح بقراءة الوثيقة مباشرة دون وسيط، في حين أن مضمون الوثيقة الإلكترونية يتم تسجيله برموز إلكترونية ( الأرقام الثنائية ) ولذلك لا يمكن قراءة الوثيقة الإلكترونية دون وسيط، ولا بد من فك ترميزها لإظهاره على شاشة الحاسوب كي يتمكن الإنسان من قراءتها، وهذا الفرق هو أحد الفروق الجوهرية بين الشكلين الورقي والإلكتروني، ولكنه من وجهة نظر الأرشيف ليس هو الفرق الأهم، فالمشكلة الكبيرة هنا تتجلى في الصلة بين مضمون الوثيقة ووسط التخزين، ذلك أن الوثيقة الورقية تكون مرتبطة بصورة مطلقة بوسط التخزين (الورق)، ولا يمكن لمضمونها أن يكون منفصلاً عن هذا الوسط، بينما يسجل مضمون الوثيقة الإلكترونية على وسط إلكتروني محدد (قرص صلب أو مرن أو قرص ضوئي أو شريط مغناطيسي.. إلخ..)، ولكنه غير مقيد بالوسط الذي تم تسجيله عليه لأول مرة، فهو يستطيع أن ينتقل من أداة تخزين إلكترونية إلى أداة أخرى، وهي غالباً من نموذج مختلف من أدوات التخزين، فعندما نسترجع السجل من الحاسوب ونسجله على قرص مرن أو على قرص ضوئي يختلف وسط التخزين، وعندما تتقادم التكنولوجيا، تنقل الوثائق إلى وسط جديد ضمن قواعد معطيات جديدة ونظم تشغيل جديدة، وبما أن الوثائق الإلكترونية ليست مثبتة بشكل دائم إلى أداة تخزين واحدة، فإن الأرشيفيين يبدون دائماً شكوكهم تجاه هذه الطريقة الجديدة في التعامل مع الوثائق

المصدر: منتدى الأكاديمية الفلسطينية للعلوم الأمنية
  • Currently 5/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
1 تصويتات / 5087 مشاهدة
نشرت فى 16 سبتمبر 2011 بواسطة ahmedkordy

أحمد السيد كردي

ahmedkordy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

29,718,720

أحمد السيد كردي

موقع أحمد السيد كردي يرحب بزواره الكرام free counters