مهنا الحبيل

معالم رئيسة وخلوات روحية وتفكّرٌ إيماني، وقبل ذلك كل احتشاد لتلك المعاني إنما هو يَطوّف في وحدة موضوعية وترابط فلسفي عميق لحكمة الإيمان الكبرى.. الإيمان بالخالق وبهدف الخلق وبمهمة المخلوق وبرسالة النبوات وخاتمة الطريق حيث الجزاء، هل تلك المعاني العظيمة تُستحضر عند رحلة الحج التاريخية أم أنّ اضطراب الفهم لأصل الفكرة وازدحامها مع ضجيج المشهد يُذهب كثيراً من حكمة الحج والرحلة المقدسة الكبرى؟!

أم القضية تقف عند ذلك الاصطفاف والتداعي، والالتقاء لكل أقاليم الدنيا وأجناسها في وحدة الشعار والدثار، وخطة السير وتفاصيل الرحلة ببرنامج إلزامي يجمع الفقير بالغني والرئيس بالمرؤوس، والبشرة البيضاء بالملونة والخطاب واحد.. أيها الناس خذوا عني مناسككم.. فقط أيها الناس لا الزعماء ولا القادة ولا التجار ولا الفقراء الصفة واحدة، وتأكيداً لهذا المفهوم الوحدوي جاءت خطبة الوداع لتكريس قصة المساواة والحرية الكبرى في نداءات من البشير صلى الله عليه وسلم  متتابعة لا ربا ولا دماء ولا ثأر ولا تفرقة بين عربي وأعجمي، ولا أسود ولا أبيض.. إنها التقوى فقط، التقوى وما التقوى؟ تلك قصة أخرى..

إن التقوى ليست مظاهر يتزين بها الجسد أكان هذا التزين دينياً في نظره أو دنيوياً، وليست رحلة مناسك في أجواء ارستقراطية يتقلب في نعيمها، ويُفسح له الطريق فيكون حاجاً أكبر في مقابل الحُجاج الصغار، وليست هي أيضاً  عند الفقير والغني على السواء طقوس تدين لهذا الشيخ أو المتُعبد أو المتنسك... كلاّ إنها أخلاق الروح تعلو فيعلو سلوك الجسد، ويخضع بقبول وأريحية لمفهوم الوحدة والمساواة والحرية بين البشر كل البشر.

ولذا فان أول ما تستهدف الرحلة توحيد تلك المشاعر والنفوس وأخلاط الشعوب بأن العبادة في أصلها التوحيدي العظيم هي للخالق فقط وبلا تنازل عن أي نسبة لأي كائن كان. إنها للخالق وانظر معنى المؤتمر الأممي ماذا يعني؟  الخلق كلهم مجتمعون موحّدون للخالق وهذا معنى الحرية الكبرى.. الحرية من أي خصوصية تُعطى لأحد تضطره لكي يتنازل عن حريته مهما عظم أمره، وإن كان نبياً من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم إلاّ من خلال طاعة واستجابة من أعطى حق الحرية للإنسان، ثم هداه لكي يستقيم على طريق النجاح، فلذا كان أول الاحتشاد أن يطوفوا بالبيتِ العتيق لتكريس هذه العقيدة التي تذكر في أصلها بأنك سواسية مع البشر، من طاف معك، ومن تخلّف، فهل أحسنت إليهم حين توحيدك الخالق العظيم، وأحسنت إلى نفسك بإطاعة هديه لأجلك أنت، ولأجل خاتمة رحلتك.

دروس المسعى

ثم انظر إلى المعنى الإنساني الدقيق في التعليم والمصابرة، وأيضاً التكريم لمن.. للمرأة والطفل، ومن كانت لون بشرته تدعو المستكبرين للاستعلاء.. إنها السيدة العظيمة هاجر... شيء غريب؟

أن تُخلّد تلك الحادثة بدروسها تُذكر النّاس بسيدتهم المرأة السمراء هاجر وطفلها إسماعيل، ثم يسعى النّاس ويفعلون كما فعلت قبل أن يرتشفوا من الماء وأي ماء هو..؟! هل الدرس يذكّرُنا بوحدة الإنسانية وتخليد ذواتها في ذاكرة الدنيا حتى نستذكر معنى الوحدة والمساواة أنه واحد من المعاني؟!

أم الدرس كيف سعت هاجر بالقلب القلق المصدوع، ولكنه الذي آمن واطمأن ثم استجاب للنداء، وإن الاستجابة يعقبها امتحان، فهل استذكر الساعون هذا المعنى أم مرّوا عليه مرور الكرام..؟! نعم هي سُنن المصطفى وهديه العظيم ولكن مع الهدي وإتِباعِه ذِكرى لأولي الألباب.

الغريب أن النص تلو النص يحتشد في توجيهات قائد الأمة العظيم وحبيبها يُذكرُها بمعنى الدرس الروحي والقيمي، ولكن الاستجابة ضعيفة شيء غريب.. ألا ترى كيف ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- مكانة المسلم ودمه وحريته، وأنها أعظم على الله من حرمة البيت العتيق..؟! لأن المقصود رمز التوحيد في هذا البيت المقدس، ولكن صيانة الإنسان ورعايته واحترام كرامته وحقوقه هي من تعاليم ذلك التوحيد وتلك الاستجابة، أمّا الغريب فحين يَقرنُ صلى الله عليه وسلم ذلك الأمر بالبيت العتيق، كأنه ينتقل إلى التاريخ الحديث فينبه أولئك المقصرين في السلوك والفهم..المتقاتلين عند المناسك، وكم جرحوا وآذوا فيقول لهم -بأبي هو وأمي-: ما لذلك قد أُمرتم أفلا تبصرون؟!

إلى عرفات الله

إنها لحظات جلاء الروح واستحضار المشهد وإقامة الذكرى بين يوم الدنيا ويوم الدين. إنه صعيد عرفات.

لذا عُظِّمت الحُرمات وكُرست القيم والمفاهيم، و كانت خلوات الروح ودندنات الأذكار وتسبيحات الألسنة، ألسنة مختلفة، ولكنّ المعنى واحد، والمقصد واحد والمرجوّ واحد..أحدٌ أحد..أحدٌ أحد.. ولم لا يجدون ذلك الصفاء إن صفت النفس قبل القول؟ أليس هو يوم تَجلّي الرحمات وتغشية البركات، فمن أدرك المعنى قصد المسعى مُخلصاً سلِمت يداه من أذى الناس وأذية نفسه، و عندها.. يرجع كما ولدته أُمّه.. لن يصل لهذا الهدف إلاّ بالإخلاص ووصول الشعيرة إلى القلب، ولن يفيد أن يستعجل الأرض، ويركب ما يركب من خصوصيات السكن والراحلة، وقد عثرت به راحلة الروح والإخلاص.

ثم انظر حين نؤمر بمجالدة ومراغمة صوت العبودية والمعصية: لماذا نرمي ونُكرر الرمي؟ هل الشيطان ينتظرنا هناك بتجسده كما يظن بعض البسطاء؟! بالطبع كلاّ إنها رحلة المقاومة, ومع من؟ مع رمزها الذي تُنفّذ من خلاله، إنها مصالح وشهوات النفس التي تُطيع اللعين أو هواها، فتظلم ذاتها وتظلم سواها، وهي متكررة الاستهداف، لذا كان درسنا مع إبراهيم الخليل عليه السلام لمراغمة نداء الباطل بالثبات على الحق، والثبات عليه يحتاج إلى التضحية ببعض مصالح النفس ومحابها، ولذا عُمّق الدرس حتى نسترشد الهدف ونقاوم الفتنة.

ومع كل ذلك يهلُّ الحجيج إلى مولاهم العظيم الكريم يا رب... يا رب وحين يَنظر إليهم جلّ في علاه لا تخفى عليه الدسائس، ولا تحجبه الظواهر عن الدواخل، فمن رغِب النجاة والقبول عند الكريم المنّان لبى مخلصاً..لا شريك لك من الهوى ومن الشيطان، ولا شريك لك من مصالح النفس وعبودية الإنسان.. اللهم سدد رأيهم، واهدِ جمعهم، وتقبل حجهم.

 

ahmedkordy

خدمات البحث العلمي 01009848570

  • Currently 40/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
14 تصويتات / 704 مشاهدة

أحمد السيد كردي

ahmedkordy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

29,832,418

أحمد السيد كردي

موقع أحمد السيد كردي يرحب بزواره الكرام free counters