إبراهيم غرايبة
التحوّلات الجارية اليوم في الاتصالات والمعلوماتية تمضي بنا إلى عالم مختلف يجدر كثيراً أن نفكر به ونستعدّ له، فهي تغيّر كثيراً في الموارد والمؤسسات، وتجعلنا نعتقد أن الاقتصاد والتعليم والإدارة والعلاقات والمجتمعات والمؤسسات سوف تشهد تغييراً كبيراً يجعلها تختلف عما كانت عليه في العقود الماضية.
وهي تحوّلات تشغل كثيراً من المفكرين والقادة، والجمهور أيضاً، فهي تحوّلات تطال كل شيء تقريباً، وتشكل مرحلة جديدة في مسار العالم والبشرية.
فاليوم تتشكل موجة حضارية ثالثة قائمة على المعلوماتية والمعرفة والعمل والموارد القائمة عليها، وتصاحبها تغيّرات في مجالات الحياة الثقافية والاجتماعية، وبالنسبة لنا فهي أسلوب حياة جديد وناشئ وآخذ بالانتشار على المستوى العالمي.
لقد انتقلت القوة العاملة الرئيسة من الصناعة إلى المعلومات، وتحوّلت أيضاً كثير من أدوات العمل والإنتاج، فمؤسسة البريد تحتاج إلى إعادة نظر في مستقبلها بعد اكتساح البريد الإلكتروني للعالم، وتُستخدم الشبكة العالمية اليوم للتجارة والتسويق على نحو يغيّر كثيراً من مفهوم وعمل الأسواق والبورصة والوساطة التجارية.
وتقترب الهواتف المتحركة (الموبايل) من مليار جهاز، ويدور حول الأرض خمسمائة قمر صناعي، ويُتوقّع أن تصل إلى ألفي قمر في المستقبل القريب، وتغيّر هذه الاتصالات الجديدة من مفاهيم واستخدام الحدود والرقابة والتنظيم.
والثقافة ووسائل الإعلام تتحول أيضاً من كمية إلى متخصّصة موجّهة إلى فئات محدّدة، فلم تعد هناك مجلات وقنوات فضائية محدودة يتابعها جميع الناس، ولكنا نتعامل مع عدد كبير منها، وتتوجّه إلى فئات مختلفة من الجمهور حسب أغراضها واتجاهاتهم: كالثقافة، والرياضة، والتسلية، والأخبار، والأطفال، والتسويق، فاليوم يتشكل نمط جديد من الممكنات والطلب والجمهور، فقد تزايدت فرص التنوع في الثقافة، ولم يعد التنميط خياراً حتمياً، وقد ظهر في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1999 (فيلم) بعنوان (مشروع ساحرة بلير) كانت تكلفة انتاجه (25) ألف دولار، ومبيعاته (100) مليون دولار، فتقليل كلفة الإنتاج الذي أصبح ممكناً يتيح للأفكار والثقافات والاتجاهات المختلفة مساحات للعرض والطلب، ولم يعد الأمر مقصوراً على خط واحد في الإنتاج هو الأكثر طلباً بسبب اتجاهات الطلب والتكلفة العالية للإنتاج التي تجعل إنتاجاً لا يُتاح له الانتشار بأعداد كبيرة عملية خاسرة.
وبتغيّر طبيعة الاقتصاد وتدفّق الأموال والاستثمارات فقد تغيّرت طبيعة الدول والسلطة والرقابة والحدود، فقد أصبح ممكناً العمل عن بعد مع مؤسسات اقتصادية، وبخاصة المعلوماتية التي تقود الاقتصاد الجديد.
وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي تكوّنت خريطة جديدة للعالم من حيث القيادة والتحالفات، وزادت أهمية الصين سياسياً واقتصادياً، وتبدو أوروبا متجهة إلى وحدة اقتصادية وسياسية، لكن القوة العسكرية لأوروبا ما زالت بحدود 10% من مستوى القدرات العسكرية الأمريكية بالرغم من أنها تنفق 60% من ميزانيات الدفاع الأمريكية، ويتواصل تهميش روسيا في المكانة العالمية، التي تحاول أن تتحالف مع الصين أو مع أوروبا.
وقد طوّرت تقنية المعلومات كثيراً في الاستخدامات العسكرية؛ فقد أمكن للطائرات أن تحدّد أهدافها وتصيبها بدقة من مسافة بعيدة جداً، وتتمكن القوات البرية من التحرك السريع للاشتباك مع العدو في أي مكان في العالم.
وفي التجارة والصناعة والأعمال نلاحظ أن مئات الشركات من قائمة الـ (500) لمجلة فورتشن (Fortune) لتصبح بطيئة أو متفرجة أو على قارعة طريق المستقبل.
واليوم وفيما ننظر إلى المستقبل لا يوجد يقين مطلقاً حول الجهة التي نتجه إليها، أو كيفية الوصول إليها، فلم نعد نرى طريقاً طويلاً مستقيماً مفتوحاً يمتد في الأفق، بل صرنا نجد أنفسنا نحدّق في نهاية الطريق.
ويمكن القول: إن نهاية القرن العشرين تمثل نهاية نظام برمته، نهاية النموذج الصناعي، ونهاية عالم ما بعد الحرب، ونهاية الإدارة، ونهاية دولة الرفاه، ونهاية الشيوعية، وربما نهاية التاريخ (وفقاً لفرانسيس فوكوياما).
لذلك سيكون المستقبل منقطعاً عن الماضي وليس متصلاً به، ولتحقيق النجاح في التفكير المستقبلي يجب أن نقوم بقفزة فكرية من الخطّي إلى اللاخطّي، ومن المعلوم إلى المجهول، ومن الأرض الثابتة إلى الأرض غير المستقرة المجهولة.
وهنا تنشأ أسئلة كثيرة يمكن الاستعانة بها في التفكير وإعادة التفكير: لماذا ستكون المعركة الاقتصادية في القرن الحادي والعشرين مختلفة عن المعارك الاقتصادية السابقة؟ وما مدى أهمية الدور الآسيوي في المعركة؟ وهل سيعيد تحديث آسيا مركز الجذب الاقتصادي والسياسي والثقافي العالمي من الغرب إلى الشرق؟ هل سينشأ صراع بين الأشكال المختلفة للرأسمالية بعد انتهاء الصراع بين الشيوعية والرأسمالية؟ هل ستبقى الحكومات على حالها أم أنها ستنتهي أو تتغير في طبيعتها ودورها؟
والمؤسسات التجارية والإدارية تواجه سؤالاً إستراتيجياً عن دورها وهيكلها المستبقلي؛ فالمؤسسية القديمة ربما لن يعود لها معنى، وقد يحل مكانها مبدأ تعزيز الطموح الجماعي والتفكير المنظم، حيث يستطيع الموظفون في المؤسسة أن يكونوا مبدعين لا مجرد مستجيبين، وحيث يمكنهم تعلم كيفية التعلم معا بطريقة انتقالية.
إن المؤسسات التي ستكون في المقدمة هي التي تعيد تشكيل وتعريف صناعتها بالفعل، والمؤسسات الرائدة سوف تتخذ موقف الفاعل للتأثير فيها وحتى إعادة هيكلتها، ويصبح تغيير الإستراتيجية التنافسية ضرورياً عندما تتغيّر الاحتياجات الأساسية لمجموعة الزبائن، أو عندما لا يعود نوع معين من المنتجات مميزاً، كما ينبغي أن تتغير الإستراتيجية عندما ينتهي التوازن بظهور تقنية جديدة أو بظهور تغيّرات لدى الزبائن.
والمؤسسات تعلّم نفسها لتواجه التنافسية الجديدة، ويجب أن تتعلّم بسرعة، وأن تستوعب هذه المعرفة وأن تطوّر رؤى جديدة، وقد تحتاج أن تتحوّل إلى نموذج الجامعات، وأن تنشئ بيئة جديدة قائمة على التكيّف مع التغيير وتتوقعه دائماً.
ويجب على المؤسسات أن تعيد تجميع فكرة الإستراتيجية، فالنجاح أصبح قائماً على صنع الخيارات على نحو متزايد، وتجنب الضغوط الهائلة، من أجل التوصل إلى التراضي وتفادي الإرباك.
والقيادة والإدارة تواجه تحدّيات جديدة وتخضع لإعادة نظر؛ لأن العمل سيتغيّر في طبيعته ومؤهلاته، فسيكون مقسماً حسب العاملين إلى ثلاثة أنواع، غالبية عظمى تؤدي أعمالاً ذات علاقة بالقيمة المضافة، وهم أولئك الذين يقومون بالعمل الحقيقي سواء كان روتينياً أم مبدعاً، وفريق من المدربين لتوجيه الأغلبية وتمكينهم من أداء عملهم، وعدد من القادة يوجّهون المؤسسة ويديرونها، ومجموعة القادة هؤلاء ستكون من المغامرين، وليس بالضرورة من الشباب أو الكهول، ويتوقع أن ينخفض عدد المديرين إلى 50% من عددهم اليوم، وستشهد المهن الفردية تحسناً.
وكما تفاوتت الثقافات في التعامل مع الثورة الصناعية فإن المرحلة الجديدة ستشهد أيضاً تفاوتاً بين الدول والمجتمعات، وستكون هناك فرصة للاقتصادات الناشئة للقفز إلى مواقع مفيدة وقيادية لأنها لن تكون مقيدة بمعطيات وظروف لم تعد موجودة.
والقائد المؤهل للنجاح في المستقبل هو من لا يعتقد أنه جيّد؛ فجوهر التقدم هو التواضع والبحث عن الجديد ومحاولة التعلّم، والنجاح في الماضي لا يؤشر على النجاح في المستقبل؛ فالعالم تغيّر كثيراً لدرجة أن صيغ النجاح الماضية لم تعد مضمونة، وقد تكون من صيغ الإخفاق في المستقبل.
والأسواق والمستفيدون واحتياجات المستهلكين تتغيّر بعيداً عما كان عليه السوق وألفناه، فهناك توجّهات الجيل الجديد من الزبائن ومطالبهم في الأنواع الجديدة من الأسواق.
وربما تكون التسلية هي أهم ملامح السوق الجديدة، حتى السلع الأساسية أصبحت تُسوّق على أساس التسلية أو الحصول على التسلية مع الحصول على الخدمة والسلعة الأساسية.
ويتّجه سوق المشتريات إلى قطاعين: المستهلكين ذوي الدخل المرتفع، والمستهلكين ذوي الدخل المنخفض، بينما يتقلّص حجم الطبقة الوسطى باستمرار، وهي التي تُعدّ حالياً كبرى الطبقات حجماً، وسيغيّر هذا من طبيعة التسويق ليتّجه إلى هاتين الطبقتين بدلاً من التركيز على الطبقة الوسطى كما كان الأمر طوال العقود الماضية.
ويشهد العالم خريطة جديدة تأخذ مجراها في الأعمال وفي المجتمع على المستوى العالمي، ومنها التغيّر في طبيعة المنافسة الاقتصادية العالمية، والدور المتغيّر للحكومات في العالم الذي يزداد اعتماداً على الشبكات، وإمكانية أن تصبح آسيا مرة أخرى منطقة مهيمنة على العالم، وأثر اقتصادات الشبكة على قطاعات الأعمال كافة، والكيفية التي تغيّر بها الاكتشافات العلمية رأينا في العالم في بداية القرن الحادي والعشرين.
تؤثر اليوم في الشبكة العالمية الاقتصادية شبكة صينية قوامها (57) مليون صيني حول العالم قائمة على روّاد مستثمرين بدأت تنضم إليهم شبكة داخل الصين، ومن المحتمل أن نشهد شبكة هندية ثانية.
والاقتصاد الآسيوي يشهد تحولاً من التصدير إلى الاستهلاك، وتبتعد الثقافة الآسيوية اليوم من الهيمنة الغربية إلى الخصوصية الآسيوية، وتتجه الدول الآسيوية من السيطرة الحكومية إلى حالة تكون فيها السوق هي القوة الدافعة، وتنشأ مدن ضخمة بدلاً من القرى الريفية، ويتحول الاقتصاد من الزراعة إلى الصناعات التحويلية والخدمات، وتتلاشى اقتصادات العمالة الكثيفة لصالح التقنية العالية.
وبدأت المرأة تنافس الرجل في العمل والقيادة، وتتحول آسيا اليوم إلى مركز للعالم سياسياً واقتصادياً وثقافياً بدلاً من الغرب، وهي اتجاهات تفتح المنطقة أمام خيارات جديدة.
ولنعد التفكير على نحو أكثر منطقية وبساطة ونبدأ بدعوة تقرير التنمية الإنسانية إلى استيعاب متطلبات مرحلة المعلوماتية بإقامة مجتمع المعرفة القائم على التعليم والحرية والتحول إلى اقتصاد المعرفة، ولكن مجتمع المعرفة لا يقوم فقط بتحقيق المتطلبات المباشرة على أهميتها وضرورتها بالطبع، فثمة تحوّلات كبرى متوقعة لا تقل في عمقها وتأثيرها عن التحوّلات المصاحبة لمرحلة الزراعة ثم الصناعة التي مرّت بها البشرية.
فعندما تحول الإنسان من الصيد والرعي إلى الزراعة بدأت تقوم تجمعات مستقرة، وتنشأ قرى ومدن وجيوش ودول وأنظمة إدارة وثقافة وتشريعات وعلاقات اجتماعية، ومعرفة وعلم وفنون وآداب وحروب منظمة وعلاقات دولية، وقيم ثقافية واجتماعية وأرستقراطية قائمة على ملكية الأرض والشجاعة والنبل.
وعندما بدأت مرحلة الصناعة القائمة على الآلة البخارية، وما تبعها من إنتاج آلات وسيارات وطائرات وقطارات وأسلحة جبّارة وسفن عملاقة تغيّرت موازين القوى والموارد، وتبع ذلك نشوء أنماط جديدة من الحضارة والثقافة، فنشأت المدن العملاقة وتوسّعت الهجرة في الأرض حتى إن 10% من سكان العالم قد هاجروا من أوطانهم في الفترة بين عامي 1870 و1914، وتغيّرت خريطة الموارد والنخب والهيمنة والصراع، ونشأت الحياة الحديثة المعاصرة بصيغها المادية والاجتماعية والثقافية مصاحبة للصناعة، ووسائل النقل، والكهرباء ..
والسؤال البديهي الذي ينشأ عند التفكير في مجتمع المعرفة هو: ما المتوالية الحضارية والاجتماعية والاقتصادية المصاحبة لمجتمع المعرفة؟ وما صيغة المجتمع والعلاقات والحياة والمدن والقرى والمؤسسات؟ هل ستبقى على حالها أما أنها ستتغيّر هي الأخرى تبعاً للتغيّر التقني؟
إذا كنا نتحدث عن عالم تعتمد نسبة كبيرة من خدماته وأعماله على المعرفة والاتصالات والإنترنت فإلى أين سيؤدي ذلك؟
ثمة أعمال كثيرة جداً يمكن إنجازها عبر الانترنت، مثل البرمجيات والإعلام و الكتابة، والتسويق، ومراجعة المؤسسات والدوائر (الحكومة الإلكترونية)، ومراجعة المكتبات، وبيع الأسهم، والتعليم والتدريب، والاتصال والحوار، ومن المعروف أن الأعمال في المنازل تتسع وتتزايد، وبدأت مؤسسات كثيرة إجراء ترتيبات فنية وإدارية لتنظيم عمل مستخدميها من البيوت.
سوق العمل تتغير اليوم تغيراً كبيراً من جهة أنماطها وطبيعتها، فالقديمة منها بدأت تتحول لتعتمد أساساً على تقنيات المعرفة، ونشأت أعمال أخرى جديدة، وانقرضت أعمال ومهن، وستنقرض أخرى بالتأكيد، وكان توزيع العمل في كل مرحلة من تاريخ البشرية يتركز معظمه حسب طبيعة المرحلة، الزراعة، ثم الصناعة، واليوم تتغيّر الأعمال في معظمها لتكون قائمة على المعرفة، فالشركات العملاقة هي القائمة على البرمجيات مثل: (ميكروسوفت) أو صناعة الكمبيوتر مثل (إنتل)، وشركات الاتصالات، وتشكل المعرفة القائمة على المعلوماتية والاتصال والإعلام أهم الموارد الجديدة، والصناعات التقليدية دخلت في مرحلة من العمل والإنتاج قائمة على المعلوماتية فتكاد تكون هي الأخرى معلوماتية، فشرائح المعلوماتية والكمبيوتر التي تزوّد بها الطائرات والصواريخ وجميع الأجهزة الصغيرة منها والكبيرة والمهمة وغير المهمة تشكل 95% من قيمتها بالرغم من أنها لا تساوي -كمنتج مادي- شيئاً فهي ليست أكثر من رقائق مصنوعة من السيليكون.
وربما تنتفي الحاجة للإقامة في المدن أو ضواحيها، فيمكن للمرء أداء عمله والحصول على ما يحتاجه في أي مكان يقيم فيه، وانخفضت أهمية المكان في العمل والتواصل، ولذلك فإن المدن المزدحمة كثيفة السكان لم تعد أمراً حتمياً أو قدراً، بل ستشهد تراجعاً، وقد تختفي نهائياً لتعود المدن الصغيرة والبلدات، وسيتحول اتجاه الهجرة ليكون من المدن إلى الريف وليس العكس.
وستنتهي حركة النقل والمواصلات في الصباح والمساء بين البيوت والمؤسسات، وتقل الحاجة إلى وسائل النقل، وكذلك الطرق الواسعة.. فتنكمش المدن، وتضيق طرقاتها، وتقل فيها المركبات والزحام والضوضاء وتتحول إلى قرية كبيرة، وهو (سيناريو) تشجع عليه أيضاً الزيادة الهائلة في أسعار النفط، والذي قد يغير من طبيعة الاستيطان والمواصلات.
والتعليم ستتغيّر مؤسساته و آليات عمله؛ فإمكانية التعليم عبر الإنترنت ستقلل كثيراً من دور المؤسسات (المدارس والجامعات) وبخاصة مع اتجاه الدول والمجتمعات إلى تقليل النفقات، وسيكون التعليم عبر الإنترنت وسيلة فعّالة وغير مكلفة مقارنة مع موازنات التعليم الهائلة التي تتحملها الدول والمجتمعات اليوم.. وهذا سيغيّر أيضاً من دور المنازل والعائلات، فهي إضافة إلى كونها مركز عمل ستكون أساس تعليم الأولاد أيضاً.
وهكذا فإن البيوت سيتغيّر تصميمها لتلائم الدور الجديد لها؛ فتنشأ العمارة الجديدة القائمة على فكرة أن البيوت أمكنة إقامة وعمل وتعليم.. فلا بد أن تتسع وتكون أكثر هدوءاً وخصوصية، وستنكفئ على نفسها بدلاً من أن تطل على الشارع والطرقات لتحقيق مزيد من العزلة والخصوصية.. أي سيعود البيت القديم المتسع ذو الأروقة والأجزاء المختلفة والأحواش والساحات لاستيعاب الأولاد الذين سيكون البيت فضاءهم الرئيس.
علاقات العمل ستتغيّر أيضاً.. فهي متجهة إلى الفرديّة والاستقلاليّة وستتوقف أشكال التوظيف والهرميّة التنظيميّة والإداريّة ليتحوّل العمل إلى شبكة تربط الأفراد وعناصر الوحدات والإنتاج ببعضها على قدر كبير من التكافؤ والمساواة والحرية في العلاقة وتبادل الإنتاج والخدمات، وسيكون بمقدور أعضاء الأسرة جميعاً أن يعملوا معاً لإنجاز عمل مطلوب "الأسر المنتجة" تماماً كما كانت وما زالت الأسر تعمل معاً في الحقول والمزارع.
والعلاقات الاجتماعية بسبب حاجة الأولاد إلى التربية والحياة الاجتماعية وبسبب الوقت المتاح بعد أن تحقق حرية كبيرة في إدارته ستتجه إلى التماسك والارتباط، فتعود الأحياء الشعبية المتماسكة والمرتبطة ببعضها، وتنشأ أيضاً الأسر الكبيرة الممتدة التي تعيش مع بعضها في بيت واحد.
وتغيّر دور الحكومات والدول، والتحوّل إلى الاعتماد على الذات والقدرة على العيش في الريف والوقت المتوافر سيجعل الأسر تتجه لإنتاج احتياجاتها بنفسها وبخاصة في التغذية لتوفير النفقات وللانسجام مع الاستقلالية والذاتية؛ فيكون في كل بيت مصدره الغذائي من زراعات وحيوانات منزلية، فلم يعد ثمة ما يمنع ذلك، بل قد يكون مفضلاً وربما حتمياً، وبخاصة عندما تختفي أعمال ومهن كثيرة، ويكون الإيراد معتمداً على الإنتاج الذاتي والعمل بالخدمة أو بالقطعة.
وهكذا سيعود المجتمع الزراعي مصحوباً بتقنية متقدمة، كما تنبأ مفكرون مستقبليون مثل توفلر وجاك أتالي، وقد يصحب ذلك تحوّل ثقافي وحضاري.. فتزيد أهمية الثقافة والفولكلور والحياة الشعبية والموسيقى والأدب والشعر كما كانت أهميتها من قبل؛ لأن الناس سيجدون من الوقت والارتباطات ما يجعلهم ينشغلون بذلك.