د. محمد بن إبراهيم الحمد
يعيش العالم هذه الأيام أزمة اقتصادية خانقة، وهذه الأزمة ألقت بظلالها على الحكومات، والأفراد، مما جعل الذعر يخيِّم على كثير من أجواء العالم.
ولا ريب أن ذلك من تقدير العزيز الحكيم، الذي بيده ملكوت كلِّ شيء. والعباد إذا تمادوا بالفساد والإفساد عوقبوا عقوبات متنوعة، ومن تلك العقوبات محق البركة في المال. وإن من أعظم أسباب محق بركة المال تعاطي الربا؛ فالربا من كبائر الذنوب، وهو ظلم، وغبن، وحرب لله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وهو محرم بالكتاب والسنة والإجماع (1). قال-تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ). [البقرة: 278-279]. وللربا آثار نفسية وخلقية مدمرة؛ ذلك أن المرابي يستعبده المال، فيسعى للوصول إليه بكل سبيل دونما مبالاة باعتداء على المحرمات، أو تجاوز للحدود. والربا ينبت في النفس الجشعَ، والظلمَ، وقسوة القلب، بل إن الربا يحدث آثاراً خبيثة في نفس متعاطيه وتصرفاته، وأعماله، وهيئته. ويرى بعض الأطباء أن الاضطراب الاقتصادي الذي يولد الجشع الذي لا تتوافر أسبابه الممكنة - يسبب كثيراً من الأمراض التي تصيب القلب، فيكون من مظاهرها ضغط الدم المستمر، أو الذبحة الصدرية، أو الجلطة الدموية، أو النزيف في المخ، أو الموت المفاجئ. ولقد قرر عميد الطب الباطني في مصر الدكتور عبد العزيز إسماعيل في كتابه (الإسلام والطب) أن الربا هو السبب في كثرة أمراض القلب (2). ثم إنه مزيل للترابط والتآخي والتكافل بين الناس؛ فأضراره على الأفراد والمجتمعات كثيرة جداً (3). وإن من أعظم آثار الربا المدمرة محقَ البركة، قال الله -تعالى-: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ). [البقرة: 276]. قال الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: "ثم أخبر الله -تعالى- أنه يمحق مكاسب المرابين ويربي صدقات المنفقين، عكس ما يتبادر لأذهان كثير من الخلق أن الإنفاق ينقص المال وأن الربا يزيده، فإن مادة الرزق وحصول ثمراته من الله –تعالى- وما عند الله لا يُنال إلاّ بطاعته وامتثال أمره، فالمجترئ على الربا يعاقبه بنقيض مقصوده، وهذا مشاهد بالتجربة ومَنْ أصدق مِنَ الله قيلاً (والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيْم). وهو الذي كفر نعمة الله، وجحد منَّة ربه وأثم بإصراره على معاصيه. فالتوبة من الربا واجبة على الفور، وتكون بترك الربا، والندم على ما مضى من التعامل به، والعزم على عدم العود إليه. أما ما بيد التائب من الأموال التي اكتسبها من الربا فقد اختلف أهل العلم في حكمها: 1- فمنهم من يقول يخرجها ولا يبقيها في ماله. يقول القرطبي -رحمه الله- في [الجامع لأحكام القرآن 2/366-367]: "قال علماؤنا: إن سبيل التوبة مما بيده من الأموال الحرام إن كانت من رباً فليردها على من أربى عليه، ويطلبه إن لم يكن حاضراً، فإن أيس من وجوده فليتصدق بذلك عنه". إلى أن قال: "فإن التبس عليه الأمر، ولم يدر كم الحرام من الحلال مما بيده فإنه يتحرى قدر ما بيده مما يجب عليه رده؛ حتى لا يشك أن ما بقى قد خلص له، فيرده من ذلك الذي أزال عن يده إلى من عرف ممن ظلمه، وأربى عليه، فإن أيس من وجوده تصدق به عنه، فإن أحاطت المظالم بذمته، وعلم أنه وجب عليه من ذلك ما لا يطيق أداءه أبداً؛ لكثرته - فتوبته أن يزيل ما بيده أجمع إما إلى المساكين، وإما إلى ما فيه صلاح المسلمين، حتى لا يبقى في يده إلاّ أقل ما يجزئه في الصلاة من اللباس وهو ما يستر العورة، وهو من سرته إلى ركبتيه، وقوت يومه؛ لأنه الذي يجب له أن يأخذه من مال غيره إذا اضطر إليه، وإن كره ذلك من يأخذه منه". وورد للجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية سؤال يقول: "إذا كان رجل يتعامل بالربا، وأراد التوبة، فأين يذهب بالمال الناتج من الربا؟ هل يتصدق به؟ "إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً". ما مدى تأثير هذا القول على مال الرب"؟ وأجابت اللجنة في الفتوى رقم (6375) في 20/11/ 1403هـ بما نصه: "يتوب إلى الله، ويستغفره، ويندم على ما مضى، ويتخلص من الفوائد الربوية بإنفاقها في وجوه البر وليس هذا من صدقة التطوع، بل هو من باب التخلص مما حرم الله". وجاء في الفتوى رقم (18057) وتاريخ 17/7 / 1416هـ من فتاوى اللجنة الدائمة ما نصه: "لا يجوز أخذ الفوائد الربوية من البنوك أو غيرها بحجة أنه سينفقها على الفقراء؛ لأن الله حرم الربا مطلقاً، وشدد الوعيد فيه، ولا تجوز الصدقة منه؛ لأن الله طيب لا يقبل إلاّ طيباً، لكن إذا كان قد قبض الفوائد الربوية فعليه أن يصرفها على الفقراء؛ تخلّصاً منها، وليس له أن يستفيد منه". وجاء كلام قريب من هذا في الفتوى رقم (6770) في 12/ 3/ 1404هـ، والفتوى رقم (16576) في 7/ 2/ 1414هـ من فتاوى اللجنة. 2- ومن العلماء من يقول: إن على المرابي أن يخرج ما بيده من الربا إن كان قد قبضه وهو يعلم حكم الله في ذلك، وأما إن كان قد قبضه وهو جاهل فهو له، ولا يجب عليه إخراجه. جاء في إجابة لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- عن سؤال حول التعامل بالربا مع البنوك ما نصه: " يحرم التعامل بالربا مع البنوك وغيرها، وجميع الفوائد الناتجة عن الربا كلها محرمة، وليست مالاً لصاحبها، بل يجب صرفها في وجوه الخير إن كان قد قبضها وهو يعلم حكم الله في ذلك. أما إذا كان لم يقبضها فليس له إلاّ رأس ماله؛ لقوله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ). [البقرة: 278-279]. أما إن كان قد قبضها قبل أن يعرف حكم الله في ذلك فهي له، ولا يجب عليه إخراجها من ماله؛ لقول الله - عز وجل-: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ). [البقرة: 275]. وعليه زكاة أمواله التي ليست من أرباح الربا كسائر أمواله التي يجب فيها الزكاة، ويدخل في ذلك ما دخل عليه من أرباح الربا قبل العلم؛ فإنها من جملة ماله؛ للآية المذكورة، والله ولي التوفيق". (فتاوى مهمة تتعلق بالزكاة من أجوبة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز أشرف على طبعه محمد بن شايع العبد العزيز ص25-26). 3- ومن العلماء من يقول: بأن للمرابي ما بيده مما قبضه من الربا قبل التوبة، فإذا تاب كان ذلك المال الذي قبضه من الربا داخلاً تحت تصرفه؛ فلا يُؤمر برد ما قبضه من الربا قبل التوبة، وإنما يدع ما بقي من الربا مما لم يقبضه. يقول فضيلة الشيخ عبد الله بن منيع -حفظه الله-: "وذكر بعض أهل العلم وبعض محققيهم أن من بيده أموال محرمة بوصفها لا بأصلها، كالأموال الربوية مما ليس له أفراد معينون وهي مختلطة بماله الحلال، وبثمن مجهوده في الاكتساب بها؛ فإذا تاب من بيده هذه الأموال توبة نصوحاً مستكملة شروط التوبة إلى الله -تعالى- فإنه يُقرّ على ما بيده، وتوبته النصوح تجُبّ ما قبلها، ويعتبر ما بيده ملكاً له، يتصرف فيه تصرف المالك في ملكه. واستدلوا على ذلك بقوله -تعالى-: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ). وذكروا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأن الموعظة أعم من أن تُحصر في انشراح صدر الكافر إلى الإسلام، وقالوا في توجيه هذا القول: إن الأخذ بهذا يدعو أهل الفسوق إلى التوبة إلى الله، وأن القول بغير هذا -أي بحرمانه مما بيده- قد يسد عليه باب التوبة إلى الله، ويعين الشيطان عليه في الاستمرار على أخذ المال الحرام، والتعاون على الإثم والعدوان، وأجابوا عن الآية الكريمة (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) بأن هذه الآية خاصة بالأموال الذميمة المشتملة على الفوائد الربوية، فمن كان له في ذمة أحد من الناس مبلغ من المال بعضه ربا فالتوبة تقتضي أن يتقاضى رأس ماله فقط، ويسقط ما زاد عنه من فائدة ربوية". [بحوث في الاقتصاد الإسلامي للشيخ عبد الله بن منيع ص34-35]. وممن قال بهذا القول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، يقول -رحمه الله-: "واختار الشيخ تقي الدين أن المقبوض بعقد فاسد غير مضمون، وأنه يصح التصرف فيه؛ لأن الله -تعالى- لم يأمر برد المقبوض بعقد الربا بعد التوبة، وإنما رد الربا الذي لم يُقبض، ولأنه قُبض برضا مالكه؛ فلا يشبه المغصوب، ولأن فيه من التسهيل والترغيب في التوبة ما ليس في القول بتوقيف توبته على رد التصرفات الماضية مهما كثرت وشقت، والله أعلم" الفتاوى السعدية ص218. وقال -رحمه الله- في قوله -تعالى-: (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ) قال: "يعني من المعاملات الربوية؛ فلكم رؤوس أموالكم (لا تظلمون) الناس بأخذ الربا (ولا تُظلمون) ببخسكم رؤوس أموالكم؛ فكل من تاب من الربا فإن كانت معاملات سالفة فله ما سلف، وأمره منظور فيه، وإن كانت معاملات موجودة وجب عليه أن يقتصر على رأس ماله، فإن أخذ زيادة فقد تجرأ على الرب". [تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 1/340]. وممن قال بهذا القول، وانتصر له شيخ الإسلام ابن تيمية، يقول -رحمه الله- في معرض كلام له عن المقبوض بعقد فاسد يعتقد صاحبه صحته ثم ظهر له عدم الصحة ما نصه: "وأما إذا تحاكم المتعاقدان إلى من يعلم بطلانها قبل القبض واستفتياه إذا تبين لهما الخطأ، فرجع عن الرأي الأول - فما كان قد قبض بالاعتقاد والأول أُمضي، وإذا كان بقي في الذمة رأس المال وزيادة ربوية أُسقطت الزيادة، ورجع إلى رأس المال، ولم يجب على القابض رد ما قبضه قبل ذلك بالاعتقاد الأول". [مجموع الفتاوى 29/ 413]. وقال -رحمه الله- في موضع آخر في تفسير آيات الربا من سورة البقرة: "قوله: (فله ما سلف) أي مما كان قبضه من الربا جعله له، (وأمره إلى الله) قد قيل: الضمير يعود إلى الشخص، وقيل: إلى (ما) وبكل حال فالآية تقتضي أن أمره إلى الله لا إلى الغريم الذي عليه الدين، بخلاف الباقي فإن للغريم أن يطلب إسقاطه" . وقال -رحمه الله- في قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا): "أي ذروا ما بقي من الزيادة في ذمم الغرماء، وإن تبتم فلكم رأس المال من غير زيادة، فقد أمرهم بترك الزيادة وهي الربا، فيسقط عن ذمة الغريم، ولا يُطالب بها، وهذا للغريم فيها حق الامتناع من أدائها، والمخاصمة على ذلك، وإبطال الحجة المكتتبة بها. وأما ما كان قبضه فقد قال: (فله ما سلف وأمره إلى الله) فاقتضى أن السالف له للقابض، وأن أمره إلى الله وحده لا شريك له، ليس للغريم فيه أمر، وذلك أنه لما جاءه موعظة من ربه فانتهى كان مغفرة ذلك الذنب، والعقوبة عليه إلى الله، وهذا قد انتهى في الظاهر، فله ما سلف (وأمره إلى الله) إن علم من قلبه صحة التوبة غُفر له، وإلا عاقبه، ثم قال: (اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ) فأمر بترك الباقي، ولم يأمر برد المقبوض. وقال: (وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ) لا يشترط منها ما قبض. وهذا الحكم ثابت في حق الكافر إذا عامل كافراً بالربا، وأسلما بعد القبض، وتحاكما إلينا - فإن ما قبضه يحكم له كسائر ما قبضه الكفار بالعقود التي يعتقدون حلها كما لو باع خمراً، وقبض ثمنها، ثم أسلم فإن ذلك يحل له كما قال النبي-صلى الله عليه وسلم-: "من أسلم على شيء فهو له". وأما المسلم فله ثلاثة أحوال: تارة يعتقد حل بعض الأنواع باجتهاد أو تقليد، وتارة يعامل بجهل، ولا يعلم أن ذلك ربا محرم، وتارة يقبض مع علمه بأن ذلك محرم. أما الأول والثاني ففيه قولان إذا تبين له فيما بعد أن ذلك ربا محرم، قيل: يرد ما قبض كالغاصب، وقيل: لا يرده، وهو أصح؛ لأنه كان يعتقد أن ذلك حلال. والكلام فيما إذا كان مختلفاً فيه مثل الحيل الربوية، فإذا كان الكافر إذا تاب يُغفر له ما استحله، ويُباح له ما قبضه - فالمسلم المتأول إذا تاب يُغفر له ما استحله، ويُباح له ما قبضه؛ لأن المسلم إذا تاب أولى أن يغفر له إذا كان قد أخذ بأحد قولي العلماء في حل ذلك؛ فهو في تأويله أعذر من الكافر في تأويله. وأما المسلم الجاهل فهو أبعد، لكن ينبغي أن يكون كذلك، فليس هو شراً من الكافر". [تفسير آيات أشكلت 2/ 574-578]. وقال -رحمه الله-: "والشريعة أمر ونهي، فإذا كان حكم الأمر لا يثبت إلاّ بعد بلوغ الخطاب وكذلك النهي - فمن فعل شيئاً لم يعلم أنه محرم ثم علم لم يُعاقب، وإذا عامل معاملات ربوية يعتقدها جائزة، وقبض منها ما قبض ثم جاءه موعظة من ربه فانتهى - فله ما سلف". [تفسير آيات أشكلت 2/582]. وقال -رحمه الله- : "والتوبة تتناول المسلم العاصي كما تتناول الكافر، ولا خلاف أنه لو عامله برباً يحرم بالإجماع لم يقبض منه شيئاً ثم تاب أن له رأس ماله؛ فالآية تناولته، وقد قال فيها: (اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا)، ولم يأمر برد المقبوض، بل قال قبل ذلك: (فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ). وهذا -وإن كان ملعوناً على ما أكله وأوكله- فإذا تاب غُفر له، ثم المقبوض قد يكون اتجر فيه، وتقلّب، وقد يكون أكله، ولم يبق منه شيء، وقد يكون باقياً، فإن كان قد ذهب، وجعل ديناً عليه كان في ذلك ضرر عظيم، وكان هذا منفراً عن التوبة. وهذا الغريم يكفيه إحساناً إليه إسقاطه ما بقي في ذمته، وهو برضاه أعطاه، وكلاهما ملعون. ولو فرض أن رجلاً أمر رجلاً بإتلاف ماله وأتلفه لم يضمنه وإن كانا ظالمين، وكذلك إذا قال: اقتل عبدي، هذا هو الصحيح، وهو المنصوص عن أحمد وغيره؛ فكذلك هذا هو سلَّط ذاك على أكل هذا المال برضاه؛ فلا وجه لتضمينه -وإن كانا آثمين- كما لو أتلفه بفعله؛ إذ لا فرق بين أن يتلفه بأكله أو بإحراقه، بل أكله خير من إحراقه، فإن لم يضمنه في هذا بطريق الأولى. وأيضاً فكثير من العلماء يقولون: إن السارق لا يُغرّم؛ لئلا يجتمع عليه عقوبتان؛ من أن الحد حق لله، والمال حق لآدمي. وهذا أولى؛ لئلا يجتمع على المرابي عقوبتان: إسقاط ما بقي، والمطالبة بما أكل. وإذا كان عين المال باقياً فهو لم يقبضه بغير اختيار صاحبه كالسارق، والغاصب، بل قبضه باتفاقهما، ورضاهما بعقد من العقود، وهو لو كان كافراً ثم أسلم لم يرده، وقد قال -تعالى-: (فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ). [تفسير آيات أشكلت 2/588-590]. وقال -رحمه الله-: "وأما الذي لا ريب فيه عندنا فهو ما قبضه بتأويل، أو جهل - فهنا له ما سلف بلا ريب، كما دل عليه الكتاب والسنة والاعتبار. وأما مع العلم بالتحريم فيحتاج إلى نظر؛ فإنه قد يُقال: طرد هذا أن من اكتسب مالاً من ثمن خمر مع علمه بالتحريم فله ما سلف، وكذلك كل من كسب مالاً محرماً ثم تاب إذا كان برضا الدافع، ويلزم مثل ذلك في مهر البغي، وحلوان الكاهن. وهذا ليس ببعيد عن أصول الشريعة؛ فإنها تفرق بين التائب وغير التائب كما في قوله: (فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ). وقال -تعالى-: (قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ). [الأنفال: 38]. [تفسير آيات أشكلت 2/ 592-593]. وقال -رحمه الله-: "ومن تدبر أصول الشرع علم أنه يتلطف بالناس في التوبة بكل طريق". [تفسير آيات أشكلت 2/ 595]. وقال -رحمه الله-: "وأما الربا فإنه قبض بربا صاحبه، والله -سبحانه- يقول: (فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ)، ولم يقل: فمن أسلم، ولا من تبين له التحريم بل قال: (فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى)، والموعظة تكون لمن علم التحريم أعظم مما تكون لمن لم يعلمه، قال الله -تعالى-: (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ). [النور: 17]. وقال: (أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً). [النساء: 63]. وأيضاً فهذا وسط بين الغريمين؛ فإن الغريم المدين ينهى أن يسقط عنه الزيادة، وهذا عنده غاية السعادة، وذاك لا ينهى أن يبقى له ما قبض، وقد عفا الله عما مضى. وأما تكليف هذا إعادة القرض فذلك مثل مطالبة الغريم بما بقي، وكلاهما فيه شطط، وتسلط، وشدة عظيمة". [تفسير آيات أشكلت 2/596]. ولعل هذا الرأي يفتح أبواب التوبة من الربا لكثير من متعاطيه، خصوصاً وأن له وجاهةً وقوةً.
فلعل الله أن يفتح قلوب المسلمين الوالغين في الربا للتوبة منه، والأخذ بوصية الله -عز وجل- بتركه.