للأطفال مكانهم ومكانتهم، فلذات أكبادنا تمشي على الأرض، هم يمثلون ديمومة الحياة، ويمنحون حيواتنا معاني وإشاراتٍ غنية الدلالة، ومن ثمَّ فالحاجة ماسة والسعي دؤوب لتوفير أفضل الفرص لحياة إنسانية سليمة تلبي احتياجات نموهم، وتوفر أجواء صحية تحيط بهم؛ لذا ينبغي- خلال رحلة تنشئتهم- مراعاة تنوع وثراء وفاعلية وسائل إيصال الرسائل التعليمية والتربوية لهم، ومن ثم إثارتها لانتباههم ووجدانهم، وملائمتها لأحوالهم، ومخاطبتهم بلسانهم، وتلبيتها لاحتياجاتهم، ومساهمتها الفاعلة في تطوير سلوكاتهم، وفي بناء شخصيتهم، وإكسابهم القدرات والمهارات المتنوعة، وإعدادهم ليكونوا طاقة منتجة.

ومسرح الطفل قديم حديث في آنٍ معا، فقد ظهر مسرح العرائس عند قدماء المصريين والصينيين واليابانيين وبلاد ما بين النهرين، وقد برع فيه اليابانيون حتى أصبح إحدى أدواتهم التعليمية والتربوية المؤثرة، وكان فتية الإغريق يتعلمون «الرقص التعبيري» ضمن برنامجهم الدراسي، وفي «جمهورية أفلاطون» ثمة ضرورة لتلقين الجند فن المحاكاة، وتمثيل أدوار درامية تتعلق بالمروءة والفضيلة والشجاعة دون غيرها من الأدوار المشهدية.
ويذهب مارك توين الكاتب الأميركي إلى أن مسرح الطفل حديث نسبيا، فهو- برأيه - لم يظهر إلا في القرن العشرين، ويعدّه «من أعظم الاختراعات التي اهتدت إليها عبقرية الإنسان، ولسوف تتجلى قيمته بمرور الوقت، فسيكون أقوى معلم للأخلاق، وخير دافع للسلوك الطيب، حيث دروسه لا تُلقن بطريقة مُرهقة أو مملة، بل بإبداع يبعث الحماسة، وبرسائل تصل مباشرة إلى قلوب وعقول أطفالنا».

مسرح الطفل العربي

عربيًّا.. ثمة جدل يدور حول نشأة المسرح العربي على وجه العموم، وهل هو منقول أم أصيل الجذور؟ يؤيد أنصار الرأي الأخير مذهبهم بظهور فن «تمثيليات خيال الظل» الذي ارتحل عبر الصين والهند وفارس والشرق الأوسط ليستقر في الوطن العربي على يد الحكيم شمس الدين بن محمد بن دانيال بن الخزاعي الموصلي، والشيخ مسعود، وعلي النحلة، وداود العطار الزجال.
وقد استوطن هذا الفن مصر والعراق، ويذكر أن صلاح الدين الأيوبي حضر عرضا لخيال الظل مع وزيره القاضي الفاضل عام 567هـ، ثم انتقل إلى تركيا عام 1517م على يد السلطان سليم الأول، ثم انتشر منها في أوروبا، ثم تطور الأمر بظهور «فن القراقوز» في مصر.
وقد تأخر ظهور مسرح الأطفال لدينا كما هو الحال في أدب الأطفال بوجه عام، وذلك لصعوبة اختيار موضوعاته وقلة المهتمين به، وعدم الاهتمام الكافي بثقافة الطفل عامة وآدابه من جهة أخرى، ولذلك ظلت نسبة المسرحيات المكتوبة للأطفال حتى الآن تتراوح ما بين (1-2)! مما يكتب وينشر من أدب الأطفال على مستوى الوطن العربي، وإن اختلفت هذه النسبة من بلد عربي إلى بلد آخر.

مسارح عدة

لعل مسرح الطفل يتميز بثرائه وتنوعاته، فهناك مسرح تلقائي أو فطري يتكون معه بالغريزة، يستند فيه إلى الارتجال والتعبير الحر التلقائي والتمثيل اللعبي واللعب الشخصي والإسقاطي والواقعي والخيالي.
وهناك مسرح العرائس (الدمى)، حيث الدمى تُحرك بخيوط أمام الجمهور مباشرة، أو بأيدي اللاعبين أنفسهم، ولهذا النوع من المسرح تأثير كبير على الأطفال والكبار، حيث يبهرهم ويدهشهم بقصصه وجمالياته التي تحمل رسائل ترفيهية وتعليمية وتثقيفية رائعة (أوبريت «الليلة الكبيرة»، و«عالم سمسم»... الخ).
وهناك مسرح تمثيلي ترفيهي يقوم الأطفال فيه بدور تمثيلي لبعض الأعمال الأدبية التي تحتوي على مضامين ثقافية، وتنمي الوعي لدى الأطفال، وتكسبهم كثيرا من العادات السلوكية من خلال معايشة مضمون المسرحية، وهناك مسرح قائم على الأطفال، ويقومون هم به، حيث الاشتراك في كتابة الموضوع، وتجسيده وإخراجه، وهو في معظم الأحيان مسرح تعليمي.
وعندما يُعد المسرح ليكون معينا تعليميا Theater as Teaching Tools فإنه يستند إلى أسس من علوم التربية وعلم النفس والاجتماع... الخ. ويهدف لتبسيط المحتوى التعليمي المُقدم للأطفال تبعا لمراحلهم العمرية (طفل ما قبل المدرسة، رياض الأطفال، أطفال المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية).
ففي مسرح التعليم الأوليّ يمثل التلاميذ مجموعة من الأدوار المسرحية التي يقترحها المربون، كما يمكن لهذا المسرح أن يُقدم المناهج التعليمية في سياق درامي غنائي، يشترك فيه الأطفال من أول لحظة، ويشاركهم العمل المعلمون وبعض المهتمين بالفن المسرحي من مخرجين وممثلين.
أما المسرح التعليمي للمراحل اللاحقة (الابتدائي والإعدادي والثانوي) فيعد التمثيل فيه بمنزلة تقنية لتحقيق الأهداف العامة والخاصة، وتنمية الجوانب الفكرية والوجدانية والحسية الحركية للأطفال، كما يُحتفى من خلاله بالمناسبات الرسمية (الأعياد الدينية والوطنية)، وغير الرسمية (إعلان النتائج، وتوزيع الشهادات في نهاية العام).
وثمة مسرح إذاعي تنافسي بين الأقسام لتقديم إذاعة متميزة، إذاعة تهدف إلى تكوين خليط من المرح والجدية والمعايشة اليومية للأحداث والمناسبات المهمة، وجذب الانتباه، واستثمار طاقة الطلاب الموهوبين مسرحيا، والتجديد والابتكار في إيصال الرسائل المرادة، ومعالجة بعض السلبيات بطريقة ماتعة.
أما المسرح الجامعي فيعد امتدادا للمدرسي وجمالياته، بدءا من النص الدرامي، وتحضيرات العرض وتشكّله، وعناصر إنتاجه، وتقمص شخوصه، تقليدا ومحاكاة تارة، وتفردا وإبداعا تارة أخرى، تتم تحت إشراف أساتذة مختصين.

مسرح حقيقي

مسرح الطفل- الذي يفوق في تأثيره على الأطفال وسائل ثقافية أخرى- يهدف لخدمة الطفولة، إمتاعا وترفيها وإثارة وتنمية، وهو مسرح حقيقي بكل مفرداته وعناصره وأدواته وتقنياته وجمالياته سواء قام به- تأليفًا وتمثيلا وإخراجًا- الصغار أو الكبار أو كلاهما معًا.
إن عناصر هذا المسرح، وطرائق التشويق والشد والجذب والإبهار والتلوينات وما يماثلها، تتوجه للأطفال بطريقة توائم تفاصيل حركاتهم ولعبهم اليومي بغية ملئهم بالمرح والكوميديا والنشاط المتزامن مع الرغبة في تغذيتهم بالعلوم والمعارف.
وما يميز مسرح الطفل كصنف درامي يأخذ طابعه الخاص وهويته وغايته من وظيفته التي تتحدد بطبيعة الجمهور المستهدف، ومن ثمَّ ما يفرضه ذلك من آليات الخطاب الخاص، فالجمهور المباشر الرئيسي ما بين (5- 18) سنة، وهذا لا ينفي وجود جمهور غير مباشر من الكبار المعنيين بالتقاط رسائل هذا المسرح وطرائق تعاملها ومعالجاتها لأدائها في البيوت والمدارس والنوادي والجمعيات... الخ.
إن كتابة الدراما المسرحية للأطفال عمل ليس بالهيّن اليسير، فهو يحتاج إلى مقدرة أدبية وفنية خاصة، فلغة هذا المسرح ينبغي أن تتناسب والثروة المعجمية له، والتي تقف من خلفها مقدرته النامية لاكتساب حصيلة جديدة، وفي هذا الإطار (الإدراكي- اللغوي) للطفل يراعى حبه للأصوات وتقسيمه إياها إلى إيقاعات وأوزان؛ لذا فالإيقاعات الموسيقية المصاحبة للعرض تهدف لإثارة وترتيب أو إعادة ترتيب عمل الدماغ لدى الأطفال، كما أن إبداع المفردة ونحت العبارة وبناءها صوريًّا تكون لديهم بآلية الرسم لا بآلية القواعد اللغوية المتعارف عليها، فضلا عن أن الأداء الصوتي للحروف ومخارجها، وللألفاظ وسلامتها، وللعبارات وصوابها، له خصوصيته في مسرح الطفل.

فوائد متعددة

- تعزيز الانتماء وحب الأوطان في نفوس الأطفال، وترسيخ القيم الأصيلة في المجتمع .
- تنمية مشاعرهم الإنسانية، ومشاركتهم الوجدانية، وإثراء حاسة تذوقهم الفني، وقدراتهم على التخيل وتطويعها عند الحاجة.
- تحبيبهم في لغتهم العربية، وتدريبهم على حسن النطق بها واستعمالها في حياتهم اليومية.
- وسيلة طيبة للترويح عن نفوس الأطفال، والتنفيس عن رغباتهم، وتنمية الحس الفكاهي لديهم.
- تبسيط المواد الدراسية عن طريق مسرحتها (تحويل المقررات الدراسية إلى ألعاب معرفية) بأسلوب مشوق، وبالتالي الإقبال على التعلم.
- اكتشاف الموهوبين وتنميتهم، والإفادة منهم، وإذكاء روح المنافسة الشريفة بينهم.
- نشر القيم الأخلاقية بوسيلة محببة، وعلاج المشاكل الاجتماعية بأسلوب شائق.

هل من مزيد؟

- إن مسرحًا هذا شأنه، وتلك فوائده، وعلى الرغم من أنه- في هذا البلد أو ذاك- محاط بهالة إعلامية من الاحتضان والرعاية والتواصل فإننا ما زلنا بحاجة إلى:
- ترسيخ حب هذا الفن الراقي وتحويل المقررات الدراسية إلى ألعاب معرفية يتداولها الأطفال فيما بينهم
- تفعيل مؤسسات الإبداع المسرحي عبر ديمومة ورش العمل المختصة، واعتبار مادة «مسرح الطفل» إحدى المواد التي تدرس في كليات التربية والآداب وإعداد المعلمين ورياض الأطفال ومعهد الفنون الجميلة.
- تقديم مسرحيات وفق رؤية استراتيجية، ومن خلفها كوادر فنية وإبداعية، وتوفير الدعم والمساعدات المطلوبة لإنجاحها.
- الاهتمام المؤسسي بتدوين وتوثيق وأرشفة مسرح الطفل.
جملة القول: التأسيس لشخصية الإنسان تنطلق من الاستجابة لحاجاته وتلبيتها لتحقيق نمو صحي وسليم، ولا يغيب عن البال أن الإنسان البالغ هو حصيلة تراكم الخبرات والمهارات والمعارف الناجمة عن نشاط الطفولة ومن ذلك اللعب، والمسرح يعكس جانبا كبيرا منه، إنَّ بيتًا ومدرسة ومجتمعًا بلا دراية أو ممارسة لمسرح الطفل، هي جميعا مؤسسات غير مكتملة في أداء مهامها لبناء شخصية الإنسان السوية.

المصدر: مجلة الوعي الإسلامي - وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - دولة الكويت
ahmedkordy

خدمات البحث العلمي 01009848570

  • Currently 50/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
16 تصويتات / 1379 مشاهدة
نشرت فى 8 إبريل 2011 بواسطة ahmedkordy

أحمد السيد كردي

ahmedkordy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

30,877,700

أحمد السيد كردي

موقع أحمد السيد كردي يرحب بزواره الكرام free counters