خلق الله الإنسان زيْنًا جميلاً، وصوَّرَه في أَحْسَنِ خِلْقَةٍ وأكرم صورة، فقال I: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4]، وقال أيضًا: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 7، 8]، وقال I واصفًا الزِّينة والجمال الذي مَتَّع به الإنسان في الأرض: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الكهف: 7].

 

وقد جاء الأمر بالتجمُّل والتزيُّن في القرآن الكريم، مع استنكار المواقف الرَّافضة للتمتُّع بما أبدعه الله في عالَم الطبيعة ووهبه لعباده، فقال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْـمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 31، 32].

 

وحين ينصح الإسلام الإنسانَ بالتجمُّل والتزيُّن، فمعنى ذلك أنه لا يقصد العناية بجمال الهيئة والصحَّة فقط؛ من مثل نظافة الثوب والبدن وغيرهما، وإنما يعني قبل ذلك جمال التخلُّق وجمال التعامل، وهو ما تحقَّقَ وتَكَامَلَ في الحضارة الإسلامية الإنسانية. فالجمال الإنساني إذن نوعان؛ جمال ظاهري، وجمال معنوي.

 

عناية المنهج الإسلامي بالجمال الظاهري

ليس خافيًا على أحدٍ أن النظافة والطهارة، والعناية بهما، من أَجْلَى مظاهر الحضارة البشرية وأَوْضَحِهَا، وهما في الوقت نفسه من أفضل ما يُعَبِّرُ عن الجمال الحسِّيِّ أو الظاهريِّ.

 

والحقيقة أن الإسلام جاء بمنهج معجز في ذلك، منهج فيه سلامة الجسد والنفس والمجتمع، بل والإنسانيَّة كلها! إلى الحد الذي يرشد القرآن إلى أن الله {يُحِبُّ الْـمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] و{يُحِبُّ الْـمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108]، "أي: المتنزهين عن الأقذار والأذى"[1].

 

بل إلى الحد الذي يقرِّر فيه النبي أن "الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ"[2]، ومما قاله العلماء في الحديث أن "الأجر فيه ينتهى تضعيفه إلى نصف أجر الإيمان"[3].

 

إنه يجدر أن نلفت النظر إلى أن هذه التوجيهات كانت في الوقت الذي كانت فيه القذارة سمة مميِّزة لحياة الأوربيين، فكان الإنسان لا يغتسل في العام كله إلاَّ مَرَّة أو مَرَّتين[4]! حتى وصل الأمر إلى اعتبار أن الأوساخ التي تَعْلَقُ بالجسم والملبس هي من البركة، ومن الأشياء التي تعطي القوة للأبدان.

 

الغسل في الإسلام

جاء المنهج الإسلامي يُرشد المسلمين إلى الطهارة ووجوب الاغتسال، وإلى استحبابه؛ حيث لا طهارة لأبدانهم إلاَّ بالاغتسال، ولا صلاة لهم إلاَّ بالوضوء، الذي قد يَصِلُ إلى خمس مَرَّات في اليوم.

 

فالغُسْلُ واجب عند الجنابة، وعند الحيض، وغير ذلك، وهو مُسْتَحَبٌّ في العيدين والإحرام، وغيرهما، واختلف العلماء في وجوبه أو استحبابه يوم الجمعة، والغالب أنه مُسْتَحَبٌّ؛ قال رسول الله كما روى أبو سعيد الخدري t: "غُسْلُ يَوْمِ الْـجُمُعَةِ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ، وَسِوَاكٌ، وَيَمَسُّ مِنَ الطِّيبِ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ[5]"[6].

 

بل إنه حدَّد للمسلم فترة زمنية قصوى للفارق بين الغُسْلَيْنِ، فقال : "حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا، يَغْسِلُ فِيهِ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ"[7].

 

ووصل بعض الفقهاء بأنواع الغُسْلِ المختلفة إلى سبعة عشر نوعًا من الغُسْلِ؛ للدلالة على أهميته، ودعا الإسلام إلى طهارة الأعضاء المختلفة من الجسم، واهتمَّ بالأعضاء التي تكثر فيها الأمراض، أو يُحْتَمَلُ فيها حدوث الوسخ.

 

منهج الإسلام في النظافة

يمكن أن نرتب منهج الإسلام في النظافة عبر ثلاث خطوات: نهي عن القذارة، ثم أمر بالنظافة، ثم استحباب للزينة وهذا فوق النظافة.

 

وعَلِم المسلمون أن الاستهانة في عدم التطهُّر من النظافة سبب عذاب، إذ أخبر رسول الله حين مَرَّ على قبريْنِ فقال لأصحابه يُحَدِّثُهم عن صاحبي هذين القبرين، كما يروي ابن عباس t: "إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ؛ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ"[8].

 

وحين رأى النبي رجلاً لم يهذِّب شعر رأسه ولحيته أشار إليه بيده: أنِ اخْرُجْ، كأنه يعني إصلاح شعر رأسه ولحيته، ففعل الرجل، ثم رجع، فقال رسول الله : "أَلَيْسَ هَذَا خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدُكُمْ ثَائِرَ الرَّأْسِ كَأَنَّهُ شَيْطَانٌ"[9].

 

وكذلك دعا رسول الله إلى طهارة ونظافة الأماكن التي يُتَوَقَّع فيها العرق والأوساخ والميكروبات، بل جعل ذلك من سُنن الفطرة؛ فقد قال رسول الله : "خَمْسٌ مِنَ الْفِطْرَةِ: الْـخِتَانُ، وَالاِسْتِحْدَادُ[10]، وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ، وَنَتْفُ الإِبِطِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ"[11].

 

وبلغ من عناية النبي أن قال: "لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ وُضُوءٍ"[12]. وقال ابن عباس t: "لَقَدْ كُنَّا نُؤْمَر بالسِّواك، حتى ظننَّا أن سينزل به قرآن"[13].

 

ولا نعجب بعد ذلك حين تنتشر الحمَّامات في جميع أنحاء بلدان الحضارة الإسلامية، والتي غدتْ جزءًا يُمَيِّز الناحية العمرانية في هذه البلدان.

 

وقد عقدت المستشرقة الألمانية زيجريد هونكه مقارنة بين الحضارة الإسلامية في ذلك الوقت وبين حال أوربا والغرب في هذا الصدد، فقالت بأن الفقيه الأندلسي الطرطوشي خلال تجواله في بلاد الفرنجة صادفته أمور تقشعرُّ منها الأبدان، وهو المُسْلِمُ الذي فُرِضَ عليه الاغتسال والوضوء خمس مرات يوميًّا، اسمعه يقول: لن ترى أبدًا أكثر منهم قذارة؛ إنهم لا ينظِّفُون أنفسهم، ولا يستحمُّون إلاَّ مَرَّة أو مرتين في السَّنة بالماء البارد، وأمَّا ثيابهم فإنهم لا يغسلونها بعد أن يرتدوها؛ حتى تُصْبِحَ خِرَقًا بالية مهلهلة. وتُضِيف فتقول: إن مِثْلَ هذا الأمر -من القذارة- لا مجال لأنْ يفهمه العربي المتأنِّق أو يحتمله؛ وهو الذي لم تكن نظافة الجسم وطهارته بالنسبة إليه واجبًا دينيًّا فحسب، وإنما -أيضًا- حاجة ماسَّة تحت وطأة الجوِّ الحار ذاك. ثم ذَكَرَتْ أن مدينة بغداد كانت تزدحم في القرن العاشر للميلاد بآلاف الحمَّامات الساخنة مع المولجين بها، من ممسَّدين[14] ومزيِّنين[15].

 

ونقول: إن الجو الحار وإن كان ظرفًا يحمل على النظافة إلا أن انعدام الأنهار ومصادر المياه قد يبدو ظرفًا مقبولاً لعدم التشدُّد في هذا النظام اليومي والأسبوعي من النظافة الشاملة، إن أوربا ليست كلها مناطق باردة، وفيها مناطق حارَّة، لكنها في ذات الوقت كانت تعوم على الأنهار المنتشرة فيها طولاً وعرضًا. ومع هذا ظهرت فيها مبادئ تدعو للقذارة، وتجعل القَذِر في حالة الفخر.

 

ثم يأتي الإسلام بما بعد النظافة، يأتي بأنواع الزينة.

 

ولقد أعلن النبي أنه يحب الطيب فقال: "حُبِّبَ إِليَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، وجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ"[16]. وكان من عادته إِذَا أُتِيَ بِطِيبٍ لَمْ يَرُدَّهُ[17]، بل وأوصى فقال: "مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ رَيْحَانٌ فَلاَ يَرُدُّهُ؛ فَإِنَّهُ خَفِيفُ الْـمَحْمِلِ طَيِّبُ الرِّيحِ"[18].

 

وعندما صُنعت لرسول الله بُردة سوداء ولبسها، فلما عرق فيها وجد ريح الصوف فقذفها[19].

 

ولهذا كان من وصف خادم النبي أنس بن مالك t قوله: "وَلاَ مَسِسْتُ دِيبَاجَةً وَلاَ حَرِيرَةً أَلْيَنَ مِنْ كَفِّ رَسُولِ اللهِ ، وَلاَ شَمِمْتُ مِسْكَةً وَلاَ عَنْبَرَةً أَطْيَبَ مِنْ رَائِحَةِ رَسُولِ اللهِ "[20].

 

وبهذا كانت النظافة عند المسلمين أمرًا دينيًّا، يبتغون بتنفيذه الأجر والثواب، ويرون في التمثُّل به اقتداءً بنبيهم .

 

د. راغب السرجاني


[1] ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 1/588.

[2] مسلم: كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء (223)، وأحمد (22953).

[3] النووي: المنهاج 3/100.

[4] زيجريد هونكه: شمس العرب تسطع على الغرب ص54.

[5] هكذا وقع في جميع الأصول ليس فيه ذكر واجب، وقوله : "وَسِوَاكٌ وَيَمَسُّ مِنَ الطِّيبِ"، معناه: ويُسَنُّ السواك ومسُّ الطيب. انظر: النووي: المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج 6/135، والمناوي: فيض القدير 4/541.

[6] البخاري: كتاب الجمعة، باب الطيب للجمعة (840)، ومسلم: كتاب الجمعة، باب الطيب والسواك يوم الجمعة (846).

[7] البخاري عن أبي هريرة: كتاب الجمعة، باب هل على من لم يشهد الجمعة غسل... (856)، ومسلم في الجمعة باب الطيب والسواك يوم الجمعة (849).

[8] البخاري: كتاب الوضوء، باب من الكبائر ألا يستتر من بوله (213)، ومسلم: كتاب الطهارة، باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه (292).

[9] رواه مالك في الموطأ برواية يحيى الليثي (1702)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (493).

[10] الاستحداد: هو حلق شعر العانة.

[11] البخاري عن أبي هريرة: كتاب اللباس، باب قص الشارب (5550)، ومسلم: كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة (257).

[12] البخاري عن أبي هريرة: كتاب الجمعة، باب السواك يوم الجمعة (847)، وأبو داود (47)، والترمذي (22)، وأحمد (7840).

[13] رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (1793).

[14] المسد هو الليف، والممسد هو القائم بالتنظيف بالليف في الحمامات.

[15] زيجريد هونكه: شمس العرب تسطع على الغرب ص54.

[16] النسائي: كتاب عشرة النساء، باب حب النساء (3940)، وأحمد (14069)، وصححه الألباني برقم (5435) في صحيح وضعيف الجامع الصغير.

[17] النسائي: كتاب الزينة، باب الطيب (5258)، وأحمد (12197)، وصححه الألباني في التعليق على سنن النسائي.

[18] مسلم: كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، باب استعمال المسك وأنه أطيب الطيب وكراهة رد الريحان والطيب (2253).

[19] أبو داود: كتاب اللباس، باب في السواد (4074)، وصححه الألباني في التعليق على أبي داود.

[20] مسلم: كتاب الفضائل، باب طيب رائحة النبي ولين مسه والتبرك بمسحه (2330).

المصدر: د. راغب السرجاني
ahmedkordy

خدمات البحث العلمي 01009848570

  • Currently 20/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
6 تصويتات / 1237 مشاهدة
نشرت فى 7 مارس 2011 بواسطة ahmedkordy

أحمد السيد كردي

ahmedkordy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

30,879,080

أحمد السيد كردي

موقع أحمد السيد كردي يرحب بزواره الكرام free counters