بعد عام ألف و تسعمائة و تسعون إسدل الستار رسميا من طرف رئيس الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك على المشهد الأخير من العلاقات الدولية في ظل الثنائية القطبية، حيث تم الإعلان رسميا عن نهاية الحرب الباردة، وولادة المشهد العالمي "الجديد" المحكوم بالرؤى والممارسات القائمة على الأحادية القطبية و النظام الرأسمالي المعولم حيث تكرس تغير ميزان القوى العالمي لصالح المشروع الامريكي في الهيمنة على هذا الكوكب واخضاعه باي صورة كانت للسياسات والمصالح الامريكية، فتحولت معظم الحكومات و الانظمة الوطنية في العالم الى أدوات خاضعة او شريكة من الدرجة الثانية للتوجه و السياسة الأمريكية ، زاعمة من خلال خطابها السائد أن الأسواق تضبط من تلقاء نفسها نتيجة للدور الذي تمارسه المؤسسات و الاجهزة الأمريكية ، وأن سيادتها المطلقة التي يحكمها منطق توسعي دون قيود تنتج تلقائياً الديمقراطية والسلام في العالم ، بالتالي ما يستنتج من هذا الخطاب هو ان الولايات المتحدة سوف توظف قوتها العسكرية الاستثنائية من اجل إخضاع الجميع لمقتضيات ديمومة مشروعها للسيادة العالمية، بمعنى آخر لن تكون هناك "عولمة" دون إمبراطورية عسكرية أمريكية، تقوم على المبادئ الرئيسية التالية :
1- إحلال الناتو محل الأمم المتحدة من اجل إدارة السياسة العالمية.
2- تكريس التناقضات داخل أوروبا من اجل إخضاعها للمشروع الأمريكي.
3- تكريس المنهج العسكري كأداة رئيسية للسيطرة.
4- توظيف قضايا "الديمقراطية" و "حقوق الشعوب" لصالح الأستراتيجية الأمريكية عبر الخطاب الموجه للرأي العام من ناحية وبما يساهم في تخفيض بشاعة الممارسات الأمريكية من ناحية ثانية.
أن هذه الدراسة، تأتي كمحاولة لتشخيص الأوضاع الدولية الراهنة و آثارها على حقوق الإنسان، عبر تناولها في عنصرين ، العنصر الأول يتمثل في دعائم و اسس العولمة الرأسمالية و العنصر الثاني يتمثل آثار هذه المتغيرات الدولية الراهنة على حقوق الإنسان .
1. دعائم و أسس العولمة الرأسمالية
إن إنهيار الإتحاد السوفياتي في بداية العشرية الأخيرة من القرن العشرون مجرد حدثاً روسياً فقط ، بقدر ما كان بداية تحول نوعي في مسار العلاقات الدولية ، حيث عملت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها على تفعيل تراكماته الداخلية والخارجية ، تمهيداً لدورها – الذي تمارسه اليوم – كقطب أحادي يتولى إدارة ما يسمى بالنظام العالمي " الجديد " .
وفي سياق هذا التحول المادي الهائل الذي انتشر تأثيره في كافة أرجاء العالم بعد أن تحررت الرأسمالية العالمية من كل قيود التوسع اللامحدود ، كان لابد من تطوير بل وإنتاج النظم المعرفية ، السياسية والاقتصادية الى جانب الفلسفات التي تبرر وتعزز هذا النظام العالمي الأحادي ، خاصة وأن المناخ العام المهزوم أو المنكسر في بلدان العالم الثالث أو الأطراف قد أصبح جاهزاً للاستقبال والامتثال للمعطيات الفكرية والمادية الجديدة، عبر أوضاع مأزومة لأنظمة – في العالم الثالث – فقدت وعيها الوطني أو كادت تفقده ، وقامت بتمهيد تربة بلادها للبذور التي استنبتها النظام العالمي " الجديد " تحت عناوين تحرير التجارة العالمية وإعادة الهيكلة ، والتكيف والخصخصة، باعتبارها أحد الركائز الضرورية اللازمة لتوليد وتفعيل آليات النظام العالمي " الجديد " أو ما يسمى بالعولمة Globalization التي بدأت تنتشر وتتغلغل في أرجاء كوكبنا منذ بداية ثمانينات القرن الماضي حتى بداية هذا القرن الحادي والعشرين، لدرجة أن أحداً لم يعد يماري- كما يقول جاد الكريم الجباعي- في واقع أن الرأسمالية جددت نفسها، ولا تزال على الأرجح قادرة على تجديد نفسها، ولا سيما على صعيد النمو المتسارع في قوى الإنتاج، ولكن ما يغفل عنه كثيرون أن كل تطور نوعي في النظام الرأسمالي العالمي يؤدي الى تغير مقابل في نسق العلاقات الدولية، يتمظهر في صيغة أزمة دولية كالتي نعيشها اليوم، وما ذلك إلا لسبب تعمق الطابع العالمي للقيمة، وتعمق الطابع العالمي لتقسيم العمل وتوزيع الثروة وعوامل الانتاج وصيرورة السوق العالمية المبتورة، كما يصفها سمير أمين، كحقائق واقعية، ومع ذلك لا تكف التناقضات الملازمة للنظام الراسمالي عن العمل والتاثير في بنيته وأدائه، وفي مقدمتها التناقض بين راس المال والعمل، ولا سيما في ظل الكشوف العلمية وثورة الثقافة، وتحول المعرفة الى قوة إنتاج أساسية، وما نمو البطالة والفقر واتساع دائرة المهمشين على الصعيد العالمي سوى بعض مظاهر هذا التناقض .
يؤكد على ذلك تقرير البنك الدولي لعام 2002 الذي كشف عن تباطؤ معدلات نمو الاقتصاد العالمي، خاصة في البلدان النامية الذي من شأنه اعاقة عملية تخفيض أعداد الفقراء في تلك البلدان، ويضيف التقرير، أنه "على الرغم من استمرار ارتفاع اسعار النفط فقد هبط معدل النمو في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا 2.5% مقابل 3.2% عام 2001" وما رافق ذلك من تراجعات، ليس على المستوى الاقتصادي/الاجتماعي فحسب ، بل على الصعيد السياسي حيث تزايدت بصورة غير مسبوقة مظاهر تعمق تبعية الانظمة في هذه المنطقة وخضوعها الكامل للهيمنة الرأسمالية في نظام العولمة الأمريكي، يشهد على ذلك تفاقم الازمات المستعصية السياسية والاقتصادية والمجتمعية، وتكريس مظاهر التبعية والتخلف في بلدان العالم الثالث عموماً، وفي بلدان النفط خصوصاً، رغم ارتفاع الأسعار إلى ما يقرب من (80) دولاراً للبرميل الواحد في منتصف عام 2006.
السؤال الذي نطرحه هنا ونحاول الإجابة عليه ، هل العولمة نظام جديد ظهر فجأة عبر قطيعة مع السياق التاريخي للرأسمالية أم أنه جاء تعبيراً عن شكل التطور الأخير للإمبريالية منذ نهاية القرن الماضي ؟ وهل تملك العولمة كظاهرة إمكانية التفاعل والتطور والاستمرار لتصبح أمراً واقعاً في القرن الحادي والعشرين؟
أولاً : المعروف أن الرأسمالية منذ نشأتها الأولى في القرن السادس عشر ، ومن ثم في سياق تطورها اللاحق ، لم تكن في صيرورة فعلها حركة محدودة بإطار وطني أو قومي معين ضمن بعد جغرافي يحتوي ذلك الوطن أو يعبر عن تلك القومية ، فالإنتاج السلعي وفائض القيمة وتراكم رأس المال لدى البورجوازية الصاعدة منذ القرن الخامس عشر التي استطاعت تحطيم إمارات وممالك النظام الإقطاعي القديم في أوروبا، وتوحيدها في أطر قومية حديثة في فرنسا وبريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة وغيرها ، لم تكن هذه الدول القومية الحديثة والمعاصرة سوى محطة لتمركز الإنتاج الصناعي ورأس المال على قاعدة المنافسة وحرية السوق، للانطلاق نحو التوسع العالمي اللا محدود، انسجاماً مع شعار الكوسموبوليتية Cosmopolitanism أو المواطنة العالمية الذي رفعته منذ نهاية القرن التاسع عشر ، وهي نظرية تدعو الى " نبذ المشاعر الوطنية والثقافة القومية والتراث القومي باسم وحدة الجنس البشري ، ومن الواضح أن هذا الشعار الأيديولوجي صاغته الرأسمالية في مواجهة شعار الأممية البروليتارية " Proletarian Internationalism" وجوهره " يا عمال العالم اتحدوا " ، لكن الأزمات التي تعرض لها الاقتصاد الأوروبي / الأمريكي في العقدين الثاني والثالث من القرن العشرين من جهة ، وبروز دور الاتحاد السوفيتي وما رافقه من انقسام العالم عبر ثنائية قطبية ، فرضت أسساً جديدة للصراع لم يشهده العالم من قبل من جهة أخرى ، وبتأثير هذه العوامل لم يكن أمام دول المعسكر الغربي سوى إعادة النظر – جزئياً – في آليات المنافسة الرأسمالية وحرية السوق والتوسع اللا محدود، كما عبر عنها آدم سميث الأب الأول لليبرالية ، حيث توصلت للخروج من أزمتها عام 1929 ، الى ضرورة إعطاء الدولة دوراً مركزياً لإعادة ترتيب المجتمع الرأسمالي، يتيح مشاركتها في إدارة الاقتصاد في موازاة الدور المركزي للسوق الحر وحركة رأس المال ، وقد تبلور هذا التوجه في قيام هذه الدول بتطبيق الأسس الاقتصادية التي وضعها المفكر الاقتصادي " جون ماينارد كينز " حول دور الدولة ، دون أي اهتمام جدي للتراجع الملموس حينذاك الذي أصاب شعار الكوسموبوليتية ، ومن أهم هذه الأسس :-
1- تمكين الدولة الرأسمالية من الرد على الكوارث الاقتصادية .
2-إعطاء الدولة دور المستثمر المالي المركزي في الاقتصاد الوطني أو رأسمالية الدولة (القطاع العام ) .
3- حق الدولة في التدخل لتصحيح الخلل في السوق أو في حركة المال .
4- دور الدولة في تفادي التضخم والديون وارتفاع الأسعار .
وقد استمرت دول النظام الرأسمالي وحلفاؤها في الأطراف في تطبيق هذه السياسات الاقتصادية الكينزية طوال الفترة الممتدة منذ ثلاثينات القرن العشرين حتى نهاية العقد الثامن منه، حيث بدأت ملامح انهيار منظومة البلدان الاشتراكية وبروز الأحادية القطبية الأمريكية وأيديولوجية الليبرالية الجديدة .
على أن هذه الأحادية القطبية التي تحكم العالم منذ بدايات العقد الأخير من القرن العشرين ، لم يكن مقدراً لها أن تكون بدون شكلين متناقضين من التراكم ، الأول التراكم السالب في بنية المنظومة الاشتراكية أدى في ذروته الى انهيار الاتحاد السوفيتي ، والثاني التراكم في بنية النظام الرأسمالي -بالرغم من أزمته الداخلية- الذي حقق تحولاً ملموساً في تطور المجتمعات الرأسمالية قياساً بتطور مجتمعات بلدان المعسكر الاشتراكي ، وكان من أهم نتائج هذا التطور النوعي الهائل ، خاصة على صعيد التكنولوجيا والاتصالات ، إعادة النظر في دور الدولة الرأسمالية أو الأسس الاقتصادية الكينزية ، وقد بدأ ذلك في عصر كل من تاتشر عام 1979 على يد مستشارها الاقتصادي " فردريك فون هايك ، ورونالد ريجان عام 1980 ومستشاره الاقتصادي " ميلتون فريدمان " وكلاهما أكد على أهمية العودة الى قوانين السوق وحرية رأس المال
وفق أسس نظرية الليبرالية الجديدة liberalism new التي تقوم على :-
1- " كلما زادت حرية القطاع الخاص كلما زاد النمو والرفاهية للجميع "! .
2- " تحرير رأس المال وإلغاء رقابة الدولة في الحياة الاقتصادية "،وتحرير التجارة
العالمية.
أنها باختصار ، دعوة الى وقف تدخل الدولة المباشر ، وتحرير رأس المال من كل قيد ، انسجاماً مع روح الليبرالية الجديدة التي هي في جوهرها ظاهرة رأسمالية تنتمي – الى " حرية الملكية والسوق والبيع والشراء ، ومنطقها الحتمي يؤدي الى التفاوت الصارخ في الملكية والثروة لا الى المساواة .
في ضوء هذه السياسات ، اندفعت آليات الصندوق والبنك الدوليين ومنظمة التجارة الدولية WTO ، وبحماس بالغ ، في الترويج لهذه الليبرالية ، بل والضغط على كافة دول العالم عموماً والعالم الثالث على وجه الخصوص ، للأخذ بالشروط الجديدة تحت شعار برامج التصحيح والتكيف التي تمثل كما يقول د. رمزي زكي " أول مشروع أممي تقوم به الرأسمالية العالمية في تاريخها ، لإعادة دمج بلدان العالم الثالث في الاقتصاد الرأسمالي من موقع ضعيف ، بما يحقق مزيداً من إضعاف جهاز الدولة ، وحرمانها من الفائض الاقتصادي ، وهما الدعامتان الرئيسيتان اللتان تعتمد عليهما الليبرالية الجديدة " .
ثانياً : بالطبع لم يكن ظهور مفهوم العولمة الاقتصادي معزولاً عن الانهيار الأيديولوجي الذي أصاب العالم بعد تفكك وانهيار الاتحاد السوفيتي ، بل هو مرتبط أشد الارتباط بالمفاهيم الفكرية التي صاغها فلاسفة ومفكرو الغرب الرأسمالي ، بدءاً من " عصر نهاية الأيديولوجيا " الى " صراع الحضارات " ، و " نهاية التاريخ عند الحضارة الغربية " ، وهي مجموعة أفكار بقدر ما تفتقر الى الانسجام العام والتواصل مع البعد الإنساني للفكر الغربي الحديث ، ونعني بذلك فكر النهضة والتنوير بكل مدارسه المثالية والمادية ، فإنها تتقاطع مع الأفكار النازية كما صاغها تريتشكه ونيتشه ، عندما تتحدث عن تفرد الحضارة الغربية – ضمن إطارها الثقافي والجغرافي – بالقوة والعظمة دون أي دور أو ترابط مع حضارات العالم الأخرى ، وعلى أساس أن حضارة الغرب – كما يقول صموئيل هنتنجتون – " لها جوهر واحد ثابت لا يعرف التغيير ، وهوية مطلقة تبقى كما هي عبر القرون " ! وكذلك الأمر عند " فرنسيس فوكوياما " الذي يرى أنه " بسقوط الأنظمة الاشتراكية يكون الصراع التاريخي بين الليبرالية والماركسية قد انتهى بانتصار ساحق لليبرالية الجديدة ، وبهذا النصر تكون البشرية قد بلغت نقطة النهاية لتطورها الأيديولوجي " ! ؟ .
"إن تصور " فوكوياما " للعالم بعد نقطة النهاية هذه – أو "نهاية التاريخ" أو "نهاية الصراع الأيديولوجي" – يستند على أنه لا وجود لتناقضات أساسية في الحياة البشرية لا يمكن حلها في إطار الليبرالية الحديثة ، ومع ذلك فليس من الضروري عند نهاية التاريخ ان تصبح كل المجتمعات مجتمعات ليبرالية ، بل بالعكس يرفض هذا التجانس ويؤكد أن البلدان التي تنتمي فقط الى الحضارة الغربية هي التي يجب أن تؤكد سيطرتها على العالم كله، على قاعدة السادة والعبيد ، لان بلدان العالم الثالث عموما-حسب فوكوياما- ستكون مصدراً يهدد الحضارة الغربية، سواء بشعارات التطرف القومي أو الديني أو بالأوبئة والأمراض والتخلف ، وبالتالي لابد من إخضاع العالم الثالث باعتبارهم " أعداء الغد " ! "، هذه الرؤية الأيدلوجية العنصرية تستهدف بصورة مباشرة توضيح الجوهر الحقيقي للامبريالية في ظل العولمة الرأسمالية السائدة اليوم، اذ ان "الامبريالية هي السيطرة والتحكم والتملك والاستغلال الذي تمارسه الطبقات السائدة في دولة – أمة على أمة أخرى وعلى مواردها وسوقها وسكانها" . وحالياً وعلى نطاق غير مسبوق تتحكم البنوك والشركات متعددة الجنسية والمؤسسات المالية لاوروبا والولايات المتحدة الامريكية في الغالبية العظمى لأهم المنظمات الاقتصادية . وتتمثل الوظيفة الاساسية للدولة الامبريالية في السيطرة بكيفية تسمح بازدهار شركاتها متعددة الجنسيات . وتقدم الدولة الامبريالية مساعدات لجيش صغير من الايديولوجيين (المفكرين) الرأسماليين في بلدان المركز ، إلى جانب العديد من الايدلوجيين والمثقفين الليبراليين الجدد في بلدان العالم الثالث الذين باتت مصالحهم الشخصية بديلا لولائهم الوطني او القومي .
ففي الماضي شارك رجال الدين والسلطات الاستعمارية في الشحن العقائدي للشعوب المغلوبة على امرها . اما حاليا فان وسائل الاتصال الجماهيري ونظام التعليم العالي والمنظمات غير الحكومية التي تمولها الامبراطورية ودعاية الفاتيكان كلها تؤسس النموذج الايديولوجي الذي يصف الخضوع بما هو "تحديث"، والاستعمار الجديد بما هو عولمة والمضاربة المالية بما هي عصر الاعلاميات في ظل النظام الإكراهي الإمبريالي للعولمة، عبر المركز الأمريكي الأوروبي، فالعولمة هنا هي شكل إنتشار السلع والمنتجات والثقافة والإعلام والمعلومات، أما مضمونها مركزي الى أبعد الحدود عبر سيطرة رأس المال الأمريكي الأوروبي على حركة ومسار السلع المادية والثقافة والإعلام..... الخ . ولذلك فإن فكرة أن العولمة تخلق عالماً مترابطاً هي خاطئة بالفعل لأنها خلقت عالماً محكوماً في مساحة 85% منه لرأس المال الأمريكي الأوروبي (كما يوضح الجدول ادناه) الامر الذي يفسر لماذا يواصل اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية نموه ، بينما اقتصاد أسيا وأمريكا اللاتينية وروسيا يشهد توقفات وإفلاسات وأزمات وانهيارات اقتصادية .
"وفي هذا السياق يقول " روبرت شتراوس هوب" أحد المدافعين عن الوجه العنصري البشع للعولمة ، في كتابه " توازن الغد " الصادر عام 1994م ، إن " المهمة الأساسية لأمريكا توحيد الكرة الأرضية تحت قيادتها ، واستمرار هيمنة الثقافة الغربية ، وهذه المهمة لابد من إنجازها بسرعة في مواجهة نمور آسيا وأي قوى أخرى لا تنتمي للحضارة الغربية " ، ويستطرد " ان مهمة الشعب الأمريكي القضاء على الدول القومية ، فالمستقبل خلال الخمسين سنة القادمة سيكون للأمريكيين ، وعلى أمريكا وضع أسس الإمبراطورية الأمريكية بحيث تصبح مرادفة " للإمبراطورية الإنسانية " ! . أما " ألفين توفلر " الباحث السوسيولوجي الأمريكي – يتوصل في كتابه " الموجة الثالثة " الى تعريف مغاير لهذا التحول العالمي المعاصر ، ويرى فيه " ثورة كونية جعلت العلم لأول مرة في تاريخ البشرية قوة أساسية من قوى الإنتاج تضاف الى الأرض ورأس المال والعمل ، وان المشاركة في هذه الموجة أو هذا التحول مشروطة بإنتاج المعلومات والمشاركة فيها عالمياً من أجل تنمية " الذكاء الكوني " ، نحن إذن أمام حالة من " الوعي الكوني " أو العولمة الفكرية في مواجهة الوعي الوطني والوعي القومي في الوطن العربي والعالم الثالث ، تقوم على مبدأ " البقاء للاصلح " أو الأقوى في وطن عالمي بلا حدود !؟" .
ثالثاً : هدفنا مما تقدم كشف طبيعة الموقف الأيديولوجي الشوفيني المدافع عن إمكانية تحقيق مفهوم العولمة، وانتقاله من حالة الفرضية النظرية المجردة إلى حالة الواقع والتطبيق ، خاصة بعد أن توفرت له كل هذه المعطيات المادية والفكرية ، في سياق ثورة العلم والتكنولوجيا وثورة المعلومات والاتصالات التي تعزز وتغطى الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية للعولمة، وتدفع بعمق نحو انتقال هذا المفهوم إلى حقائق مادية نشطة وفاعله على هذا الكوكب ، ضمن إطار وأدوات الحضارة الغربية والبلدان الصناعية الرأسمالية التي تنضوي تحت لوائها ، عبر هيمنة أحادية حتى اللحظة للولايات المتحدة الأمريكية .

القسم الثاني: آثار العولمة على البلدان النامية

في ضوء ما سبق ، فإن النظرة المتأنية الموضوعية لواقع عالمنا في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين ، تؤكد أن معظم شعوب هذا الكوكب ودوله في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية ، ما زالت تعيش اليوم تحت تأثير صدمة انهيار الثنائية القطبية التي أدت الى انهيار كل أشكال التوازنات الدولية التي سادت إبان المرحلة السابقة من ناحية، وما تلاه من انهيار البنية السياسية – الاقتصادية في تلك الدول، بعد ان استولت الشرائح الكومبرادورية والبيروقراطية المدنية والعسكرية على مقدراتها الداخلية من ناحية ثانية، وهي تحولات عززت احادية الهيمنة الامريكية – الاوروبية على هذا الكوكب، بعيدا عن ميثاق الامم المتحدة، أو مرحلة الحرب الباردة التي فرضت على الجميع آنذاك الاحتكام الى نصوص وقواعد ميثاق الأمم المتحدة الذي أقرته شعوب العالم كله على أثر الحرب العالمية الثانية ، والذي نص في ديباجته "إن شعوب العالم قد قررت ضرورة إنقاذ الأجيال المقبلة من ويلات الحروب ، والعمل على إيجاد نظام أمن جماعي يحفظ السلم العالمي، ويؤسس لتنظيم دولي أكثر إحكاما وأكثر عدالة في المستقبل ، وأن ذلك يتحقق عن طريق تحريم استخدام القوة المسلحة في غير المصلحة المشتركة" . لقد شكل مبدأ تحريم استخدام القوة أحد أهم إنجازات القانون الدولي في القرن العشرين ، حسب النص الصريح لميثاق الأمم المتحدة-الفقرة الرابعة من المادة الثانية التي أكدت على "تحريم استخدام القوة، أو التهديد بها ضد السلامة الإقليمية أو الاستقلال السياسي لأية دولة أو على أي وجه آخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة" .
إن التحولات الجديدة في العلاقات الدولية التي جاءت على أثر الفراغ السياسي والعسكري والأيديولوجي الذي تركه انهيار الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة ، أدت الى استكمال مقومات هيمنة النظام الرأسمالي العالمي على مقدرات شعوب العالم، في إطار ظاهرة العولمة الراهنة التي جعلت من كوكبنا كله مجتمعا عالميا ، تسيطر عليه إرادة القوة العسكرية المسخرة لخدمة قوة الاقتصاد ورأس المال ، وهي تحولات تعبر عن عملية الاستقطاب الملازم للتوسع العالمي للرأسمالية الذي رافقها على مدى القرون الخمسة الماضية من تاريخها ، وسيلازمها –كما يقول سمير أمين- في أفق مستقبلها المنظور كله ما دام العالم سيظل مرتكزا على مبادئ الرأسمالية ، إذ أن هذا الاستقطاب يتفاقم من مرحلة الى أخرى ، وهو يشكل اليوم –في ظل العولمة- ذلك البعد المتفجر الأكثر ثقلا في تاريخ تطور الرأسمالية ، بحيث يبدو وكأنه حدها التاريخي الأكثر مأساوية ، خاصة وأن العولمة قد "تعمقت في السنوات الأخيرة عن طريق الاختراقات المتبادلة في اقتصاديات المراكز أساسا ، بصورة همشت المناطق الطرفية التي أصبحت عالما رابعا" .
فمنذ عام 1990 ، شهد العالم متغيرات نوعية متسارعة ، انتقلت البشرية فيها من مرحلة الاستقرار العام المحكوم بقوانين وتوازنات الحرب الباردة ، الى مرحلة جديدة اتسمت بتوسع وانفلات الهيمنة الأمريكية للسيطرة على مقدرات البشرية ، وإخضاع الشعوب الفقيرة منها ، لمزيد من التبعية والحرمان والفقر والتخلف والتهميش، كما جرى في العديد من بلدان اسيا وافريقيا وفي بلدان وطننا العربي عموما والعراق وفلسطين ولبنان خصوصا ، فقد تم إسقاط العديد من القواعد المستقرة في إدارة العلاقات الدولية ، بدءا من هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن والمؤسسات الدولية الأخرى ، وصولا الى تفريغ ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي من مضامينهما الموضوعية الحيادية، يشهد على ذلك عجز "الأمم المتحدة" عن وقف العدوان والتدمير الأمريكي الصهيوني في العراق وفلسطين ولبنان، في مقابل تواطؤ وخضوع الاتحاد الأوروبي وروسيا واليابان للهيمنة والتفرد الأمريكي في رسم وإدارة سياسات ومصالح العولمة الرأسمالية في معظم أرجاء هذا الكوكب، وفي بلداننا العربية والإقليم الشرق أوسطي خصوصاً، في محاولة يائسة لإعادة ترتيب المنطقة الشرق أوسطية وتفكيكها وإخضاعها بصورة غير مسبوقة للسيطرة الأمريكية، عبر دور متجدد تقوم به دولة العدو الإسرائيلي في محاولتها لضرب وتصفية قوى المقاومة في فلسطين ولبنان بصورة بربرية، لم تستطع معها إسقاط رايات المقاومة التي استطاعت إثبات وجودها وصمودها وتوجيه ضرباتها إلى قلب دولة العدو الإسرائيلي، وتهديد منشآته ومدنه لأول مرة في تاريخ الصراع العربي الصهيوني، ما يشير إلى بداية عهد جديد في هذا الصراع عبر متغيرات نوعية في الأوضاع العربية لصالح قوى التغيير الديمقراطي والمقاومة من ناحية، ومتغيرات نوعية بالنسبة لمستقبل الصراع العربي الإسرائيلي الذي تؤكد المعطيات انه صراع وجودي لا تجدي معه مفاوضات أو حلول "سلمية" من ناحية ثانية.
لقد أدى إفراغ ميثاق الأمم المتحدة من مضامينه التي أجمعت عليها دول العالم بعد الحرب العالمية الثانية على أثر هزيمة النازية ، إلى أن أصبحت الأمم المتحدة –اليوم- غير قادرة على ممارسة دورها السابق الذي تراجع بصورة حادة لحساب التواطؤ مع المصالح الأمريكية ورؤيتها السياسية ، يشهد على ذلك مواقف لكوفي عنان الامين العام للامم المتحدة، من معظم القضايا المطروحة في المحافل الدولية، خاصة ما يتعلق بدول العالم الثالث عموما والقضية الفلسطينية والعراق ولبنان خصوصا، وليس لذلك في تقديرنا سوى تفسير واحد ، هو مدى تحكم الولايات المتحدة في إدارة المنظمة الدولية وأمينها العام من جهة ، ومدى خضوع الانظمة الحاكمة – عبر المصالح الطبقية – للسياسات الامريكية في المشهد العالمي الراهن الذي بات يجسد التعبير الأمثل عن تحول مسار العلاقات الدولية بعيدا عن قواعد القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة ، الى قواعد استخدام القوة العسكرية لتطبيق شروط وسياسات النظام الرأسمالي المعولم ، واستفراده في الظروف والمتغيرات الراهنة ، التي حولت –وستحول- أقاليم عديدة في العالم الى مسارح مضطربة مفتوحة على كل الاحتمالات ، أدخلت العلاقات الدولية في حالة من الفوضى المنظمة ، بحيث أصبحت هذه العلاقات محكومة لظاهرة الهيمنة الأمريكية المعولمة، أو لهذا الفراغ أو الانهيار في التوازن الدولي الذي أدى الى بروز معطيات جديدة في هذا الكوكب من أهمها :-
1-تم إسقاط العديد من القواعد المستقرة في إدارة العلاقات الدولية ، حيث دخلت هذه العلاقات تحت الإشراف المباشر وغير المباشر للولايات المتحدة الأمريكية وإدارتها الأحادية .
2-تحولت أقاليم عديدة في هذا الكوكب الى مسارح استراتيجية مضطربة ، بدأت ، أو أنها في انتظار دورها على البرنامج ، وهي مسارح أو أزمات مفتوحة على جميع الاحتمالات وفي جميع القارات كما جرى في يوغسلافيا أو البلقان وألبانيا والشيشان ، وما أصاب هذه البلدان من تفكك وخراب أعادها سنوات طويلة الى الوراء، وكذلك الأمر في إندونيسيا وأزمة بلدان آسيا الاقتصادية والسياسية ، وفي الباكستان والهند وبنغلادش وسيريلانكا .
وفي أفريقيا : الصومال وجيبوتي وموريتانيا والكونغو وغيرها ، وصولا الى بلدان أمريكا اللاتينية وتزايد الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية فيها، بدءاً من المكسيك الى كوبا الى الأرجنتين وكولومبيا والبرازيل . كما تتفاقم هذه الأزمات في منطقتنا العربية ، حيث يتفجر الصراع الوجودي بيننا وبين العدو الصهيوني من جهة ، و تتفجر الأزمات الداخلية في الجزائر و السودان و مصر و اليمن ، إلى جانب الاحتلال الإمبريالي لفلسطين وللعراق الشقيق من جهة أخرى.
3-إضعاف وتهميش دول عدم الانحياز ، و منظمة الدول الأفريقية ، و الجامعة العربية ، و منظمة الدول الإسلامية ، و كافة المنظمات الإقليمية التي نشأت إبان مرحلة الحرب الباردة والتي تكاد اليوم ان تفقد بوصلتها ودورها .
4-يبدو أنه تم إسقاط المنطقة العربية و دورها ككتلة سواء على الصعيد الإقليمي أو الدولي ، و تجريدها من أي دور سوى الخضوع السياسي و استمرار تأمين المواد الخام ، و إقامة القواعد و الأحلاف العسكرية وفق ما حددته التوجهات و المخططات الأمريكية لمنطقتنا العربية ، و نكتفي هنا بالإشارة إلى المجالات الرئيسية لهذه التوجهات طالما بقي الوضع العربي على حاله الراهن :
أ-استمرار عملية التسوية و التطبيع مع إسرائيل و الدول العربية ، وفق الشروط الإسرائيلية –الأمريكية من " واي بلانتيشن" الى "خارطة الطريق" وصولا الى "خطة شارون/أولمرت" الهادفة إلى إنهاء المشروع الوطني الفلسطيني بعد تحطيم ثوابته و أركانه الأساسية و مقوماته التاريخية و الشرعية الدولية .
ب-احتلال العراق الشقيق لضمان السيطرة على ثروته النفطية، وإخضاعه للسياسات الجديدة وتعريضه لمحاولات التفتت الداخلي، علاوة على إخضاع وتكريس تبعية معظم الدول العربية الأخرى للنظام الأمريكي وحليفه الصهيوني المسيطر في بلادنا.
ج-استمرار الهيمنة أو السيطرة المباشرة على الخليج و الجزيرة العربية (السعودية) كمنطقة نفوذ أمريكية بصورة شاملة و كلية .
د-الوقوف في وجه أي إمكانية لأي شكل من التحالفات أو التكتلات العربية الاقتصادية و السياسية إذا حملت في طياتها حداً أدنى من التعارض مع مشروع الهيمنة الأمريكي .
هـ-فرض السياسات الاقتصادية وفق مقتضيات الخصخصة و أيديولوجية الليبرالية الجديدة عبر مركزية دور القطاع الخاص في إطار تحالفه العضوي مع البيروقراطية العليا أو النظام الحاكم المعبر عن الطبقة السائدة في بلادنا، خاصة وأن القطاع الخاص في بلادنا العربية قد تحول- الى حد كبير- الى جهاز كومبرادوري كبير في خدمة النظام السائد ونظام العولمة الإمبريالي في آن واحد، بعد أن ألغى هذا القطاع ( الخاص ) –في معظمه- كل علاقة له بالمشروع التنموي الوطني أو القومي، واصبح همه الوحيد الحصول على الربح ولو على حساب مصالح وتطور مجتمعاتنا العربية واستقلاله الاقتصادي.
و- دعم دولة العدو الإسرائيلي كركيزة إمبريالية صغرى متقدمة في المنطقة تضمن استمرار حماية المصالح الأمريكية المعولمة في بلدان وطننا العربي.
لقد بات واضحاً أن تطبيق مبدأ "القوة الأمريكية" ساهم بصورة مباشرة في تقويض النظام الدولي في عالمنا المعاصر ، خاصة و أن حالة القبول أو التكيف السلبي ، بل و المشاركة أحياناً من البلدان الأوروبية و اليابان و روسيا الاتحادية شجعت على تطبيق ذلك المبدأ ، بعد أن فقدت دول العالم الثالث عموماً –عبر أنظمة الخضوع والتبعية- إرادتها الذاتية و سيادتها ووعيها الوطني ، و كان استسلام معظم هذه الدول أو رضوخها لقواعد و منطق القوة الأمريكية ، مسوغاً و مبرراً "لشرعية" هذه القواعد من جهة ، و الصمت المطبق على ممارساتها العدوانية في كثير من بقاع العالم، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة من جهة أخرى ، كما يجري اليوم في بلادنا عبر تحكُّم العدو الصهيوني في مستقبل قضيتنا الوطنية، ومحاولته المشاركة في السيطرة على مقدرات شعوبنا العربية كلها ، بعد أن أصبح النظام العربي في معظمه مهمشاً وفق شروط الهيمنة الأمريكية المتجددة التي جعلت دور الدولة في بلادنا –كما في بلدان العالم الثالث أيضاً- يقتصر على الجانب الأمني و القمعي لحماية المصالح الرأسمالية الخارجية و الداخلية المتشابكة ، بعد أن نجحت هذه الشروط في تصفية دور الدولة الإنتاجي و الخدماتي الذي كان مخصصاً في المرحلة السابقة لتغطية بعض احتياجات الجماهير الشعبية فيها . و بتراجع دور الدولة الوطني و الاجتماعي ترعرعت المصالح الشخصية البيروقراطية و الكومبرادورية و الطفيلية ، باسم الخصخصة و الانفتاح ، مما أدى إلى تفكك الروابط الوطنية و القومية و الإقليمية ، إلى جانب عوامل التفكك و شبه الانهيار المجتمعي الداخلي المعبر عنه بإعادة إنتاج و تجديد مظاهر التخلف بكل مظاهره الطائفية و الاثنية و العائلية و الدينية …الخ ، التي ترافقت مع تعمق الفجوات الاجتماعية ومظاهر الفقر المدقع بصورة غير مسبوقة فيها .
و في ظل هذه الأوضاع المتدهورة الناتجة عن أزمة التطور الاجتماعي وأزمة القيادة في بلدان العالم الثالث عموماً التي أدت بها إلى مزيد من الإلحاق و التبعية في علاقتها بالشروط الرأسمالية الجديدة ، كان لا بد لاستراتيجية رأس المال المعولم ، انسجاماً مع نزوعه الدائم نحو التوسع والامتداد ، أن تسعى الى إخضاع الجميع لمقتضيات مشروع الهيمنة الأمريكي المعولم ، وهي استراتيجية تستهدف هدفين اثنين متكاملين هما "تعميق العولمة الاقتصادية ، أي سيادة السوق عالميا ، وتدمير قدرة الدول والقوميات والشعوب على المقاومة السياسية" ، هذا هو جوهر الإمبريالية في طورها المعولم في القرن الحادي والعشرين ، وبالتالي فإننا نرى أن الوضع الراهن ليس نظاما دوليا جديدا ، وإنما هو امتداد لجوهر العملية الرأسمالية القائم على التوسع والامتداد بدواعي القوة والاكراه ، وهو أيضا استمرار للصراع في ظروف دولية لم يعد لتوازن القوى فيها أي دور أو مكانة ، ولذلك كان من الطبيعي أن تقوم الولايات المتحدة الأمريكية ، باعتبارها القوة الوحيدة المهيمنة في هذه الحقبة ، بملء الفراغ الناجم عن انهيار التوازنات الدولية السابقة .
وبنشوء هذا الفراغ السياسي والاقتصادي والأيديولوجي ، أصبحت الطريق ممهدة أمام التوسع الرأسمالي صوب المزيد من السيطرة عبر طوره الإمبريالي المعولم، كشكل أخير من تطور النظام الرأسمالي ، مما دفع به الى الكشف عن مخططاته المبيتة أو الكامنة للوصول بالتوترات والتناقضات الدولية الى أقصاها ، عبر المواجهة المباشرة ، مستخدما كافة أساليب الضغط والإكراه ، بالقوة العسكرية أو بالإخضاع والمزيد من التبعية والإلحاق لضمان استمرار سيطرته على كافة الموارد المادية الأساسية ، من احتياطات النفط والماء الى الأسواق والمنتجات الصناعية والزراعية، ووضع الحدود والضوابط الإكراهية لحركتها ، بما يضمن مصالح الشرائح العليا البيروقراطية والطفيلية والكومبرادورية في أنظمة البلدان الفقيرة التابعة من جهة ، وبما يؤدي الى إعاقة نمو هذه البلدان وتدمير اقتصادها وانتشار المزيد من أشكال التخلف والفقر والجهل، وتعمق الأزمات السياسية والطائفية والدينية فيها من جهة أخرى ، ففي ضوء وضوح هذه المخططات خلال العقود الثلاثة الماضية تتكشف الطبيعة المتوحشة للرأسمالية المعولمة اليوم على حقيقتها عبر ممارساتها البشعة ضد شعوب العالم الفقيرة ، وضد القيم الإنسانية الكبرى في العدالة الاجتماعية والمساواة ، كما في الثقافة والفكر والحضارة ، وذلك بالاستناد الى المؤسسات الدولية التي تكرست لخدمة النظام الرأسمالي في طوره الإمبريالي الراهن ، وهي :-
1- صندوق النقد الدولي الذي يشرف على إدارة النظام النقدي العالمي ويقوم بوضع سياساته وقواعده الأساسية ، وذلك بالتنسيق الكامل مع البنك الدولي ، سواء في تطبيق برامج الخصخصة والتكيف الهيكلي أو في إدارة القروض والفوائد والإشراف على فتح أسواق البلدان النامية أمام حركة بضائع ورؤوس أموال بلدان المراكز الصناعية .
2- منظمة التجارة العالمية WTO التي تقوم الآن بالإشراف على إدارة النظام التجاري العالمي الهادف الى تحرير التجارة الدولية وإزالة العوائق الجمركية ، وتأمين حرية السوق وتنقل البضائع في مدى زمني لا يتجاوز نهاية عام 2006.
3- الشركات المتعددة الجنسية التي باتت تملك أصولاً رأسمالية تزيد عن ( 36 ) ترليون دولار وهو ما يقارب إجمالي الناتج المحلي لجميع دول العالم في كوكبنا، وفي هذا الجانب نشير الى أن السلطة الاقتصادية لهذه الشركات العالمية تتركز بصورة كبيرة في مؤسسات أمريكية وأوروبية كما تؤكد المعلومات المستقاه من جريدة فاينانشال تايمز في يناير 1999 إنه من ضمن 500 من أكبر الشركات 244 منها من أمريكا الشمالية و 173 أوروبية و46 يابانية. أي بعبارة أخرى 83% من أهم المنشآت التي تتحكم في التجارة والإنتاج العالمي هي أمريكية شمالية وأوروبية.ويغدو تركز السلطة مذهلاً إذا تأملنا الـ25 شركة الأكبر في العالم ( تلك التي يفوق رأسمالها 86 ألف مليون دولار ) : أكثر من 70 % منها أمريكية شمالية و26% أوروبية و4% يابانية . ما يعني انه اذا كانت الشركات المتعددة الجنسية تتحكم في الاقتصاد العالمي فإن الولايات المتحدة الأمريكية هي القوة المسيطرة راهنا . ما يؤكد على أن مقولة او فكرة أن العولمة تخلق عالماً مترابطاً خاطئة إلى ابعد الحدود .

المصدر: إعداد / الأستاذ رواب جمال
ahmedkordy

خدمات البحث العلمي 01009848570

  • Currently 160/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
54 تصويتات / 5709 مشاهدة
نشرت فى 26 نوفمبر 2010 بواسطة ahmedkordy

أحمد السيد كردي

ahmedkordy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

30,882,819

أحمد السيد كردي

موقع أحمد السيد كردي يرحب بزواره الكرام free counters