لقد زخر التشريع الاسلامي بفيض من القراعد والمبادىء العامة في مختلف أمور الدين والدنيا، فكان ينبوعا متفجرا ومنارة للعالمين. ولقد أشاد علماء القانون المحدثون بمآثر التشريع الإسلامي وما جاء به من نظريات قانونية مبنية علي المنطق السليم ومحققة للعدالة الاجتماعية. تعد بحق مرجعا خالدا على مر العصور ومفخرة لتراث الانسانية... ولا غرو في ذلك فمصدر التشريع الاسيلامي (الحق) سبحانه وتعالى ورسوله الكريم وما اجتهد به علماء المسلمين.
المسئولية القانونية عن أعمال التطبيب والجراحة :
إذا كان موضوع المسئولية القانونية عن أعمال التطبيب والجراحة قد حظى باهتمام رجال الفقه والقانون في العصر الحديث، وثار حوله جدل كبير وصولا الي الأساس القانوني لحق الطبيب في ممارسة مهنته، وطبيعة هذا الحق، وحدود مسئوليته، فإنه حري بنا أن نسجل هنا- احقاقا للحق- ان الشريعة الاسلامة قد سبقت التشريعات الوضعية الحديثة في ارساء قواعد المسئولية الطبية بما يكفل حماية الطبيب ويحفظ حقوق المريض ويشجع على تطوير المنهج العلمي للمهنة الطبية كما سيأتي فيما بعد.
ولقد رأيت من المفيد أن ابدأ بعرض تاربخي موجز للمسئولية الطبية قبل ظهور الاسلام.
قد يخفي على البعض أن الطب من أقدم العلوم التي عرفها الانسان وقد نشأ في عصور ما قبل التاريخ ممتزجا بالخرافات والسحر، وكان الاعتقاد السائد آنذاك أن الشيطان يكمن في جسم الانسان ويسبب له المرض، فإذا مات فان ذلك يعني أن الشيطان قد تغلب، ولا مجال حينئذ للبحث في مسئولية الطبيب، مع الأخذ قي الاعتبار ان مزاولة الطب كانث قاصرة على الكاهن الذي يجمع أيضا بين السلطات الدينية والقضائية والقانونية.
وقد تقدم الطب عند قدماء المصريين، وقد تم جمع كل ما يتعلق بأعراض الامراض وعلاجها في كتاب عرف بالسفر المقدس، وكان على الطبيب ان يتبع في علاج المرضى ما هو مدون فقط في السفر المقدس، فاذا خالفه ووصف دواء غير منصوص عليه في هذا الكتاب وتوفي المريض، دفع الطبيب رأسه ثمناً لذلك.
وفي عهد البابليين وضعت قوانين صارمه لمزاولة مهنة الطب وتشددوا في محاسبة الأطباء على أخطائهم مما أدى إلى العزوف عن ممارسة هذه المهنة، وقد تضمن قانون حمورابي القواعد المشددة لمحاسبة الأطباء حيث نصت المادة 128منه على ما يلي: "اذا عالج الطبيب رجلا حراً من جرح خطير بمشرط من البرونز وتسبب بذلك في موت الرجل، أو اذا فتح خراجا في عينه وتسبب بذلك في فقد عينه، تقطع يداه ".
وقد لعب السحر والشعوذة دوراً كبيراً في ممارسة الطب في عصر الأغريق إلى أن جاء ابقراط الذي سمي (أبا الطب) لدوره الكبير في تخليص الطب من الخرافالت، ومحاولة النهوض به. وكان يحتم على تلاميذه أن يؤدوا قسمه المشهور، والواضح ان هذا القسم لم يكن يرتب التزامات قانونية على الطبيب بقدر ما يهتم بالالتزام الأدبي، وكانت عدم المساءلة الجزائية للاطباء في ذلك العصر محل نقد الكتاب، وفي ذلك يقول أفلاطون ان الاطباء يأخذون أجرهم سواء شفوا المرضى أو قتلوهم، وهم والمحامون يستطيعون ان يقتلوا عملاءهم دون أن يتعرضوا لأي مسئولية! وعلى الرغم من ذلك فقد أمر الاسكندر الاكبر بصلب الطبيب جلوكيس في الاسكندرية لإهماله في علاج مريض مما تسبب في وفاته.
وفى عهد الرومان لم تكن هناك نصوص خاصة بالمهنة الطبية مما دعا إلى تطبيق القانون العام على الأطباء، وكانوا يعتبرون الجهل وعدم المهارة خطأ موجباً للتعويض، وكان الطبيب يعتبر مسئولا عن التعويض اذا لم يبد دراية كافية في اجراء عملية أو أعطاء دواء ترتب عليه موت المريض، وكان العقاب يختلف بحسب المركز الاجتماعي للطبيب، فإذا كان من طبقة وضيعة أعدم، أما اذا كان من طبقة راقية نفي في جزيرة !
وفي العصور الوسطى في اوروبا التي سميت بحق العصور المظلمة حيث أصيب الطب بنكسة شديدة، وسادت الخرافات وكثر السحرة والادعياء وضاعت كتب ابقراط، وجالينوس وحلت محلها التمائم والتعاويذ. ولقد عرفت المسئولية الطبية في هذا العصر، ولكن بما يتناسب مع العقلية السائدة ففي الشعوب المتبربرة كان اذا مات المريض بسبب عدم عناية الطبيب أوجهله يسلم الطبيب إلى اسرة المريض ويترك لها الخيار بين قتله أو اتخاذه رقيقا.
وكانت محاكم بيت المقدس تحكم في عهد الصليبيين في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين بأن الطبيب مسئول عن جميع أخطائه، فاذا تسبب بجهله في وفاة رقيق، وجب عليه ان يدفع ثمنه لسيدة ويترك المدينة، وان كان المجنى عليه رجلا ًحراً وكانت المسألة تتعلق بجرح بسيط أو سوء العناية بما لم يترتب عليه موت المريض قطعت يد الطبيب، ويشنق الطبيب إذا مات المريض!!
... هكذا كان الحال قبل الإسلام.. فقد سادت الخرافات والسحر والشعوذة وحتى في العصور التي شهدت محاولات جدية للخلاص من الخرافات والشعوذة لم تكن هناك قواعد واضحة مبنية على المنطق أو العدل لمساءلة الاطباء عن اخطائهم المهنية....
وكانت دعوة الاسلام الحنيف ايذانا ببداية عصر جديد لمجتمع حديث تحكمه قوانين انزلت من عند الله الحق سبحانه وتعالى وبدأ الرسول الكريم عليه الصلاة والسلإم دعوته بالغاء الكهنة والكهنوت والقضاء على السحر والشعوذة والخرافات واقامة العدل واحقاق الحق حيث قال عليه الصلاة والسلام " من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه، فكأنما كذب بما أتى به محمد" وأرسى محمد عليه السلام بوحي من عند الله تبارك وتعالى قواعد الدين الاسلامي الحنيف على أسس من العدالة والمنطق فشملت كل أمور ديننا ودنيانا وأمرنا الله تعالى ورسوله الكريم بأن ندرس ونجتهد في البحث والتقصي وان نحكم بالعدل بين الناس.
وبنفس القدر الذي تطورت به اساليب التطبيب والوقاية في الاسلام بصورة بهرت علماء الغرب وكانت محل تمجيدهم حتى وقتنا هذا، أرسيت قواعد المسئولية عن اعمال، التطبيب والجرأحة وفق الشريعة الاسلامية الغراء وبمقتضى المنطق والعدل.
التطبيب في الشريعة الإسلامية واجب:
ومن المتفق عليه بين علماء الشريعة، ان دراسة الطب فرض من فروض الكفاية، فهي واجب على كل فرد لا تسقط عنه إلا اذا قام بها غيره وذلك باعتبار التطبيب ضرورة اجتماعية تحتاج اليه الجماعة.
ومن هذا المنطلق فقد اعتبرت الشريعة الاسلامية مزاولة مهنة الطب واجباً، على حين اعتبرتها القوانين الوضعية الحديثة وبعض الشراح حقا، مثلها مثل سائر المهن الأخرى، ولا شك ان نظرية الشريعة الاسلامية أفضل وقد سبقت بها أحدث التشريعات الوضعية لانها تلزم الطبيب بأن يضع مواهبه في خدمة الجماعة، كما انها اكثر انسجاما مع حياتنا الاجتماعية القائمة على التعاون والتكاتف وتسخيركل القوى لخدمة الجماعة.
شروط انتفاء المسئولية عن الطبيب في الشريعة الاسلامية:
القاعدة الشرعية في المسئولية الطبية تنص على أن كل من يزاول عملا أو علما لا يعرفه يكون مسئولا عن الضرر الذي يصيب الغير نتيجة هذه المزاولة، وفي مجال مسئولية، الطبيب الجاهل حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم" من تطبب ولم يكن بالطب معروفاً، فأصاب نفسا فمـا دونها، فهم ضامن "
وقد أجمع الفقهاء على وجوب منع الطبيب الجاهل- الذي يخدع الناس بمظهره ويضرهم بجهله- من العمل، ومن القواعد المقررة في الحجر أن ثلائة يحجر عليهم أي يمنعون عن العمل: المفتي الماجن، والطبيب الجاهل، والمكاري المفلس، وفي ذلك يقول الامام أحمد: "إذا قام بأعمال التطبيب شخص غير حاذق في فنه، فان عمله يعتبر عملا محرما".
وقد رتب علماء الشريعة الاسلامية على ذلك ان الطبيب الجاهل اذا أوهم المريض بعلمه فأذن له بعلاجه لما ظنه من معرفته، فمات المريض أو اصابه ضرر من جراء هذا العلاج، فان الطبيب يلزم بدية النفس أو بتعويض الضرر على حسب الأحوال، ولكنهم ينفون عنه القصاص استنادا إلى أن الطبيب الجاهل اذا كان قد عالج المريض فقد عالجه باذنه، وفي ذلك يقول الخطابي: " لا أعلم خلافا في ان المعالج اذا تعدى فتلف المريض كان ضامنا ".
أما الطبيب الحاذق فلا يسأل عن الضرر الذي يصيب المريض، ولو مات المريض من جراء العلاج، ما دام المريض قد اذن له بعلاجه، ولم يقع من الطبيب خطأ في هذا العلاج، بل كان الضرر او الموت الحاصل نتيجة امر لم يكن في حسبان الطبيب (وهو ما يسميه الفقهاء المحدثون " أمرلا يمكن توقعه او تفاديه " ).
ومن القواعد المقررة في الشريعة الاسلامية ان عمل الطبيب عند الاذن بالعلاج أو عند طلبه يعد واجبا، والواجب لا يتقيد بشرط السلامة، ولو ان واجب الطبيب متروك لاختياره وحده ولاجتهاده العلمي والعملي، فهو أشبه بصاحب الحق لما له من السلطان الواسع والحرية في اختيار العلاج وكيفيته.
وعلى ذلك اجماع الفقهاء ولكنهم يختلفون في تعليل انتفاء المسئولية عن الطبيب. فرأى ابو حنيفة ان العلة ترجع الى الضرورة الاجتماعية واذن المجنى عليه أو وليه. ورأى الشافعي وأحمد بن حنبل ان العلة ترجع إلى اذن المجنى عليه، وان الطبيب يقصد صلاح المفعول ولا يقصد الاضرار به .
ورأى مالك أن العلة هي اذن الحاكم أولاً وإذن المريض ثانياً، وباجتماع هذين الشرطين لا مسئولية على الطبيب إذا خالف أصول الفن أو أخطأ في فعله.
وبذلك تتحدد شروط انتفاء مسئولية الطبيب عند علماء الثريعة الاسلامية فما يلي:
ا- اذن الشارع.
2- رضاء المريض.
3- قصدالشفاء.
4- عدم وقوع الخطأ من الطبيب.
ومما يلفت الانتباه صا ان الفقهاء المحدثين في الةا نون قد توصلوا بعد طول الجدل والبحث الى نفس هذه الشروط التي قررها علماء الشريعة الإسلامية، كما أن غالبية اتى ريعات الوضعية الحديثة قد تضمنت هذه الشروط لانتفاء المسئولية عن الاطباء.
الخطأ الذي يسأل عنه الطبيب في الشريعة الاسلامية:
ذكرنا ان علماء الشريعة الاسلامية يشترطون لانتفاء مسؤولية الطبيب عدم وقوع الخطأ منه في علائج مريضه.. وقد يتساءل البعض عن ماهية الحظأ الذي يستوجب المسألة هنا.. وردا على هذا التساؤل نقول أن علماء الشريعة الاسلامية يقصدون بخطأ الطبيب، الخطأ الفاحش الذي لا تقره أصول الطبابة ولا يقره أهل العلم والفن من ذوي الاختصاص، وترتيبا على ذلك فان الطبيب في الشريعة الاسلامية لم يكن يسأل عن الخطأ اليسير الذي يمكن ان يقع فيه اي طبيب، ولكنه يسأل عن الخطأ الذي لا يجوز ان يقع فيه طبيب وذلك اما نتيجة الجهل أو عن خطأ فاحش لا تقره أصول فن الطب ولا أهل المعرفة فيه، كأن أراد قلع سن فقلع غيرها خطأ أو أن تمتد يده إلى غير موضع العلاج فتنال الجسم أو عضوا منه بتلف أو يعطي المريض دواء غير مناسب للداء فيضره ؟..
وهذا الاتجاه الذي انتهجه علماء الشريعة الاسلامية منذ عدة قرون هو نفس الاتجاه الذي انتهى اليه غالبية الشراح المحدثين في القانون في هذا العصر....
والخلاصة ان الطبيب الحاذق في الشريعة الاسلامية الذي يكون بمنأى عن المسألة هو الذي يعطي الصناعة حقها ويبذل غاية جهده، فلا يقصر في البحث او الاجتهاد كأن يهمل في فحص المريض أو يتسرع في وصف دواء لمريض فيترتب على ذلك ضرره أو وفاته. وقد نص فقهاء الشريعة على وجوب الضمان على الطبيب الذي يحصل منه مثل هذا التهاون بما يندرج تحت مضمون الخطأ الفاحش، لان فيه تعديا على الأرواح بالاتلاف، وقد أجمعوا على أن التقصير من التعدي، وعلى وجوب الضمان عند ذلك ان لم يجب القصاص. وهم يفرقون بين الخطأ والتقصير، فالأول لا عدوان فيه والئاني فيه عدوان، وعندهم أن ترتيب مغارم مالية على الطبيب الذي يقع منه مجرد الخطأ بغير تقصير من شأنه ان يؤدي الى احجام الاطباء عن الاقدام على العلاج، وفي ذلك الاحجام اضرار بالمرضى. ئم انه لا يصح أن يغرم مالا من تحدوه الرغبة في انقاذ الناس، فضلا عن أن عمل الطبيب- كما ذكرنا- قيام بواجب شرعي، ومن يقع منه خطأ في اثناء قيامه بمثل هذا الواجب فانه لا يسأل عنه الا اذا كان قد وقع منه بالتقصير....
ومرة أخرى نجد أن هذا الاتجاه الذي انتهجه علماء الشريعة الاسلامية- مذ عدة قرون- في تحديد الخطأ الفاحش الذي يسأل عنه الطبيب وفي التفرقة بين الخطأ اليسير والتقصير الذي يصدر عن الطبيب... هو نفس الاتجاه الذي انتهى اليه غالبية شراح القانون المحدثين في هذا العصر...
الشريعة الاسلامية واباحة الاتجهاد في صناعة الطب:
لقد أقر علماء الشريعة الاسلامية للطبيب الحرية التامة في العمل والتجريب واستنباط الاساليب المناسبة للعلاج، وكانت التجارب تدون في كتب خاصة ليقرأها جمهور الاطباء وكان لبعض الاطباء انواع خاصة من العلاج من مبتكرات قرائحهم..
ويأتي فتح باب الاجتهاد أمام الأطباء استجابة لدعوة الدين الاسلامي الحنيف للمسلمين كافة للبحث والمعرفة في مختلف المجالات، وقد حث الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام على الأجتهاد والتجربة وصولا للحقيقة والصواب حيث قال " من أجتهد فأخطأ فله أجر، ومن اجتهد فأصاب فله اجران ".
والشريعة الاسلامية تبيح للأطباء الاجتهاد في علاج الأمراض، فلا يسأل الطبيب- ولو خالف آراء زملاله- متى كان رأيه يقوم على أساس سليم. ومما يروى للدلالة على ذلك قصة صبية سقطت من السطح، فانفتح رأسها. فقال كثير من الجراحين ان شققتم رأسها تموت، وقال واحد منهم ان لم تشقوه اليوم انا أشقه وأبرئها، وشقه، ثم ماتت الصبية بعد يوم او يومين، ولما سئل في ذلك احد الفقهاء المشهورين أفتى بأنه ما دام الشق بإذن، وما دام الشق معتادا، ولم يكن فاحشا خارج الرسم، اي لم يكن هناك خروج فاحش على القواعد الفنية المرسومة في هذا الشق، فإن الطبيب لا يضمن، أي لا يسأل مدنيا ولا جنائيا، فقيل للفقيه "حتى اذا قال الطبيب ان ماتت فأنا ضامن؟ " قال " لا يضمن لأن ضمان الطبيب يترتب على خطئه الفاحش، لا على تعهده بنجاح العملية ".
وتبين لنا هذه القصة كيف كان علماء الشريعة الاسلامية يشجعون اجراء التجارب العلمية واتباع المنهج العلمي دون النظرالى النتائج وصولا للاكتشافات العلمية التي تحقق مصلحة الجماعة مع مراعاة العدل واحقاق الحق.
المصدر: منتدى كلية الحقوق
نشرت فى 22 أغسطس 2010
بواسطة ahmedkordy
أحمد السيد كردي
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
30,761,624