إن تكرار السلوك الخلقي الفاضل بعد القناعة به: يرسِّخه، ويمكِّنه في النفس، إلا أن إهماله في بعض الأحيان -ولو كان بصورة يسيرة- يضعف رسوخه، ويقلل من أثره في السلوك، كما أن التخلي عن العادات والأخلاق المذمومة لا بد أن يكون دفعة واحدة، فلا يسمح الإنسان لنفسه بالعودة إليها ولو لمرة واحدة، فالأخلاق الفاضلة -جبلِّية أو مكتسبة- لا بد لها من التأديب والتهذيب، فيجعل "الإنسان لنفسه عقاباً وثواباً يسوسها بهما، فإن أتت نفسه بالأفعال الفاضلة، وتركت الرذائل: أثابها بإكثار مدحها، وتمكينها من بعض لذاتها، أما إذا أتت بالأفعال السيئة العواقب: فليكثر من ذمها ولومها، ومنعها لذاتها حتى تلين له".
إن مجاهدة النفس من أعظم ميادين الجهاد شدة وصعوبة، كما قال مالك بن دينار ~ٍٍِِ: "جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم"، خاصة في مرحلة الشباب حيث تضعف القدرات عن ضبط السلوك لغلبة الشهوات، وتصبح الذات محطَّ ومحور التفكير، ويشعر الشباب في أنفسهم بقدرات وملكات أكبر من واقعهم الحقيقي، فينطلقون بها ليتخلصوا من قيد الطفولة وأسرها، فيجربون بأنفسهم ويختبرون ما تعلموه في سنواتهم السابقة، فيحصل لهم في انطلاقتهم هذه من الأخطاء، والممارسات المخالفة للآداب والأخلاق التي تلقَّوها في مرحلة الطفولة: ما يستدعي ضرورة تهذيب هذه السلوكيات والممارسات من خلال تأديب النفس بوسيلتين، إحداهما: القناعة التامة بصعوبة سياسة النفس وتهذيبها حتى يستعد المكلف لذلك بالمجاهدة؛ فإن طريق الفضائل محفوفة بالمكاره - كما جاء في الخبر- والتخلص من العادات القبيحة والمذمومة ليس باليسير، فإن "العادة طبع ثان للإنسان، ومكافحتها تحتاج إلى شيء من الثبات والاستدامة"، والمجاهدة في ضبط الميول والرغبات، فإن النجاة لا تحصل "إلا بترك الشهوات، وفطام النفس عنها" وفي الحديث قال عليه الصلاة والسلام: ((ليس الشديد من غلب الناس، ولكن الشديد من غلب نفسه ))، يعني ملك زمامها، وسيطر عليها.
وأما الوسيلة الثانية فمن خلال التَّوبة المستمرة، التي تُعد رافداً عظيماً لضبط النفس وتهذيبها لما يُستقبل من الأعمال، مع عدم الإصرار على أخطاء، وقد قيل في الحكمة: "شاب بلا توبة كشجرة بلا ثمر"، والضمير الأخلاقي يكتمل بناؤه لدى الشباب قبل الغرائز الأخرى، وذلك ليكون معيناً لهم على ضبط غرائزهم،وإحكام رغباتهم، وقد دلَّ البحث الميداني على أن غالب الشباب يشعرون عند تقصيرهم في جنب الله تعالى بالندم، ولاسيما الإناث، فإن شعورهن بالندم والأسى أكثر من الذكور، والندم -في حد ذاته- يُعد توبة في التصور الإسلامي؛ لما يُحدثه في النفس من أثر وحشة المعصية، فيسوق إلى التأدب وضبط السلوك، ومعاتبة النفس بالقدر الذي يدفعها نحو الإيجابية السلوكية، ولا يؤدي إلى انكماشها، والشعور بالنقص وعدم الثقة، فإن هذا الإحساس السلبي يبدِّد أثر التوبة الإيجابي، ويحوله إلى إحساس مَرَضي يبدد طاقة المرء النفسية في غير طائل، ويشل حركته عن العمل الإيجابي المستقبلي، فإن "الحزن مفسدة العقل، مقطعة الحيلة"، والله تعالى يقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [الزمر:53]، فلا بد من الاعتدال في هذه المشاعر النفسية.