الإسلام في أصوله وقواعده نظام واقعي يريد تحقيق مصالح العباد، فعلى الرغم من أنه يخطط لتكوين المجتمع الصالح الفاضل، الذي فيه ينضبط كل إنسان انضباطًا ذاتيًّا، فيعرف حدود حقوقه وواجباته، ويحاول طوعًا أن يقوم بها ويدافع عنها، طالبًا في كل ذلك رضا الله سبحانه وتعالى، يضع من أجل ضبط سلوك الأفراد والجماعة والوقوف الحاسم أمام الانحراف فيه نظامًا قضائيًّا يقوم بدور مهم في ردع الانحراف، والقضاء على الجريمة، والفصل في الخصومات والمنازعات التي تظهر بين الأفراد والمؤسسات الاجتماعية[1].

ومنا هنا أجمع المجتهدون في الإسلام على أن القضاء من فروض الكفايات، وهو من الوظائف الداخلة تحت الخلافة الشرعية التي يجب أن يقوم بها جمع من الناس للفصل بين الناس في خصوماتهم، وتنفيذ أحكام الإسلام من أجل إحقاق الحق، وإبطال الباطل، ونصرة المظلوم، وقمع الظالم، وأداء الحقوق إلى مستحقيها، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والضرب على أيدي العابثين؛ كي يسود النظام في المجتمع، فيأمن كل فرد على نفسه وماله وعرضه وحريته، فيزيد الإنتاج فتنهض البلدان، ويتحقق العمران، ويتفرغ الناس لما يصلحهم دينًا ودنيا[2].

ومن أجل تحقيق قضاء عادل نظيف في المجتمع الإسلامي شرع الإسلام المسائل الآتية:الأول: استقلال القضاء استقلالاً كاملاً في حدود ضوابط الشريعة الإسلامية، وتطبيق أحكامها حتى لا يؤثر في مجرى تحقيق العدل فرد، أو مؤسسة، أو سلطة، وعلى الدولة الإسلامية أن تثبت هذا في دستورها وقوانينها، وتعلن ذلك إعلانًا صريحًا واضحًا، وتضع نظام عقوبات لكل من يتدخل في مجرى العدالة ورد المظالم[3].وتاريخ الإسلام بدءًا من النبي - صلى الله عليه وسلم - ومرورًا بعهد الخلفاء الراشدين، والعهود الإسلامية المتتابعة شاهد على ذلك الاستقلال الذي حقق العدل والقسطاس المستقيم والإحسان [4].

الثاني: ووضع الفقهاء بناءً على ما ثبت في الكتاب والسنة، وهدي الخلفاء الراشدين شروطًا جامعة للذي يتولى القضاء، فالقاضي لا بد أن يكون بالغًا عاقلاً حرًّا معروفًا بالرشد والرأي السديد.قال الماوردي: (لا يكتفى بالعقل الذي يتعلق به التكليف من علمه بالمدركات الضرورية، حتى يكون صحيح التمييز، جيد الفطنة، بعيدًا عن الهوى والغفلة، يتوصل بذكائه إلى إيضاح ما أشكل، وفصل ما أعضل)[5].

ولا بد أن يكون مسلمًا مجتهدًا، أو عالمًا بشريعة الإسلام، عدلاً لم يرتكب ما يخل بمروءته[6].وتتحقق العدالة كما يقول الماوردي: (بكون الشخص صادق اللهجة، ظاهر الأمانة، عفيفًا عن المحارم، متوقيًا المآثم، بعيدًا عن الريب، مأمونًا في الرضا والغضب، صاحب مروءة)[7].

واشترط الجمهور سلامة السمع والبصر واللسان، فلا يجوز تولية الأصم، لأنه لا يسمع كلام الخصمين، ولا يجوز تولية الأعمى لأنه لا يعرف المدعي من المدعى عليه، ولا المقر من المقر له، ولا الشاهد من المشهود له أو عليه، ولا يجوز تولية الأخرس لأنه لا يمكنه النطق بالحكم، ولا يفهم جميع الناس إشارته، واستدل الجمهور على ذلك بأن هذه العاهات تمنع من قبول الشهادة، فتمنع من القضاء من باب أولى، لأن الشهادة ولاية خاصة والقضاء ولاية عامة[8].

ومن مرونة الفقه الإسلامي أن الحنفية ذهبوا إلى أنه يجوز ويصح أن يكون القاضي بين غير المسلمين منهم، إذا لم يكن أدنى منهم حالاً فيقضي الذمي في الذميين والمستأمنين، ويقضي المستأمن في المستأمنين دون الذميين، لأنَّ أهليَّة القضاء تتبع أهلية الشهادة، والذمي أهل للشهادة على مثله، فيكون أهلاً للقضاء على مثله، ويؤيد ذلك تولية عمرو بن العاص قضاة من الأقباط ليفصلوا بين أهل ديانتهم، وإقرار عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - هذه التولية حين بلغته[9].
ومن صور تلك المرونة أنَّ الحنفيَّة أيضًا أجازوا قضاء المرأة في غير الحدود والقصاص قياسًا على الشهادة، لأنه لا شهادة لها في الجنايات؛ ولكن لها الشهادة في غيرها وأهلية القضاء تدور مع أهلية الشهادة[10].

وأجاز الطبري أن تكون المرأة قاضية في القضاء جميعًا دون استثناء قياسًا على الإفتاء، وهو لا يشترط فيه الذكورة [11]، وبِهذا قال ابن حزم[12].الثالث: سلطة القاضي واسعة في الشريعة الإسلامية، حتى إنها تمتد إلى الخليفة أو السلطان أو رئيس الدولة الإسلامية، فيملك القاضي ولاية النظر في دعاواه سواء أكان مدعيًا أو مدعى عليه، بالرغم من أنه هو الذي عيَّنه[13].

قال الماوردي: (فإذا أراد الإمام محاكمة خصمه جاز أن يحاكمه إلى قضاته؛ لأنهم ولاة في حقوق المسلمين وإن صدرت عنه ولايتهم)[14].ويؤيد ذلك السوابق التاريخية، فإن عليًّا - رضي الله عنه - هو الذي قلد شريحًا القضاء، ومع ذلك فقد مثل أمامه في واقعة معروفة، وإن يهوديًّا رفع دعواه على الخليفة العباسي هارون الرشيد أمام القاضي أبي يوسف صاحب أبي حنيفة - رضي الله عنهما - فسمع أبو يوسف خصومة اليهودي عليه مع أن هارون الرشيد هو الذي عين أبا يوسف في وظيفة القضاء[15].

الرابع: ويتميز الإسلام عن النظم الوضعيَّة[16] في أنه يولي عقيدة القاضي عناية خاصة، لأن العقيدة تجعل القاضي عبدًا لله لا عبدًا لغيره؛ ولذلك فإنه لا يتبع هواه، ويتبع العدل والحق والرحمة.الخامس: من حق القاضي أن يكون مستقلاًّ في إصدار الأحكام، ولا يجوز له غير ذلك؛ لأنه ينفذ شريعة الله سبحانه وتعالى في عباده.ولا يجوز لولي الأمر أن يتدخل في حكم القاضي، وهو آثم إن فعل ذلك؛ لأنه ليس من حقه مخالفة شرع الله سبحانه وتعالى؛ بل يجب عليه أن يعين في إحقاق الحق والحكم بين الناس بالعدل.

إلا أن ولي الأمر يستطيع أن يراقب الأحكام التي يصدرها القضاة ليتأكد من عدم مخالفة ذلك لشريعة الإسلام، وهذا أمر منطقي لأن القاضي هو وكيل عن ولي الأمر في القضاء، فله أن يتأكد من تنفيذ الأحكام الإسلامية على وجهها الصحيح، بمراقبة أعمال القضاة وإرشادهم وإصدار التعليمات الضرورية لضبط أعمال القضاء وتسهيلها وتوجيهها بما يؤدي إلى تحقيق العدل والقسطاس المستقيم[17] .

السادس: من راجع كتب القضاء الإسلامي، اطلع على النظام القضائي الدقيق الذي استنبطه فقهاء الإسلام من الكتاب والسنة، وأعمال الخلفاء الراشدين والصحابة، مما يتصل بشرائط الدعوى وأصول إقامتها، وكيفية رفعها إلى القاضي، وأصول استماعها، ووسائل إثباتها، وكيفية جريان المرافعات فيها، وما يتصل بالحكم: طبيعته، وإصداره، ونقضه، وإبرامه، وتنفيذه، فإنه يجد من ذلك العجب العجاب، فلقد استطاع الفقه الإسلامي منطلقًا من أصول الإسلام وقواعده والممارسة اليومية المحتكة بالحياة أن يقدم للبشرية أعظم نظام قضائي في تاريخها؛ من أجل تحقيق العدل والتسوية في الخصومة بين الناس، الأمر الذي حقق توازنًا عظيمًا في المجتمع، وطمأن الناس عبر العصور على مصالحهم وكرامتهم.

إن القرائن والأدلة النظرية والعملية في هذا النظام تثبت إثباتًا قاطعًا أنه كان من أعظم دوافع التنمية في العالم الإسلامي.والدارس لأوضاعه والمذهبية الشاملة التي كان يتحرك من خلالها، يصل إلى أنه اليوم لا يضيق بالجديد لمرونة قواعده ومقاصد أحكامه، ومرامي خطواته، لإيجاد المجتمع المؤمن الفاضل العادل.ونحن هنا نورد بعض الرسائل والتوجيهات التي كان يوجهها الخلفاء والأمراء المسلمون إلى قضاتهم في فترات متلاحقة من التاريخ؛ ليتبين لنا صدق ما قررناه في هذا الموجز.من رسالة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى أبي موسى الأشعري، وهي تعد دستور القضاء، لأنه قد عرض فيها أصول القضاء وقواعده ونظمه، مع سبقه أصول المرافعات القضائية الحديثة بالمبادئ القانونية العامة، وأحكام قوانين المرافعات الوضعية.

(أما بعد: فإنَّ القضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة، فافهم إذا أُدْلِيَ إليك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، آسِ بين الناس في مجلسك وفي وجهك وقضائك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك، البينة على المدعي واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالاً، ومن ادعى حقًّا غائبًا أو بينة فاضرب له أمدًا ينتهي إليه، فإن بينه أعطيته بحقه، وإن أعجزه ذلك استحللت عليه القضية، فإن ذلك هو أبلغ في العذر وأجلى للعماء، ولا يَمنعنَّك قضاءٌ قَضَيْتَهُ فيه اليوم فراجعت فيه رأيك فهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم لا يبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل، والمسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجرَّبًا عليه شهادة زور أو مجلودًا في حد أو ظنينًا في ولاء أو قرابة، فإن الله تعالى تولى من العباد السرائر، وستر عليهم الحدود إلا بالبينات والأَيْمَان، ثم الفهم الفَهم فيما أدلي إليك مما ورد عليك، مما ليس في قرآن ولا سنة، ثم قايس الأمور عند ذلك، واعرف الأمثال، ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق، وإياك والقلق والضجر والتأذي بالناس، والتنكر عند الخصومة[18]، فإنَّ القضاء في مواطن الحق مما يوجب الله به الأجر، ويحسن به الذكر، فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين بما ليس في نفسه شانَهُ الله، فإن الله تعالى لا يقبل من العباد إلا ما كان خالصًا، فما ظنُّك بثوابِ غَيْرِ الله في عاجل رِزْقِه وخزائن رحمته، والسلام عليك ورحمة الله)[19].

قال ابن القيم عقب نقله هذه الرسالة: (وهذا كتاب جليل تلقَّاه العلماء بالقبول، وبنوا عليه أصول الحكم والشهادة، والحاكم والمُفْتِي أحوجُ شَيْءٍ إليه، وإلى تأمُّله، والتفقُّه فيه).وكذلك رسالة علي - رضي الله عنه - إلى الأشتر النخعي، ننقل في أدناه بعضًا مما ورد فيها:(ثم اختر للحكم بين الناس أفضلَ رعيتك في نفسك، مِمَّنْ لا تضيق به الأمور، ولا تمحكه الخصومة، ولا يتمادى في الذلة، ولا يحصر في الفيء إلى الحق إذا عرفه، ولا تستشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، وأدقهم في الشبهات وآخذهم بالحجج، وأقلهم تبرمًا بمراجعة الخصوم، وأصبرهم على كشف الأمور، وأصرمهم عند اتضاح الحكم ممن لا يزدهيه إطراء، ولا يستميله إغراء، وأولئك قليل، ثم أكثر تعهد قضائه، وأفسح له في البذل ما يزيل علته، وتقل معه حاجتُه إلى الناس، وأعطِه في المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصَّتِك فيأمن بذلك اغتيال الرجال عندك)[20]


[1]  "نظام القضاء في الشريعة الإسلامية" د. عبد الكريم زيدان: ص14 - 22. [2]  "نظام القضاء في الإسلام - القسم الأول" للمستشار جمال صادق المرصفاوي: ص 9. [3]  زيدان: ص 22. [4]  "قضاء المظالم في الإسلام" د. شوكت عليان: ص 25 - 43. [5]  "الأحكام السلطانية" ص 65. [6]  "بدائع الصنائع" للكاساني: 9/ 4079، مطبعة الإمام - القاهرة. [7]  "الأحكام السلطانية" ص 66. [8]  المرصفاوي: ص 14. [9]  المرصفاوي: ص 12 نقلاً عن "حاشية ابن عابدين" : 4/ 329، و"مجمع الأنهر": 2/ 201. [10]  "البدائع" للكساني: 9/ 4079. [11]  "نظام القضاء في الإسلام" ص25. [12]  "المحلى": 9/ 429، 430. [13]  زيدان: ص 49.[14]  "أدب القاضي" 1/ 417. [15]  زيدان: ص 50، نقلاً عن "الفتاوى الهندية" 3/ 319. [16]  المرصفاوي: ص 44.  [17]  المرصفاوي: 53 وما بعدها. [18]  أو الخصوم، شك أبو عبيد. [19]  "إعلام الموقعين" لابن القيم : 1/ 92، وقد شرح هذه الرسالة المهمة شرحًا مطولاً، تتبع أصول وفروع ما ورد فيها. [20]  "نظام القضاء في الإسلام" للمرصفاوي: ص 135.

المصدر: د. محسن عبدالحميد المصدر: كتاب "الإسلام والتنمية الاجتماعية"
ahmedkordy

خدمات البحث العلمي 01009848570

  • Currently 90/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
30 تصويتات / 1693 مشاهدة

أحمد السيد كردي

ahmedkordy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

30,879,486

أحمد السيد كردي

موقع أحمد السيد كردي يرحب بزواره الكرام free counters