يرتكز النشاط الاقتصادي في النظام الإسلامي على مبادئ إنسانية، وأسس أخلاقية، وضوابط شرعية، تغرس في نفوس أتباعه الحرص على مزاولته وإتقانه في الإطار الذي يُسْهِم في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ويكفل تصحيح المخالفات لجميع أنواع التصرفات الضرورية والجماعية، جامعًا لكلٍّ من الجانبين المادي والروحي في وقت واحد، باعتبار أن الاهتمام بجانبٍ دون الآخر يؤدي إلى خلل واضطراب في حياة الفرد والمجتمع.
وتحقيقًا لهذه الغاية الفريدة؛ فقد وضع الإسلام للنشاط الاقتصادي آدابًا وقِيَمًا تهدف إلى ربطه بالأخلاق الحميدة، مما يحقق له الفاعلية الإيجابية والحركة الصحيحة.
أولاً: تعمير الأرض واجب إسلامي:
خلق الله الإنسان لعبادته؛ {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وجعله خليفة في الأرض؛ {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]؛ لأنه القادر على عمارة الأرض؛ {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61]؛ أي: أنشأكم من الأرض وطلب عمارتكم إياها، كلٌّ على قدر استطاعته؛ قيامًا بواجب الخلافة طبقًا لشروط المستخلف، وهو ما يمثل العبادة له - سبحانه وتعالى - من هذه الزاوية، فكان ما يدخل في إطار تعمير الأرض وتنمية الحياة فوقها، وجعلها أيسر سبيلاً وأقوم طريقًا - هو عبادة.
ولقد قرن الله بين العمل والجهاد، بل قدم الأول في الذكر على الثاني؛ فقال - تعالى -: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المزمل: 20]، ومن أجل ذلك حثَّ الإسلام الناس جميعًا على العمل والتكسُّب المشروع، وأعطى العاملين أجر المجاهدين في سبيل الله؛ ((الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله))، أحسبه قال: ((وكالقائم لا يفتر، والصائم لا يفطر))؛ متفق عليه.
وهكذا يمكن القول بأن الإنسان في الإسلام خُلِق ليعمل ويعمِّر الدنيا، ولن يستطيع الاعتذار أو التعلل بأنه منقطع للعبادة؛ لأن جميع الرسل عملوا بأيديهم؛ كما صرح بذلك رسولنا - صلى الله عليه وسلم -: ((ما بعث الله من نبيٍّ إلا ورعى الغنم))، فقال أصحابه: وأنت، فقال: ((نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة))؛ رواه البخاري.
فعلى المسلم أن يعمل طالما أنه على قيد الحياة؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أقيمت الساعة وفى يدي أحدكم فسيلة - أي: نخلة صغيرة - فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها))؛ رواه أحمد وغيره والحديث صحيح.
ثانيًا: دعائم التنمية الاقتصادية:
إن عملية التنمية الاقتصادية لا يمكن إن تتمَّ إلا إذا توافر لها الإنسان الصالح القوى الذي ينهض بها، والمجتمع الخيِّر الذي يحتضنها، والمال الذي تُبْنَى به المصانع وتُشَيَّد به الصروح، وأداة الإنتاج المتطوِّرة التي تنتج الجيد والغزير بتكاليف منخفضة، والتخطيط السليم، والأسواق التي تُصْرَف فيها المنتجات، وهذه الدعائم قد ركَّزت عليها الجمعية الشرعية عن طريق بعض المشروعات الصغيرة؛ مثل: مشروع تشغيل أمهات الأيتام، حيث أنشأت الجمعية وحدات إنتاجية بفروعها بالمحافظات، ويباع فيها المنتج بسعر التكلفة دون أيِّ هامش للربح.
وهذا المشروع وغيره من مشاريع الجمعية - كمشروع المعزة الدوارة - يحتاج منَّا أن ننمِّيه عن طريق الدعائم التي ذكرناها؛ لأننا لا نستطيع بناء اقتصاد قوى إلا بأيدي أبنائنا المخلصين، وهذا ما أصَّله شرعنا؛ {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2].
ثالثًا: دور القِيَم الإيمانية في التنمية الاقتصادية:
لا بُدَّ من تلازم القِيَم الإيمانية مع التنمية الاقتصادية؛ لأن التنمية الاقتصادية ليست مطلوبة لذاتها، بل هي وسيلة لتحقيق الرخاء والسعادة وإقامة الدنيا والدين، وإذا كان الاقتصاد الإسلامي يدعونا إلى العمل والاستثمار وتعمير الأرض والضرب فيها، فإن هناك ضوابط دينية أخلاقية تحكمه تتمثل في قول الله - تعالى -: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77]، ويمكن استخراج هذه الضوابط من هذه الآية وهى:
1- أن الملك كله لله أساسًا، وخزائن الرزق بيده.
2- يجب على الإنسان أن يبتغى وجه الله في كل أعماله، ويتفرع من هذا الضابط أمور: الصدق والأمانة، والوفاء وحسن المعاملة، والإخاء (أخوة المؤمنين، والأخوة بين الإنسان وأخيه الإنسان)، وإتقان العمل.
3- يجب على الإنسان ألا يهمل حقه في الاستمتاع الحلال دون إسراف أو تبذير.
4- يجب على الإنسان أن يحسن إلى المحتاجين كما أحسن الله إليه.
5- أن يتجنب الإنسان توجيه ثرواته وأمواله وأعماله نحو الإفساد في الأرض أو إيذاء الآخرين.
فسبحان الذي جمع القِيَم الإيمانية للتنمية الاقتصادية في آية واحدة!
ولقد دعت الجمعية الشرعية في كتابها "النداء" إلى هذه القِيَم الإيمانية؛ حيث وجهت عِدَّة نداءات إلى التاجر والعامل والصانع ورجل الأعمال والمستهلك؛ كي يتمسكوا بهذه القِيَم من أجل التنمية الاقتصادية.
رابعًا: من معوِّقات التنمية الاقتصادية:
هناك معوِّقات للتنمية الاقتصادية نذكر منها:
1- الربا بجميع أنواعه، وما يترتب عليه من أضرار خطيرة على الفرد والمجتمع:
لم يكن الإسلام في منعه للربا حربًا على الأغنياء أو ضد الثراء؛ بل كان التزام الحق والعدل في استنماء المال، وتوظيفه في دفع عجلة التنمية الاقتصادية وتحقيق ازدهار المجتمع ورخائه، ومن هنا كان تحريم الربا ضابطًا رئيسًا للاستثمار الرشيد في الاقتصاد الإسلامي، وذلك أن الربا يؤدي إلى تمييز رأس المال على سائر عناصر الإنتاج؛ بأن يكون مستحقًّا لعائد دون مقابل من إنتاج أو عمل أو تعرض لمخاطرة.
وبعبارة أخرى: فإن المعاملات الربوية تؤدي إلى استخدام النقود في غير وظيفتها الأساسية، فتكون سلعة تُباع وتُشترَى، يُباح تأجيرها بثمن معين يسمى الفائدة، مما يمنحها القدرة على إنتاج نقود من غير إسهام فعلي في العملية الإنتاجية بالعمل، أو التعرض للمخاطرة، أو الإنتاج الفعلي.
وبناءً على ذلك؛ فإن الربا يؤدي إلى تعطيل استخدام النقود الأساس كوسيط للتبادل، فتركّز الثروة في أيدي طبقة محدودة من المجتمع، فتصبح هي المتحكِّمة في رأس ماله، وذلك يترتب عليه قلة الإنتاج من جرَّاء توقُّف الاستثمار الحقيقي الذي يتطلَّب بذل الجهد وممارسة العمل من الجميع، والاشتراك في تحمُّل المخاطرة، فالمرابون بما يحصلون عليه من كسب محرَّم بدون جهد وعناء ومخاطرة يصرفهم ذلك عن تحمُّل مشقة الكسب والتجارة والصناعات الشاقة، وذلك يفضي إلى انقطاع منافع الخلق، ومن المعلوم أن مصالح العالم لا تنتظم بالتجارات والحِرَف والصناعات والعمارات فقط.
ولقد تفاقم أمر الربا في هذا الجانب فتعدَّاه من نطاق الدولة الداخلي إلى المستوى الدولي بشكلٍ ألحق الضرر بالدول الفقيرة، وجعلها مكبَّلة بالديون الخارجية وفوائدها الربوية المتراكمة، بعد أن عجزت مواردها المحلية عن الوفاء بالتزامات ديونها الخارجية التي أخفقت في تنميتها الاقتصادية، جعلتها في موقف ضعيف إزاء طغيان الدول الدائنة التي جعلت من هذه الديون عوامل ضغط وإكراه لربط اقتصاد الدول المدينة بالتبعية لها؛ وذلك مما أدَّى إلى انتقال الموارد من فقراء العالم إلى أغنيائه، وتفشِّي ظاهرة التضخُّم في كثير من الدول، واختلال توزيع الدخل والثروة بين البشر.
2- الغش والخداع:
الغش هو إظهار الشيء على غير ما هو عليه في الواقع، وذلك بكتمان العيب وإخفائه، فالغش خيانة وخداع، وهو حرام بإجماع المسلمين، وفاعله مذموم عقلاً وشرعًا، ويعتبر الغش بأنواعه وصوره كافة آفةً اجتماعية واقتصادية خطيرة، ويتعدَّى ضرره مصلحة المستهلكين، فتمتد آثاره لتشمل المنتجين والمزارعين والصناعيين، وقد تطول صحة الإنسان والنظام الاقتصادي بشكل عام.
ومن صور الغش التي شاع ظهورها، وتتنافى مع مكارم الأخلاق: الغشُّ في النشاط الاقتصادي، ككتمان العيب وعدم إظهاره، ويدخل في الغش نقصان الكيل والميزان، وقد حذَّر الإسلام من ذلك وأمر بالوفاء بالكيل والميزان بالعدل؛ فقال - تعالى -: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [الأنعام: 152].
كما توعَّد الله - سبحانه وتعالى - بالويل لكل مَن يطفِّف أو ينقص في المكيال والميزان إذا باع، ويزيد إذا اشترى؛ فقال - تعالى -: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلاَ يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 1- 6].
3- صناعة وبيع الأشياء المحرمة:
اتجهت الاقتصاديات الوضعية - على قصر عنايتها - على الجانب المادِّي وحده، فأصبح الهدف الوحيد للنشاط الاقتصادي المعاصر، دون مراعاة أو التفات للجوانب الأخرى كالقيم والمبادئ الأخلاقية، فقد شاع التعامل بالأشياء المحرمة في مجال الأطعمة والأشربة والصناعات، وذلك ما يمنعه الإسلام وتأباه شريعته التي لا تسمح أبدًا بأية صورة من صور الكسب الخبيث؛ يقول - تعالى -: {قُلْ لاَ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 100].
4- التبذير والإسراف:
التبذير والإسراف من العادات القبيحة التي فشَت بين الناس، وهم لا يرضون بأن يمدُّوا أرجلهم على قدر لحافهم، ولكنهم يريدون أن يصلوا من لحاف غيرهم بلحاف أنفسهم حتى يمدُّوا أرجلهم أقصى ما يستطيعونه، فيقعون في الإسراف والتبذير الذي يهدم اقتصاد الأسرة والمجتمع، وقد حذَّر الإسلام من الإسراف والتبذير تحذيرًا شديدًا؛ {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء: 27].
5- الاعتماد على الغير في الإنتاج:
ويظهر ذلك في كثرة الاستيراد وقلة التصدير، ولقد فضل الإسلام الإنفاق الإنتاجي على الاستهلاكي؛ حرصًا منه على تنمية الثروة الإنتاجية، ويجب على الأمة الإسلامية أن تضع خطة على أساس علمي وإحصائي؛ لزيادة ثروة الأمة وتنمية إنتاجها كمًّا ونوعًا، والاستفادة من التكامل الاقتصادي بين البلدان الإسلامية؛ للعمل على تحقيق الاكتفاء الذاتي فيما بينها، واتخاذ الوسائل الفعالة مادية ومعنوية؛ لدفع عجلة التنمية، وتنظيف المجتمع من كل الآفات النفسية والأخلاقية والثقافية والاجتماعية، التي تعطل طاقات الأمة، وتحطم منجزاتها، وتعوق مسيرتها نحو التقدم.
إننا لا بُدَّ أن نصوغ حياتنا إسلاميًّا؛ لتحقيق استقلال ذاتي حقيقي لأمتنا يردُّها إلى حضارتها الأصيلة المتوازنة، ويعيد إليها شخصيتها المستقلة المتميزة، ويجعلها رأسًا في الحياة، لا ذيلاً لشرق أو غرب، ولنرقى بالمجتمع من التخلُّف إلى التقدم، ومن الاعتماد على الغير إلى الاكتفاء بالذات، ومن استيراد مصنوعات الحضارة إلى تصديرها، ومن شراء السلاح إلى صناعته، ومن الاستهلاك إلى الإنتاج.
المصدر: د. خالد راتب .
نشرت فى 21 يوليو 2010
بواسطة ahmedkordy
أحمد السيد كردي
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
30,777,577