الإصلاح خلق إنساني واجتماعي سام ورفيع، دعت إليه كل الديانات السماوية ونادى به الأنبياء والرسل وتحملوا في سبيله العنت الكبير وإذا كان الإنسان ميالا بطبعه وجبلته إلى الاجتماع بغيره من بني جنسه والتعاون معهم والاستئناس بهم فإنّ نوازع الشر قد تتغلب عند البعض وتدفعهم للإساءة إلى غيرهم مما يولد جوا من الجفاء والقطيعة بين أبناء المجتمع الواحد ويسمم تلك العلاقات الحسنة بينهم، ولعلّ هذا الجو المشحون بالحقد والتباغض هو الذي يحز في أنفس الغيورين من أبناء الأمة فيسارعون لرأب الصدع وبذل النصح والأمر بالمعروف وإصلاح ذات البين وجمع الناس على كلمة سواء صيانة للمجتمع من التصدع والانقسام وحماية له من الانهيار والزوال.

1-معنى الإصلاح:

صلح الشخص:فضُل وعف، صلح الشيء:أزال فساده.

صالح يُصالح مصالحة: سالمه وصافاه، صالح القوم: سلك معهم مسلك المسالمة في الاتفاق.

الصلح بمعنى السلم، وأصلح الشيء بعد فساده،والصلاح ضد الفساد

والصلح شرعا: عقد يُنهي الخصومة بين المتخاصمين.

والإصلاح بين الناس يتناول:

الإصلاح بين طائفتين أو حزبين أو قبيلتين أو أسرتين، الإصلاح بين الزوجين، الإصلاح بين متخاصمين.

ويراعى في المصلح1:

1- أن يعدل بين متخاصمين.

2- أن يكون الإخلاص باعثه على الإصلاح.

3- أن تكون له مكانة عند المتنازعين.

4- الانضمام إلى المظلوم إذا أبى الظالم الصلح.

وقد ورد ذكر الصلح والإصلاح والصلاح أكثر من مائة وثمانين مرة في القرآن الكريم وفي ذلك دلالة كافية على الأهمية التي يكتسيها الصلح والتصالح والمصالحة بين الناس في شريعتنا الغراء، إذ لا تستقيم حياتهم إلا في كنف التفاهم والتعاون والتآلف والوئام بينهم.

2-ركائز الإصلاح والمصالحة بين الناس: يقوم الإصلاح بين الناس على خمسة أصول:

2-1-  العدل والمساواة:

العدل أساس الملك والظلم مؤذن بخراب العمران فالوجود برمته قائم على أساس العدل والإنصاف الذي هو ميزان الموازين مصداقا لقوله تعالى: (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ) الرحمن: ٧، وبالتالي فالعدل المجرد عن الهوى والأثرة يعد من أهم أصول الإصلاح في المجتمع. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المقسطين عند الله تعالى يوم القيامة على منابر من نور على يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين: الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا) رواه مسلم.

2-2-  الشعور المتبادل بالأخوّة الإنسانية:وهذا الشعور إنما ينبع من قوة الإيمان وسلامة القلب والعقل، وعراقة الأصل وصفاء الروح مع العلم الغزير بأصول العقيدة وقواعد الشريعة ومكارم الأخلاق2 والله عز وجل يحيي هذا الشعور بكلماته المعجزة، ويبعث فيه الروح كلما خبا أثره أو خفت نوره حيث يقول تعالى:(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ )الحجرات: ١٠، وعلى الإنسان الذي يبغي الإصلاح بين الناس أن يتحلى بالصبر وتحمل الأذى بين أبناء الرحم والوطن لطلب الحق ودعوة الإصلاح ومقاومة الفساد، "ولذلك فليكن الصبر وسلمية المأخذ في شؤون الأمة وإدارة شأنها السياسي هو أصل من أصول فكر الأمة ومبدأ من مبادئ نظامها الاجتماعي ولب في منهج تربية الأجيال المسلمة الراشدة"3

-كظم الغيظ والعفو والصفح الجميل: لأنّ ذلك من شأنه أن يخفف من حدة الخصومة ويهيئ النفوس للتراضي والتصافي وجلب العواطف الإنسانية من كوامنها، واستدعاء نوازع الخير في نفوس المؤمنين وقد حضنا ديننا الحنيف على ذلك حيث قال تعالى: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) الشورى: ٤٠، وكظم الغيظ خلق رفيع يدل على قوة الإيمان وعمق التقوى والخلو من الغل والكراهية، "وهو صفة لا يتحلى بها إلا من استوت سريرته وعلانيته وسلم قلبه من نوازع الشر ووساوس الشيطان ونزعات الهوى"4. وقد وعد الله عز وجل ووعده الحق الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس بأعظم الجوائز وحثهم بالمسارعة إليها، مصداقا لقوله تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ(133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) آل عمران: ١٣٣ – ١٣٤، فالمؤمن مطالب بالسعي الدؤوب للمساهمة في حل المشكلات وتذليل الصعوبات والاهتمام بأمر المسلمين والمبادرة في أعمال الخير والإصلاح وتضييق هوة الخلاف بين المتنازعين وتوفير المناخ الملائم  للتصافي النفسي والتآلف الاجتماعي.

2-3-  التقوى:فالمؤمن التقي النقي يسارع لفعل الخير يتوب إذا أخطأ ويؤوب إلى الله طالبا الصفح والمغفرة ولا يتمادى في العناد لعلمه أنّ العزة كل العزة في طاعة الله والتزام أوامره واجتناب زواجره ونواهيه مصداقا لقوله تعالى: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي) البقرة: ١٩٧

2-4-  الإقتداء بالسلف الصالح: في القيام بواجب الإصلاح بين المتخاصمين وعلى رأسهم إمام الأنبياء وخاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، ذلك أنّ المصلحين رجال صدقوا وأخلصوا لله فكانوا كتابا مفتوحا على آفاق الخير، تنفتح لهم القلوب وتنشرح النفوس فيبثون الخير فيها ليكون بلسما وترياقا يشفي دخائل النفوس من كل آثار الأمراض الاجتماعية ويزيل عنها البغضاء والشحناء. فهم _المصلحين_ مفاتيح للخير مغاليق للشر كالغيث حيث ما وقع نفع، ولله در الشاعر حين قال:

تحيا بكم كل أرض تنزلون بها            كأنكم في بقاع الأرض أمــطار

وتشتهي العين منكم منظرا حسنا        كأنكم في عيون النــاس أزهـار

ونوركم يهتدي الساري برؤيته            كأنكم في ظلام الليل أقـــمار

لا أوحش الله ربعا من زيارتكم           يا من لهم في الحشا والقلب تذكار

وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو قدوة المسلمين ومثلهم الأعلى يؤكد على ضرورة التصالح والتضامن بين الناس ويحذر من عواقب التنازع ومغبة الفرقة بين المسلمين، لأنّها من العوامل التي تضعف قوتهم وتفرق جهودهم فهاهو عليه الصلاة والسلام يخط الطريق للمسلمين للسير على نهجه حيث تضمنت أول صحيفة وضعها في المدينة المنورة بعد الهجرة إليها والتي تعد دستورا لأول دولة إسلامية في التاريخ دعوة  للمصالحة بين المسلمين وبين المسلمين وغيرهم من الأديان والأجناس من جهة أخرى، كما أنّه تنازل في صلح الحديبية على كثير من حقوق المسلمين حقنا للدماء وتحقيقا لمصلحة الدين حتى قيل فتح مكة تم يوم الحديبية وصدق الله العظيم إذ يقول: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ) الأحزاب: ٢١

3-آثار المصالحة بين الناس:

أولا: إزالة دواعي الحقد الاجتماعي بين الناس وإشاعة العفو والصفح بينهم وتنمية روح الإخاء والتعاون من أجل تحقيق الصالح العام، بذلك تتفرغ النفوس بالمصالح بدل جدها وانهماكها في الكيد للخصوم وهكذا تحل الألفة مكان الفرقة ويستأصل داء النزاع قبل استفحاله كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى) رواه مسلم.

فإذا دفع الكريم الحليم السيئة والعدوان عن نفسه بالعفو والصفح والغفران تطهرت النفوس من كوامن الحقد وانقلب العدو صديقا مخلصا مصداقا لقوله تعالى: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) فصلت: ٣٤

ومن هنا فإن التعامل مع الناس بالتي هي أحسن يشعر الجميع بالارتياح فلا حقد ولا كراهية مما يساعد على خلق ثقة متبادلة بين أبناء المجتمع.

ثانيا: حقن الدماء التي قد تراق بين المتنازعين، وصيانة أعراضهم، وحفظ أموالهم من التبديد، لأنّ شريعتنا تنهانا عن سفك الدماء أو صرف الأموال خارج أوجهها المشروعة كما ورد في الحديث النبوي الشريف: ( كل المسلم على المسلم حرام ماله ودمه وعرضه).

ثالثا: ترسيخ ثقافة السلام والأمن والبناء والاستقرار، ونبذ ثقافة التمزق والهدم وعدم الاستقرار، وبناءا عليه "من المهم للأمة وقياداتها الفكرية والسياسية التي تدرك هذه الصورة وأن تعرف العوامل المؤثرة على حركة المجتمع الإيجابي منها والسلبي بالعمل على تمكين العوامل الإيجابية للتفاعل لدفع حركة المجتمع إلى آفاق أعلى وأوسع من البناء والاستقرار، وسد الطريق أمام العوامل السلبية التي تتفاعل لدفع عملية حركة المجتمع نحو الانحطاط والهدم وعدم الاستقرار".5

رابعا: نمو الحس الاجتماعي لدى أبناء المجتمع من خلال شعورهم بمواجع الآخرين والمساهمة الفعالة من أجل تخفيفها أو إزالتها فالضمير الجماعي الحي والمتيقظ يدفع صاحبه للمساهمة في التضامن مع الآخرين والتخلص من الأنانية، وبذل الجهد في الإصلاح بين الأشقاء وخلق جو من الصفاء النفسي والتراضي والقبول الاجتماعي فيما بينهم فالمؤمن الصادق لا يحس بالطمأنينة إلا برؤية أبناء مجتمعه يتفاعلون على هيئة جسد واحد متآلف ومتكامل، ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم.

خامسا: المصالحة والإصلاح سبيل النهوض وطريق الوراثة الحضارية:

لقد وعد الله تعالى عباده الصالحين المصلحين بتقليدهم وسام الاستخلاف الحضاري فالوراثة الحضارية "إنما تتحقق بالصلاح وإرادة الإصلاح، ذلك أن البقاء للأصلح، وليس البقاء للأقوى كما هو الحال في فلسفة الحضارة الغربية"6، )قال تعالى: ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) الأنبياء: ١٠٥.

فالصالحون المصلحون الذين يقربون بين النفوس المتشاكسة والقلوب المتنافرة ويسعون في سبل الخير وإصلاح ذات البين، هؤلاء هم أنصار الحق وحراس الفضيلة وبناة المجتمع السليم من الأمراض الاجتماعية الخالي من عوامل الفرقة والتشتت، هذا الصنيع يستحقون من خلاله وسام الاستخلاف الحضاري، لأنّ العاقبة الحسنة تكون للصالحين المتقين، ولا ننسى أيضا المتصالحين الذين حطموا في أنفسهم أصنام الأثرة والأنانية وانصاعوا طائعين لدعوة الله ورسوله لهم بإيثار الصلح ونبذ الخلاف.

عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة"، قالوا: بلى، قال: (إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين) رواه أبو داود والترمذي وقال حديث صحيح.

وعليه فالأمة التي يسودها التفاهم والود ويسري تيار العلاقات الاجتماعية بين أفرادا بشكل متوازن، الأمة التي لا تجد الشحناء إليها سبيلا، الأمة المتراصة كالبنيان الذي يشد بعضه بعضا، الأمة التي تقدم مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد، الأمة التي تعالج أدواءها وتضمد جراحها بجمع جهود أبنائها مصداقا لقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) الرعد: ١١، هاته الأمة هي الجديرة بتسلم مشعل الريادة الحضارية دون منازع.

الخاتمة:

الإصلاح بين المسلمين واجب شرعي وضرورة اجتماعية ومطلب حضاري، ولذلك حثّ عليه الله تعالى في محكم تنزيله، وجنح إليه الرسول صلى الله عليه وسلم وودعا أتباعه إلى التصالح وبلورة ثقافة المصالحة بين المسلمين، فهذه الثقافة من شأنها أن تدعم البناء الاجتماعي وتحفظ تماسكه وتقيه مخاطر التصدع والانهيار، وتجعل الجبهة الداخلية للمجتمع الإسلامي متينة وصلبة لا تزعزعها العواصف، ولذلك حذرنا الله تعالى من مغبة النزاع والفرقة لأنّها تضعف قوة المسلمين وتنال من عزيمتهم، فالخصومات مشغلة للقلب مدعاة للهم، محرقة للدم، مضيعة للوقت في غير مجد ولا مفيد.

ومن ثمة فإن السعي بالصلح بين الناس يعد من أفضل العبادات وأحسن القربات التي يتقرب بها الإنسان المسلم إلى الله عز وجل، لذلك خصّ الله المصلحين بجميل الثناء ووعدهم كريم الجزاء، وأي جزاء أحب وأغلى من جنة الرضوان.

وما من شك في أنّ المصالحة والتناصر والتآزر سوف تؤتي أكلها وتحقق ثمارها في حماية المجتمع المسلم من دواعي الفشل في تحقيق ما يصبو إليه ويسعى لتحقيقه، فرسالة المسلم السامية تقتضي حشد كل القوى واستثمار مختلف الجهود لا في خراب الأرض وإفسادها، وإنّما في عمارتها وإصلاحها.

المراجع:

1_محمد عبد العزيز الخولي، إصلاح الوعظ الديني، دار الفكر، القاهرة (د. ت)، ص75.

2_محمد بكر إسماعيل، الإصلاح هداية ومنهج، دار المنار، القاهرة ط1، 2002، ص15.

3_عبد الحميد أحمد أبو سليمان، العنف وإدارة الصراع السياسي في الفكر الإسلامي، دار السلام، القاهرة، ط1، 2002، ص58.

4_ محمد بكر إسماعيل، المرجع السابق، ص16.

5_ عمر عبيد حسنة، الاجتهاد للتجديد سبيل الوراثة الحضارية، المكتب الإسلامي بيروت، ط1، 1998، ص5.

6_ عبد الحميد أحمد أبو سليمان، المرجع السابق، ص80.

المصدر: بلغيث سلطان
ahmedkordy

خدمات البحث العلمي 01009848570

  • Currently 99/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
32 تصويتات / 1475 مشاهدة
نشرت فى 20 يوليو 2010 بواسطة ahmedkordy

أحمد السيد كردي

ahmedkordy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

30,250,629

أحمد السيد كردي

موقع أحمد السيد كردي يرحب بزواره الكرام free counters