إن الدارس والمتفرس لحقائق القرآن الكريم
بما حوى من آيات وتفسيرات، وبخاصة ما تعلق منها بمنهجية تغيير حال الأمم والمجتمعات، التي رست على شاطيء الكفر والجاهلية ردحا من الزمن، إلى أن جُرت بعبارة التوحيد والإيمان إلى بر الأمن والآمان، يعلم يقينا أن هناك جهدا جبارا وعملا ليس بالهين قدمه هذا الكتاب المقدس على طبق من ذهب، للماشين في سنن الدعوة إلى دين الله الحق، مصداقا لقوله تعالى (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ) الإسراء: ٩ . وقوله: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) الأنعام: ٣٨. وذلك في سبيل ترشيد وتوجيه تلك المشاريع الفذة والتي سنجني منها في المنعطف الأخير، حلولا لمشاكل وأمراض استعصى تطبيبها على مر الأوقات والعصور، ولنتذوق أكلها مستمتعين بمنظر زهر نتاجها الزكي على مدار اختلاف الأزمنة والأمكنة، وفي الأخرى حتى يكون السالك لهذا الدرب على علم ودراية بمطة البداية ونقطة النهاية، وبالأخص إذا علم سلفا بوجود معوقات ومنغصات مترامية على ضفاف وجنبات مبادرة التغيير والتبديل، التي وسمها الفرقان بـ "معركة الإصلاح" كما جاء على لسان نبي الله شعيب عليه السلام (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) هود: ٨٨. ليتمم المسيرة وبنفس المشعل والشعار وكذا المورد والمسار، نبي الرحمة للعالمين ومن معه من الثلة الطيبين، باذلين الغالي والنفيس في سبيل الفلاح والنجاح، فهنيئا لهم بنجاحهم وفلاحهم.
أقول: إذ وبالنظر لأهمية الموضوع الذي إذا ذكر، اشرأبت أعناق الناس إليه واستدارت، عالمهم وطالبهم وعاميهم كل يدلي بدلوه يحسبونه هينا وهو عند التطبيق عظيم، وهذا نظير حالة العُجَر والبُجَر بما حوت من هالات الإنحطاط والتقهقر الذي تحياه الأمة الإسلامية جمعاء، متذوقة مرارة العلقم على إثره، لا يروق فيها الحال هكذا حتى للعدو فما بالك بالصديق والرفيق؟ ونظرا في الأخرى لهذا الخلط والخبط العشوائي الذي ضرب بأطنابه حدود وطننا الإسلامي المفدى، من المحيط إلى المحيط بل وامتدت شرارته إلى مشارف ديار الكفر من بلاد الغرب والعجم، صرفت فيه الأموال وأهدرت الأنفس كما ضيعت وعطلت العديد من المصالح، في بوتقة الحماسات الشبابية الزائدة وعواطف المراهقين الجياشة من دون نتيجة تذكر ولا حتى أن يكون لنسيم التغيير أثر. فمن ناسج خيمة من الخلافات الضيقة في حواشي وجنبات السنن والآثار، يقيم الدنيا ولا يقعدها لأجل سنة هتك ستارها - كما يزعم - ضاربا عرض الحائط آداب الخلاف والإختلاف، والأدهى الأمر لما تراه ينافح لأجل مستحب، بينما لا يحرك ساكنا حينما تدق طبول الشرك وتمزق بيضة التوحيد، ومن متغني في كثير من الحالات بباب العلم قبل القول والعمل متجاهلا عن قصد باب العمل بعد العلم والقول، ومن مبتغي للخير لم يدركه يتشدق بالنيات ويتناسى الموافقة بين الظاهر والباطن، فكان ردة فعل لمن مضى تائها عن طريق الصلاح بغفلة الصالحين، كما يسعى لهداية الناس بغير طريق المصلحين، حاله يحاكي حال ذاك الطبيب المريض بعدوى يسعى لمداواة المرضى، وينسي أن يتحاشاهم حتى لا يصيبهم بعدواه، ومن ثائر على الواقع المعاش قد شحن جًرعات من الجرأة والشجاعة والغيرة - فيما يحسب - عن هذا الدين ودنيا الناس، يتقطع قلبه دما وتذرف عينه دمعا إذا وقف على مرمى الحاضر والحياة اليومية، ولكن إذا ما سئل عن الحل بقي مشدوها لا يفقه من المخارج إلا لغة الحديد والنار وسلطة الإرهاب والدمار، والمسكين لا يدري بأنه يهدم عرى الإسلام عروة عروة وقد زج به بتحكم وتخطيط جهنمي رهيب، في مخطط قذر تهب ريحه النتنة من الشمال ومن وراء االبحار.
إذن، ومن موقع كل هذه الحالة المزرية التي أصابها العفن الفكري، وزادها رزية العوج المنهجي، أردت وبتوفيق من المولى جل وعلا أن أسلط الضوء ولو ببصيص شعاع، على الأصول والملامح القرآنية الظاهرة في الآيات الربانية ليحسن بنا الرقي بواقع أمتنا الإسلامية، على نسق ماضيها المشرف ومستقبلها المشرق، فأقول وبالله أستعين:
- منهجية التغيير القرآني: إن المستقرئ لجل آيات القرآن الكريم، مما لها علاقة بموضوعنا يجد الترابط الوثيق ويلتمس بثقة التزاوج المتين، بين مهمة تغيير السيء إلى الحسن، في قالب الخطاب المتكرر والمباشر للنفس البشرية، والدواخل الإنسانية وبالأخص شيئين مهمين دار من حولهما رحى الكلام لجولات عديدة في ثنايا السور - ليس هذا مقام إحصائها - إنهما القلب محط التقوى مع الإستقامة ومكمن العقل مناط التكليف، فالمرء إذا ما استفاق لحالته الخربة ورام التغيير لن يجد ملاذا أو مفرا من توجيه الله تعالى في قوله: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ) الرعد: ١١.
يقول العلامة السعدي رحمه الله: "من النعمة والإحسان ورغد العيش بأن ينتقلوا من الإيمان إلى الكفر ومن الطاعة إلى المعصية، أو من شكر نعم الله إلى البطر بها فيسلبهم الله إياها عند ذلك، وكذلك إذا غير العباد ما بأنفسهم من المعصية فانتقلوا إلى طاعة الله،غير الله عليهم ما كانوا فيه من الشقاء إلى الخير والسرور والغبطة والرحمة " ص368 – 369. ويقول الإمام الشوكاني رحمه الله: "والمعنى: أنه لا يسلب قوما نعمة أنعم بها عليهم حتى يغيروا الذي بأنفسهم من الخير والأعمال الصالحة، أو يغيروا الفطرة التي فطرهم الله عليها " فتح القدير1/932. ويزيد الأمر إيضاحا بتقاسيم رائعة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حينما يقول: "هذا التَّغيير نوعان: أحدهما: أن يبدوا ذلك فيبقى قولاً وعملاً يترتَب عليه الذم والعقاب.
والثَّاني: أن يغيِّروا الإيمان الذي في قلوبهم بضدِّه من الرَّيب والشَّكّ والبغض، ويعزموا على ترك فعل ما أمر الله به ورسوله، فيستحقُّون العذاب هنا على ترك المأمور، وهناك على فعل المحظور، وكذلك ما في النفس ممَّا يناقض محبَّة الله، والتوكُّل عليه والإخلاص له والشُّكر له يعاقب عليه، لأنَّ هذه الأمور كلها واجبة فإذا خلا القلب منها واتصف بأضدادها استحق العذاب على ترك هذه الواجبات، وبهذا التَفصيل تزول شُبَه كثيرة ويحصل الجمع بين النصوص، فإنَّها كلَّها متَّفقة على ذلك " مجموع الفتاوى (14 /109). وفي نفس مضمار الآية السالفة يقول المولى أيضا : (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ) الأنفال: ٥٣ " .
قال الإمام القرطبي رحمه الله: "أي هذا العقاب لأنهم غيروا وبدلوا ونعمة الله على قريش وهي الخصب والسعة والأمن والعافية (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ ) العنكبوت: ٦٧.
وقال السدي: "نعمة الله عليهم محمد صلى الله عليه وسلم فكفروا به، فنقل إلى المدينة وحل بالمشركين العقاب " الجامع8/28.
قلت: حتى وإن علقها الإمام بالبعثة آنذاك وهي منتفية اليوم إلا أن العبرة هنا بعموم اللفظ لا خصوص السبب، ويقول الإمام الشوكاني رحمه الله: "والمعنى أن ذلك العقاب بسبب أن عادة الله في عباده عدم تغيير نعمه التي ينعم بها عليهم، حتى يغيروا ما بأنفسهم من الأحوال والأخلاق بكفران نعم الله وغمط إحسانه وإهمال أوامره ونواهيه، وذلك ما كان من آل فرعون ومن قبلهم من قريش ومن يماثلهم من المشركين، فإن الله فتح لهم أبواب الخيرات في الدنيا ومن عليهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب، فقابلوا هذه النعم بالكفر فاستحقوا تغيير النعم كما غيروا ما كان يجب عليهم سلوكه والعمل به من شكرها وقبولها "فتح القدير 1/701. وقال في الأخرى سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) الأنفال: ٧٠ ".
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: " إيمانا وتصديقا يخلف لكم خيرا مما أخذ منكم " 2/433. وفي صدر الآية يقول الشيخ أبوبكر - عافاه الله -: " أي: إيمانا صادقا وإخلاصا تاما " أيسر التفسير1/531. أقول من بعد هذه النصوص والنقول: إننا متفقون - أيها المحب - بأن خطوة التغيير الأولى للحالة السيئة نحو الحسن فالأحسن، تبدأ من خلجات الذات البشرية كل على حدى وهذا ظاهر للأسماع والعيان، من خلال مخاطبة الأنفس والقلوب ولعلك تتساءل ما هو المعوج في هذه النفوس والأفئدة حتى نعلمه فنغيره ونبدله أو نصلحه؟. فأقول: إعلم رحمني الله وإياك، أن واقع المرء المعاش يرتبط ارتباطا وثيقا بنوع نفسيته، فإن كانت خيرة فهو على خير وإن كانت الأخرى فهو على شر، فليس من العدل في شيء أن نحيا حياة ضنكة ثم نلصق هذا الغبش بالزمان ودنيا الناس، لأن هذا في حد ذاته يعتبر هروبا من الحق مصداقا لقول الإمام الشافعي رحمه الله:
نعيب الزمان والعيب فينا *** وما لزماننا عيب سوانا
ونهجو ذا الزمان بغير ذنب *** ولو نطق الزمان لهجان
وليس الذئب يأكل لحم ذئب *** ويأكل بعضنا بعض عيانا
وأكبر عيب في أنفسنا حينما نتحلل من أقدس الطاعات، وفي ذروة سنامها التوحيد بأقسامه والإيمان بفروعه، وفي المقابل نعانق المحظورات من المستصغرات إلى الكبائر فالوثنيات، أما العيب الثاني فهو سواد القلوب بشتى أنواع الأمراض والعلل النفسية، من بغض وكراهية وحسد وضغينة وتواكل وتمني وقلة خوف وخشية وكذا نقص تعظيم لشعائر الله الفرعية والأصلية وغيرها كثير، ومن هنا كان أوجب الواجبات لتغيير ما نحن فيه وعليه - هذا إن أردنا التغيير حقا وكنا صادقين في ذلك - هو أن نمكن لعرى العقيدة الصحيحة الحقة في أنفسنا وما ملكت أيماننا صغارا وكبارا، ومن ثم تطهير أفئدتنا وتزيينها برونق المحبة والإخاء والغبطة والسرور، مع الإخلاص وتمام التوكل والرجاء وكذا الرجوع والإنابة، مما ينعكس طرديا على أقوالنا بحلاوة اللسان ورطوبته بالذكر والدعاء، ومن ثم في آخر المصاف إستجابة جوارحنا إراديا تبعا لإيماننا القوي بإقامة العبادات والمعاملات على حقيقتها كما وكيفا زمانا ومكانا، وهذا ما اختصره جهبذ من جهابذة هذا الزمان في قاعدة "التصفية والتربية"، ولكم يعجبني في هذا المقام أن أذكر بكلمة حق قالها أحد أرباب وأدعياء "الحاكمية "، حينما خاطب أتباعه قائلا: " أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقم لكم في أرضكم"، إلا أن المساكين اتبعوه في كل ما نظر وقعد، ماعدا تلك العبارة الطيبة التي جعلها شعارا لمؤلفه " لا إله إلا الله منهج حياة "، فمن ابتغى التغيير فهذا الحق بين يديه، ومن رام التبديل على غير هدي ما سلف فقد خرط القتاد.
- عاقبة التغيير العكسي: ونعني به مشاقة الواجبات ومعاقرة المنهيات في قالب قلب المفاهيم وشقلبة التطبيقات، ليكون الشعار المستنير في الأخير" العصا لمن عصى "، كما جاء في محكم تنزيله: (سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) البقرة: ٢١١ وقوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) إبراهيم: ٢٨ . ففي هاتين الآيتين يبرز المولى جل وعلا عاقبة التبديل بمفهوم المخالفة المغاير للمأمور به، من مثل مقابلة إحسانه وإغداق النعم بالكفر به والخروج عن طاعته، حيث سيكون مآل الأمر زوال تلك النعم والخيرات، والوعيد بالعذاب والخيبة مع الخسران المبين، كما قال العلامة السعدي: " بل كفروا وبدلوا نعمة الله كفرا، فلهذا استحقوا أن ينزل الله عليهم عقابه ويحرمهم من ثوابه وسمى الله تعالى كفر النعمة تبديلا لها، لأن من أنعم الله عليه نعمة دينية أو دنيوية فلم يشكرها ولم يقم بواجبها، اضمحلت عنه وذهبت وتبدلت بالكفر والمعاصي، فصار الكفر بدل النعمة وأما من شكر الله تعالى وقام بحقها فإنها تثبت وتستمر ويزيده الله منها " تيسير 78.
- الملمح الخطأ في التغيير: ها نحن قد علمنا وعرفنا الطريق الصحيح والمخرج السوي، للواقع المزري الذي لا نحسد عليه وكلنا ناقم منه، إذ لم يبقى لنا والحالة هذه إلا أن نشخص مكمن الداء لمداواته وتدارك ما فات مما هو آت، وسأحصر هذه المكامن في النقاط التالية:
1/ التركيز على الإلتزام الأجوف: لاشك وأن الالتزام بالهدي الظاهري في ديننا السمح أمر أكثر من ضروري، كما تواتر الحكم في ذلك من خلال الكم الهائل من الآيات والأحاديث النبوية، التي فصل على منوالها قواعد وضوابط من لدن العلماء تخرج من مشكاة النبوة وكان من نور هذه المشكاة الكتاب العجاب "إقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم" لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه، إلا أن مكمن الزلل ومربط الخلل في هذا الملمح، يتلخص في زاوية الإفراط في صب الخلاف من دون آداب ونوعية التركيز المفرط من حولها، وكذا الخلط من جهة "فقه الأولويات " تقديما وتأخيرا، بحيث يستهجن الرائي مناطحة ومطارحة بين اثنين حول هدي قد يعده العلماء من السنن الجبلية، في حين ينسيان ما هم وغيرهم واقعين فيه من محظورات شرعية، تصل إلى حد تدني مستوى الأخلاق والآداب بل ووصول مؤشر التقوى والإيمان إلى مرتبة الحضيض، فعن أي تغيير تدندن يا هذا؟.
2/ التفريق بين النيات والموافقة: لما كان الفريق الأول على محط الإفراط، قابلهم الفريق الثاني على حلبة التبديل هذه بالتفريط فقالوا: كل ما شنشنوا من حوله هؤلاء ما هو إلا غبار في رماد ومرد الأمر في هذا إلى النيات لا الأفعال والأعمال، وهم بذلك ضيعوا عوض أن يعدلوا، وقد يظهر هذا التضييع جليا في جعجعتهم التي لم يرى لها طحين، منذ ما يربو عن ستين سنة ولكن من دون جدوى فلا النيات ومحلها صححوا ولا الموافقة سلكوا، وبقوا يتأرجحون بين دهاليز السياسة الوضعية وقصاصات فقه الواقع، التي تصف الداء ولا تعطي الدواء.
3/ التغيير بالقول من دون الفعل:أما هذا الملمح فيحاكي جرما جسيما في مسار التغيير، أهمله أهله من راغبي التبديل ألا وهو " إقتضاء العلم للعمل" خاصة ما تعلق منه بالجانب المادي والمحسوس الملموس، فالإحجام بالفعال عن الأقوال لن يجدي نفعا وبتر الأقوال عن الأعمال لن يعطي شيئا، وهذا ما نتحسسه في سيرة سلفنا الصالح، بداية من ذاك الصحابي الذي لم يكن يتجاوز حفظ عشر آيات حتى يعمل بها، ونزولا عند خليله الذي لما سمعقوله تعالى: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ) آل عمران: ٩٢. بادر أن يكون أول العاملين بها، فكان يسعى بين الناس يوزع عليهم ما يشتهي من الطعام، حتى يكون في تناسق العلم والعمل، ومرورا بإمام أهل السنة الذي لم يكن يرضى بتقييد الحديث في مسنده إلا من بعد أن يعمل به ويجسده على أرض الواقع، مثلما حدث له مع حديث "إحتجم النبي صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام أجره " رواه أحمد 1/153. فعلى الرغم من نحالته ونحافته وفقره المادي، أنف على ضمه لمسنده إلا إذا عمل به مناديا الحجام ليحجمه وأعطاه دينارا، ونهاية عند شيخ الزهاد في زمن الرخاء، ألا وهو العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله، الذي لم تكن تكفيه أجرته لآخر الشهر على سخاء مانحيها، بسبب طول يده الكريمة وجود عطائه المنقطع النظير ليلبي من خلالها صوت آهات الفقراء وأنات المرضى، في مشارق الأرض ومغاربها، على حد ما تذكر قصص من عايشوه.
4/ التبديل بقوة الفعل: كثير من مريد للخير لم يدركه وقليل من سلك الطريق أصاب فيه، وهذا بالضبط ما حدث مع منتحلي هذا الدرب الضيق المظلم، وأعني به منهج قوة الفعل وفضاضة القول بعيدا عن الحكمة والتعقل الشرعي، المبني على الرفق ولين الجانب في الأخذ بيد الآخرين، كما قال تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ) آل عمران: ١٥٩ .
يقول الإمام الشوكاني: "والمعنى: لو كنت فظا غليظ القلب لا ترفق بهم لتفرقوا من حولك، هيبة لك واحتشاما منك، بسبب ما كان من توليهم". فتح القدير1/321. وهذا ما يصدقه الواقع المعاش فكم من دعوة قامت على سلطة التغيير بقوة السياط والخنجر، بقت مرحلية لبرهة من الزمن ثم سرعان ما تلاشت وأفل نجمها،لأن المتغير قائم على الخشية لا من رب الواقع ولكن من الواقف على رأسه بالقارعة، وهذا أكبر فساد للجهتين فنحن نريد وفقط "تغييرا لا يزول بزوال الرجال".
ثمار التغيير: لم يبق لنا في آخر هذه الجولة الطيبة إلا أن نعضد ونوطد ما ندعي ونتبنى من المناهج والأفكار، بأدلة وحجج تبرهن على أحقية الطرح المقترح بالكد والإجتهاد، في كنف التمكين لبذرة التغيير المغروسة في أنفسنا والتي تحتاج فقط إلى النماء، تلك البذرة التي أحد شقيها نقاوة النفس بقوة الإيمان وصحة المعتقد، والشق الآخر طهارة القلب بصفاء الروح وسمو العقل، أما رشيمها فهو قوام العبادة واستقامة الآداب والمعاملة، لتكون النتيجة في محطة التوقف بإذن الله على النحو التالي:
1- المخرج من الضيق: قال تعالى: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) الطلاق: ٢ .
2- غفران الذنوب: قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) الأنفال: ٢٩ وقال أيضا: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) الفرقان: ٧٠.
3- الحفظ والحماية: قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الحديد: ٢٨ .
2- النعم والخيرات الدنيوية: قال تعالى : (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا ) الجن: ١٦ ". وقال أيضا: ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) الأعراف: ٩٦. وكما في قوله: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ) المائدة: ٦٦
4- الفوز والنجاح الأخروي: قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) فصلت: ٣٠ .
5- السيادة والإستخلاف في الأرض: قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) النور: ٥٥ .
وهذا ولا يسعني في ختام خلجة الصدر هذه والتي أعدها حجة علي أكثر مما هي عليك، إلا أن أتوجه بأكف التضرع والدعاء الخالص لخالقي ومولاي، سائلا إياه أن يغير حال أمتنا ويصلح ما بها من عطب وكرب، لتعود لسالف عهدها وآنف مجدها المنشود في قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ) آل عمران: ١١٠.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.