إن العبد في سيره إلى الله تعالى بالعبادة و التقرب إليه بالطاعة محتاج في ذلك لإن يتأدب مع نفسه بأدب رفيع ومسلك قويم هو أدب المحاسبة والمراقبة فمن حاسب نفسه في الدنيا وراجعها خف حسابه يوم القيامة وحسن منقلبه , ومن أهمل المحاسبة في هذه الدار الزائلة دامت حسراته وطالت زفراته يوم العرض الأكبر ،قال تعالى (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) الكهف: ٤٩ . وقال سبحانه (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) المجادلة: ٦ .
قال ابن القيم رحمه الله :... فإذا كان العبد مسؤولا ومحاسبا على كل شيء حتى سمعه وبصره وقلبه كما قال تعالى (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) الإسراء: ٣٦ فهو حقيق أن يناقش نفسه قبل أن يناقش الحساب وقد دل على وجوب محاسبة النفس قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ): ١٨ . اهـ من إغاثة اللهفان 1/ 104.
وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول من مقت نفسه في ذات الله آمنه الله من مقته .
رواه أحمد في الزهد برقم 167 وأبو داود في الزهد برقم 242. و عن أبي الدرداء قال : لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتا .
وقال عمر رضي الله عنه : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا وإنما يخف الحساب يوم القيامة على من حاسب نفسه في الدنيا .ذكره الترمذي بنحوه تحت حديث رقم 2459 موقوفا على عمر رضي الله عنه و انظر الضعيفة برقم 1201 . ولقد كان رضي الله عنه شديد المحاسبة لنفسه فمما يذكر عنه في ذلك ما رواه أنس ابن مالك رضي الله عنه قال : سمعت عمر بن الخطاب يوما و خرجت معه حتى دخلت حائطا فسمعته وهو يقول بيني وبينه جداروهو في جوف الحائط عمر بن الخطاب أمير المؤمنين والله لتتقين الله أو ليعذبنك . روه أبو داود في كتاب الزهد برقم 55 ومالك في الموطأ 2/992 بإسناد صحيح .وروى ابن جرير بإسناد صححه ابن كثير عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قرأ عمر بن الخطاب { عبس وتولى } فلما أتى على هذه الآية *فاكهة وأبا *قال عرفنا الفاكهة فما الأب ؟ فقال لعمرك يا ابن الخطاب إن هذا لهو التكلف قال ابن كثير رحمه الله : وهذا محمول على أنه أراد ان يعرف شكله وجنسه وعينه وإلا فهو وكل من قرأ هذه الآية يعلم أنه من نبات الأرض اهـ.والمقصود أن الإنسان كلّما كان قوي التقوى لربه سبحانه كلما زاد في محاسبة نفسه ومراقبتها وفي هذا يقول التابعي الجليل ميمون بن مهران رحمه الله * لا يكون الرجل تقيا حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه وحتى يعلم من أين مطعمه ومشربه أمن حلال ذلك أم من حرام * ذكره الترمذي عنه تحت حديث رقم 2459 والمزّي في ترجمته في تهذيب الكمال . ووكيع في الزهد برقم 239 .وهذا التشديد من هؤلاء الأخيار في محاسبة النفس لأجل أنها خلقت أمّارة بالسّوء ميّالة إليه فهي لا تطاوع صاحبها على فعل الخير بل هي من جند إبليس يستعين بها على صاحبها ليهلكه فهي بطبعها شريرة قال تعالى{ إنّ النّفس لأمّارة بالسّوء إلا ما رحم ربي } يوسف آية 53 أي إلا من عصم الله بفضله ومنه . وجعلها الله كذلك ليبتلي سبحانه عباده بتزكيتها ومجاهدتها ومحاسبتها قال جل وعلا (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) الشمس: ٧ - ١٠ .
ومجاهدتها تكون بسلطان العقل الممدود بجيوش الشّرع حتى تذعن فتصير من جند الله لوّامة على ترك الخير والتقصير فيه وهي التي أقسم الله بها في سورة القيامة فقال (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) القيامة: ١ - ٢ .فنفس المؤمن لا تزال تلومه وتحاسبه على التّقصير والتّفريط في حق الله سبحانه .
قال السّعدي رحمه الله : أقسم الله بالنّفس اللّّوّامة وهي على الصّحيح نفس المؤمن وذلك لكمال هذه النّفس وعظمتها فإن الإيمان الذي تأوي إليه وتعتقد أنه الأصل لسعادتها وفلاحها لا تزال تلوم نفسها على التقصير في لوازمه ومكملاته اهـ .مجموع الفوائد واقتناص الأوابد فائدة رقم 144 .فتظل ثابتة على ذلك مطمئنة بما تصنع حتى يناديها مناد السماء حين يحضر أجلها (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)) الفجر: ٢٧ - ٣٠ .ثم إنه لا بدّ للعبد من أوقات ينفرد فيها بنفسه يُعدّ فيها خطط أعماله و يُقوّم ما مضى منها و يطّلع على مواطن الخلل و النّقص فيها,و إذا كان تجّار الدّنيا حريصون على فعل هذا في أموالهم مع نهاية كل يوم و شهر و سنة فالمؤمن أولى بأن يفعل ذلك في تجارته مع الله إذ لا عيش إلا عيش الآخرةو ربح هذه التّجارة لا ربح يُماثله أو يُداينه و هل هناك مثل النّجاة من العذاب و الفوز بدار الخلود و حلول الرّضوان,قال تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الصف: ١٠ - ١٢ .و السّبيل إلى ما ذكرنا أن يُراقب المؤمن نفسه قبل العمل و أثناءه و بعده فيبدأ نهاره مخاطبا نفسه قائلا لها:هذا يوم جديد من أيّام الله قد أنعم الله عليّ فيه إذ أخّر أجلي و أمهلني ولو قبض روحي قبل هذا لتمنّيت أن أرجع فأعمل عملا صالحا فهي الفرصة يا نفس فلا تضيّعيها,لا تجعلي الدّنيا أكبر همّك في هذا اليوم فالنّبي صلى الله عليه و سلّم يقول:{من كانت الآخرة همّه جعل الله غناه في قلبه و جمع له شمله و أتته الدّنيا و هي راغمة و من كانت الدّنيا همّه جعل الله فقره بين عينيه و فرّق عليه شمله و لم يأته من الدّنيا إلا ماقدّر له }.رواه الترمذي برقم 2465 وهو في صحيح الجامع برقم 6510.يا نفس احرصي على أداء الفرائض في وقتها فإنّها أحبُّ شيء تتقرّبين به إلى الله,و احفظي بطنك عن أكل الحرام ولسانك عن قول الباطل والزّور,و احفظي أذنيك عن سماع الباطل والبهتان و عينيك عن رؤية ما حُرّم عليك ولا تمش إلا لقضاء خير, يا نفس أخلصي لله تنالي ثوابه و لاتُرائي فتُضيّعي جهدك .فإذا أوصى المسلم نفسه بهذه الوصايا أو مثلها فليراقبها بعد ذلك في قيامها بها وليستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الإحسان فقال : أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك * حديث جبريل الذي رواه مسلم فإنه إذا فعل ذلك راقب نفسه حتى تتم عملها بإخلاص كما بدأته وعلى الوجه المرضي فإنه كما قيل : إتمام المعرف خير من ابتداءه فكما أن العمل إذا لم يعزم على القيام به فات بالتسويف والتكاسل كذلك إذا بدأ ولم يهتم بإتمامه على الوجه اللائق ضاع وكان أشد حسرة من الذي لم يعمل أصلا قال تعالى (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا) الفرقان: ٢٣ .فإذا كان آخر اليوم جلس المسلم من جديد مع نفسه فحاسبها على ما كان منها في يومه ماذا قدّم و ماذا أخّر هل وفى بما شرط على نفسه القيام به ؟ هل انتهى عن جميع ما نهاه الله عنه ؟ هل غلبت حسناته سيئاته في ذلك اليوم ؟ ما الذي كان ينبغي عليه أن يفعله , هل هناك نقص فيُستدرك؟! كم نعمة أنعمها الله عليه؟! فيسعى في شكره عليها.هكذا ينبغي للمؤمن أن يكون شحيحا بوقته وأنفاسه يحاسب نفسه في كل ساعة. فاليوم اّلذي يذهب لن يعود , و لو أنّه رمى في بيته بكل معصية عملها حجرا لامتلأ البيت في مدة قصيرة وهو لا يشعر فمعظم النار من مستصغر الشرر .ولمحاسبة النفس فوائد كثيرة لمن داوم عليها ولا يحرمها إلا من هونائم في { روتين } الغفلة قال تعالى(' وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) الحشر: ١٩. فتراهم لا يلومون أنفسهم على منكر فعلوه بل يجتهدون كل الإجتهاد في دفع اللوم عنها وهم من أفسق الفاسقين . ( (
ومن فوائد محاسبة النفس :أنها إذا حوسبت فالغالب أنها تعاقب على التقصير فلا يسهل عليها العود في ذلك الطريق ومما يؤثر في هذا الباب ما رواه ابو داود في كتاب الزهد عن السائب بن يزيد : أنا عمرخرج إلى ماله بثمغ ففاتته العصرفقدم المسلمون رجلا فصلى بهم وأقبل عمر يريد الصلاة فتلقاه الناس راجعين .... فجعل يقول : شغلتني ثمغ شغلتني , لا تكون لي في مال أبدا أشهدكم أنها صدقة لله * هكذا فلتعاقب النفس لمن مكنه الله منها .ثمغ : بالفتح ثم السكون والغين المعجمة موضع تلقاء المدينة .
ومن فوائد محاسبة النّفس:أنّ ذلك علاج ناجع في التّخلص من عيوب النّفس كالعجب والغرور وحب الذكر والظهور .
قال ابن القيم رحمه الله : وفي محاسبة النفس عدة مصالح منها الإطلاع على عيوبها ومن لم يطلع على عيب نفسه لم يمكنه إزالته فإذا اطلع على عيبها مقتها في ذات الله – اهـ إغاثة اللهفان 1/106.فالإنسان إذا عرض على نفسه عيوبها و ما قصّرت فيه و عجزت عن الإلتزام به عرف قدره وحمله ذلك على التوكل على الله والإفتقار إليه و التواضع لخلقه ملازما لما كان يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته {اللهم اهدني لأحسن الأعمال و أحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت و قني سيء الأعمال و سيئ الأخلاق لا يقي سيئها إلا أنت } - رواه مسلم و النسائي برقم 896 واللفظ له -و إذا فرح لا يفرح إلا بفضل الله قال تعالى: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) يونس: ٥٨ .
و من تلك الفوائد أيضا:رؤية حلم الله به وستّره عليه إذ لم يعجل له العقوبة و لم يفضحه فيما عصاه به و لم يسلّمه لألسنة النّاس تنهشه فيحمله ذلك على عدم العودة لأن العود مظنّة الخذلان و في هذا المعنى ما رواه أنس ابن مالك قال:أتى عمر بشاب قد سرق فقال:و الله ما سرقت قبلها قط.فقال عمر كذبت و الله.ما كان الله ليسلم عبدا عند أول ذنب ,رواه أبو داود في كتاب الزهد برقم 56 وإسناده صحيح .نسأل الله أن يبصرنا بعيوبنا و يديم ستره علينا إنه على كل شيء قدير وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.