تعد الجمعيات الخيرية أحد ركائز العمل المؤسسي الطوعي في سائر المجتمعات حيث تضع الدول البرامج والخطط لدعم الفقراء وتقديم العون للمحتاجين إلا أن هذه الخطط لا تفي غالبا بمتطلبات واحتياجات الفقراء الذين تزداد أعدادهم في كل أنحاء العالم وتبرز الجمعيات الخيرية كأحد أهم المصادر لسد الفجوة بين ضعف المعونات التي تقدمها الدولة و بين تزايد حاجة الفقراء فهناك الكثير من الأفراد و المؤسسات الذين يبذلون المال كهبات ومعونات للمحتاجين عن طريق الجمعيات الخيرية التي تظل كوسيط بين المانحين والمتبرعين وبين الفقراء والمحتاجين .
وتلعب المؤسسات الخيرية الدينية دورا حيويا في المجتمعات العربية والإسلامية استنادا إلى المرجعية الإسلامية للعمل الخيري التي تقوم على التكافل والحض على فعل الخير كصورة من صور العدالة الاجتماعية ولأن هذه الجمعيات تقوم بدور ايجابي في سد حاجات الفقراء وإيواء المشردين ورعاية الأيتام وتقديم الأغذية للمحتاجين ومعالجة المرضى فإن كثير من المتبرعين الذين يقدمون الأموال لهذه الجمعيات يتأثر قرارهم غالبا بمدى مصداقية الجمعية و مدى ثقتهم بها واطمئنانهم لمصير أموالهم ونظرا لصعوبة تحديد أي الجمعيات الأكثر كفاءة أو الأكثر مصداقية فقد يتردد الكثير من المتبرعين في منح أموالهم أو هباتهم فتضيع فرص كثيرة لاستفادة الفقراء .
المعونات الذكية
ولأن ثقة المجتمع هي رأس مال أي جمعية خيرية فإن الحاجة ملحة لوجود جهة ما أو مؤسسة تقوم بالتقييم الموضوعي لعمل هذه الجمعيات لتحديد كفاءتها وتقديم المشورة للمتبرعين بخصوص معايير اختيار الجمعية الخيرية التي يقدم إليها الهبات و المعونات ليتأكد أنه وضعها في أيد أمينة وأنها ستسير المسار الطبيعي .
إلا أن هذه الثقافة للأسف تفتقر إليها أغلب الدول خصوصا الدول العربية والإسلامية بمعنى غياب الجهة التي تقدم المشورة والدعم الفني للراغبين في تقديم المعونات والهبات ولذا كانت تجربة مؤسسة Charity navigator تجربة رائدة وجديرة بالاهتمام.
فقد أنشئت مؤسسة Charity navigator بالولايات المتحدة عام 2001 وفق مفهوم المعونات الذكية أي تلك المعونات التي تقدم فقط للجمعيات الجديرة بالثقة والتي تدير عملها بكفاءة ولذلك تعمل المؤسسة على تقديم المساعدة و الدعم الفني للراغبين في التبرع بأموالهم و مساعدتهم في اتخاذ القرار بشأن اختيار الجهة الأصلح لاستقبال أموالهم والتي ستنفقها بكفاءة عن طريق إنشاء قاعدة بيانات لأكثر من 5000 جمعية خيرية في أمريكا وتصنيفها حسب مجالات عملها ومحاولة وضع منهاجيه محددة لتقييم عمل هذه الجمعيات بما يضمن الموضوعية وعدم التحيز.
ولتوضيح أهمية عملية التقييم هذه تتساءل مؤسسة Charity navigator إذا كان في عام 2005 وحده على سبيل المثال بلغ إجمالي تبرعات المواطنين الأمريكيين 248.5 بليون جنيه تم منحها لأكثر من مليون جمعية خيرية بدافع الرحمة والشفقة فقط وبلا أي ضمان لمصير هذه الأموال فكيف سيكون الأمر إذا تأكد الناس أن أموالهم هذه ستصل بالفعل لمستحقيها؟ ربما تضاعفت هذه النسبة كثيرا لأنهم في هذه الحالة سيمنحون المال بقلوبهم وعقولهم معا.
وتؤكد مؤسسة Charity navigator أن خدماتها يستفيد منها مالا يقل عن 3 مليون متبرع و هذه الخدمات تقدم مجانا دون أن تتقاضى أي نسبة سواء من الجمعيات أو المتبرعين وذلك بالطبع يضمن صحة بياناتها ومصداقيتها .
منهاجية التقييم
وتتأسس المنهاجية التي تتبعها مؤسسة Charity navigator على تجميع بيانات الجمعيات الخيرية المعتمدة في تمويلها على تبرعات الأفراد المانحين مع استثناء تلك الجمعيات التي تعتمد على رجل أعمال واحد أو تلك التابعة لأحد المؤسسات الاستثمارية لأن الهدف النهائي هو توعية المتبرعين بكيفية اختيار الجمعية الأفضل لمنحها التبرعات وأيضا مع استثناء الجمعيات التي تتلقى دعما حكوميا .
يلي مرحلة تجميع البيانات عن الجمعيات تصنيفها في مجموعات أساسية حسب نوع النشاط الخدمي : خدمات صحية ، تعليمية ، بيئية ، دينية ، إغاثة إنسانية... وبداخل كل مجموعة تم تقسيم مجموعات أخرى فرعية على أساس تجميع الجمعيات ذات التشابه في حجم الخدمات وأسلوب الإدارة.
والخطوة التالية هي تحليل الأداء المالي للجمعية على عدة أسس منها:
· كفاءة الجمعية في الاستفادة القصوى من التمويل ومصادر الدخل المتاحة وتوصيل التبرعات بكفاءة للفئة المستهدفة فكلما زادت نسبة الإنفاق الموجهة لتحقيق برامج الجمعية وأهدافها على حساب النفقات الإدارية الأخرى كلما زادت كفاءة الجمعية .
· أسلوب الجمعية في جمع التبرعات وبصفة عامة تزيد كفاءة الجمعية كلما قلت نفقات الحملات الإعلامية المستهدفة لجذب التبرعات وفي الوقت نفسه زاد حجم التبرعات نتيجة لهذه الحملات.
· أسلوب الجمعية في اختيار العاملين وتدريبهم بحيث كلما سعت الجمعية لتوظيف الأشخاص ذوي الكفاءة مع تخصيص نسبة معقولة من الدخل لتدريبهم وتطويرهم كلما زادت كفاءة الجمعية.
· كفاءة الجمعية في تطوير برامجها وخدماتها مع مرور الوقت وكلما تحسنت خدمات الجمعية المقدمة للفئة المستهدفة مع تزايد أعداد المستفيدين ، بمعنى التطوير الكيفي والكمي معا، كلما زادت كفاءة الجمعية .
نحو نموذج للتقييم
ولا يدرك الكثير أهمية التقييم في زيادة كفاءة إدارة الجمعيات لعملها بل ويعتقد البعض أن التقييم ما هو إلا عملية شكلية تهدف إلى إثبات فشل أو نجاح الجمعية فقط إلا أن هذا التصور يبنى على أساس أن نجاح الجمعية مرهون فقط باستمرارها في الوجود أوفي تزايد حجم مواردها أو في اتساع الشرائح التي تستفيد من برامج الجمعية بغض النظر عن كفاءتها الإدارية أو أدائها المالي كما يغفل الكثير ارتباط نجاح أو فشل الجمعية بمدى تحقيقها لأهدافها التي وضعتها لنفسها لذلك كان لابد من إبداع نموذج لتقييم أداء الجمعيات الخيرية يتناسب مع مجتمعاتنا العربية.
وإذا حاولنا أن نضع منهاجيه محددة لتقييم أداء الجمعيات الخيرية نستطيع رصد مجموعة من المعايير التي يمكن تقييم الجمعيات على أساسها:
معيار التخطيط المؤسسي:
والذي يشمل أولا تقييم أداء الجمعية بناء على مدى وضوح الرؤية والرسالة التي تسعى لتحقيقها ثم مدى التزامها بالأهداف التي وضعتها والرسالة التي نشأت من أجل تحقيقها .
فكثير من الجمعيات تغفل عن أهمية التخطيط القبلي والكثير من القائمين على أمر الجمعيات لا يلتفت لأهمية وضوح رؤية محددة ورسالة متميزة للجمعية وبالتالي لا تقوم الجمعية على أهداف محددة تسعى لتحقيقها بل تنشأ بدافع التقليد لغيرها أو لإيمان أفراها بفلسفة التطوع دون أن يحسنوا إجادة التخطيط وهنا ربما تجد الجمعية قامت على فكرة نبيلة ولكن مع غياب التخطيط والأهداف الواضحة تفشل في تنفيذ هذه الفكرة.
لذا يساعد التقييم على تدارك الأمر عن طريق تنبيه القائمين على الجمعية لضرورة المراجعة وإعادة التخطيط .
والبعض الآخر من الجمعيات تقوم على رؤية واضحة وأهداف محددة إلا أنه نتيجة غياب المتابعة المستمرة قد تحيد عن الأهداف التي رسمتها لنفسها ومن هنا كان لابد من التقييم للوقوف على أسباب هذا الانحراف عن الأهداف المرسومة .
معيار البرامج والأنشطة:
ويأتي هذا على عدة مستويات تبدأ من تقييم مدى مطابقة برامج وأنشطة الجمعية للأهداف والرسالة الخاصة بالجمعية فكلما حادت الجمعية عن رسالتها وأهدافها خلال تطبيقها للأنشطة المختلفة دل ذلك على نوع من القصور والخلل يجب تلافيه وعلى كل جمعية خيرية أن تبحث عن البرامج والأنشطة التي تحقق الهدف دون أن تشغل نفسها ببرامج إضافية تصرفها عن الهدف الأصلي أو عن تلبية احتياجات الجمهور المستهدف كأن تكون الجمعية قائمة على تلبية احتياجات المتسربين من التعليم أو أطفال الشوارع ثم نجد من أنشطتها مساعدة أسر الطلاب بالمساهمة في دفع المصروفات المدرسية فالتركيز مطلوب لتحقيق مستوى أفضل من الخدمات للفئة المستهدفة.
وأيضا مدى ملائمة برامج وأنشطة الجمعية لطبيعة البيئة المحيطة بالجمعية فما يصلح للبيئة الريفية لا يصلح للبيئة الساحلية فطبيعة المكان والسكان تفرض على كل جمعية توجيه برامجها وأنشطتها بصورة ملائمة ومن هنا يجب أن يكون أحد معايير تقييم الجمعيات الخيرية مدى استجابة الجمعية للاحتياجات الحقيقية للفئة المستهدفة وملائمتها لطبيعة الثقافة المجتمعية والإطار الثقافي للمجتمع ولا يتم ذلك إلا بعد دراسة تحليلية جيدة للمكان الذي تقام فيه الجمعية ومعرفة العوائق الثقافية المرتبطة بالمجتمع المحلي حتى يتسنى للجمعية تطوير برامجها بما يتلاءم مع القيم والاتجاهات والمعتقدات السائدة لدى هذا الجمهور .
معيار التشبيك:
فكثير من الجمعيات تنفصل عن الواقع و لا تلتفت لأهمية التلاحم والتفاعل مع الفئة المستهدفة وهذا التفاعل يتيح لها التعرف على طبيعة الجمهور واحتياجاته الحقيقية ووضع البرامج المناسبة لتطويره وتنمية مهاراته وتأهيله وتوعيته بل وإشراكه في القرارات المستقبلية المتعلقة بأنشطة الجمعية .
إضافة إلى غياب ثقافة التواصل والتشبيك بين الجمعيات المتشابهة في النشاط ولذلك تعد من أحد معايير التقييم الضرورية قدرة الجمعية على التشبيك والتعاون مع الجمعيات الأخرى وبناء الشراكة مما يؤدي لزيادة فعالية وكفاءة عمل الجمعيات ذات النشاط الواحد حتى لا يحدث تضارب أو تداخل في عمل الجمعيات ويجب أن يبدأ ذلك بإنشاء قاعدة بيانات موحدة للجمهور المستهدف في نفس المنطقة لتلافي حدوث الازدواجية الناتجة عن تلقي نفس الأفراد دعما من عدة جمعيات متجاورة بينما تحرم فئة أخرى من أي دعم .
معيار المصداقية:
فنجاح الجمعيات يعتمد لحد كبير على ثقة الجمهور بها خاصة المتطوعين وهذه الثقة تكتسبها الجمعية من إتباعها مبدأ الشفافية والوضوح ومن الوسائل التي تساعدها على تحقيق الشفافية قيام الجمعية بتوثيق عملها وجعلها متاحة للجميع بحيث تتضح فيها رؤية الجمعية ورسالتها وأهدافها وبرامجها وأهم العوائق التي قابلتها ومن الأهمية بمكان أيضا الشفافية في النواحي المالية والمحاسبية وكيفية إدارة وتوجيه الميزانية والآليات التي تتبعها لاختيار الفئة المستهدفة ولإيصال التبرعات إليهم بل وأيضا الوضوح في مصادر التمويل والتبرعات فبعض الجمعيات قد تدور حولها الشبهات نتيجة تلقيها دعما أجنبيا يفرض شروطا من قبل المانحين .
كما أن التقييم الذاتي للجمعية نفسها يضفي عليها مزيدا من الثقة والمصداقية بحيث تراجع الجمعية نفسها دائما لمراقبة أدائها بل وتستمر في هذه المراقبة بصفة دورية مع عرض نتائج هذا التقييم على الجمهور .
أما إجراءات التقييم نفسها سواء كان تقييما ذاتيا أو خارجيا فيجب أن يتم وفق خطوات محددة تبدأ بتحديد معايير التقييم ومؤشراته ثم تحديد مصادر جمع المعلومات سواء كانت من سجلات الجمعية نفسها أو بتصميم استمارة التقييم والتي تحتوي على مجموعة من الأسئلة حول كل معيار توجه للعاملين بالجمعية ولبعض المستفيدين من خدماتها وأيضا لبعض المتبرعين ويكون الهدف من هذه الأسئلة قياس أداء الجمعية ومقارنته بالمعايير المحددة سلفا ، والخطوة التالية تحليل هذه النتائج وتفسيرها للخروج بتقرير كامل يحتوي على النتائج مع إجراءات لتصحيح الانحرافات أو الأخطاء مع بعض التوصيات لتطوير عمل الجمعية.
هنا يثور التساؤل :
هل تتنبه الجمعيات الخيرية في الدول العربية والإسلامية لأهمية هذا التقييم وهل يأتي اليوم الذي تتصدى فيه إحدى المؤسسات لكي تقوم بدور المستشار لكل من المتبرع والجمعيات الخيرية وأن تقوم ببعض ما تقوم به مؤسسة Charity navigator؟!
نشرت فى 31 مايو 2010
بواسطة ahmedkordy
أحمد السيد كردي
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
30,877,620