واقع التنمية من منظور الفكر الإسلامى ..
تمهيد :
ترتبط التربية الإسلامية مع نمط متكامل من التوجيهات التي ترسم الطريق للإنسان وتتلخص في :
الإيمان أو ما يمكننا أن نسميه تربويا الارتباط بالرقابة الذاتية النابعة من الجانب العقائدي الذي يربط عمل الإنسان بفلسفة الجزاء "الثواب والعقاب "الشيء الذي تعجز عنه القوانين الوضعية لارتباطها بالرقابة الخارجية.
الربط بين مبدأ التربية ومبدأ الاستخلاف (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض) , (وإذ قال ربك للملائكة أني جاعل في الأرض خليفة) وهذا الربط يشكل جوهر المنظور الحضاري في التصور الإسلامي.
التوازن والتكامل بين الجوانب العقلية والمادية والنفسية والروحية (وابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا ،وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين) .
من الخطأ أن نعتبر التنمية مجرد عملية اقتصادية فنحصرها في مناصب الشغل مع إغفال مؤشرات التقدم والتخلف المرتبط بالقيم التي تحكم المسار الثقافي والاجتماعي .
وفي هذا الصدد يقول الأستاذ عادل حسين، في مقال له تحت عنوان "التراث ومستقبل التنمية "غني عن البيان أن حديثنا عن التطورات المقبلة خلال عقدين كاملين. هو حديث عن تنمية مركبة تشمل المجتمع كله وتصيب مكوناته كلها ( سياسية وثقافية واجتماعية إلى جانب المكون الاقتصادي) بشكل ينبغي أن يكون متكاملا ومنسقا …ويلاحظ في السنوات الأخيرة أن المتحدثين عن التنمية أصبحوا جميعا يتناولونها باعتبارها عملية أوسع من أن تكون مجرد عملية اقتصادية، ولذا يتابعون مؤشرات التقدم في مختلف القطاعات وليس في القطاع الاقتصادي وحده ، ومن هنا نقول إن مهمة التربية الإسلامية لا تنفك عن هذا المنظور الشامل للتنمية بحيث لا تنحصر في بناء السلوك الفردي بقدر ما توجه وتربى كل الطاقات الفاعلة في ساحة التنمية سواء في ذلك المهندسون والإعلاميون والتقنيون وغيرهم.
وقد تركزت الأخلاق الاقتصادية في الغرب على أسس عقلانية نفعية صرفة، فكان الإخلاص في العمل والوفاء بالعهد وعدم الغش وغيرها من مبادئ حسن التصرف والإدارة تأخذ بعين الاعتبار عدم فقدان الزبون، وفي كتاب ثروة الأمم يعلن منظر الليبرالية آدم سميت :
" إننا لا نعتبر قوتنا منة من الجزار أو الخباز بل إن عملهما يعود بفائدة عليهما، إننا لا نخاطب إنسانيتهما بل أنانيتهما فلا نكلمهما عن حاجياتنا بل عن مصالحهما " .
يدل هذا التحليل على الارتباط الصرف بالمصالح الآتية، وتختلف الوسيلة باختلاف نسبة ما يتحقق من هذه المصالح المادية الظرفية، ولعل هذا ما يفسر طغيان المصالح المركزية للغرب حيث ترتبط التصرفات بفلسفة تربوية تعتمد المذهب النفعي ، ويتجلى ذلك بوضوح حينما يرتبط الأمر بحقوق الإنسان والحوار الحضاري والرؤية للعالم المقبل ، فلا تكاد تحضر القيم المتنوعة لكافة الشعوب في أي مشروع تغييري ولا تتحد المضامين المصطلحية للثوابت الحضارية «حقوق الإنسان –العدالة الاجتماعية -السلم –الحوار…"ألا وفق ما تنسجه مصلحة الغرب ولو على حساب المفهوم الحضاري للإنسانية. وهذا لا ينفك عن الفلسفة التربوية التي ذُكرت سابقاً .
وفلسفة التربية الإسلامية قائمة على الارتباط بالجانب العقائدي الذي يخلق الرقابة الذاتية وبمبدأ الاستخلاف الذي يأخذ بعين الاعتبار فلسفة الجزاء (ثواب و عقاب) كموجه أساسي ، وبمبدأ التوازن انسجاما مع مكونات الإنسان تبين لنا أن أخلاقيات التنمية في المشروع الإسلامي مرتبطة بما هو أبعد من تحقيق المصلحة الذاتية الفردية ، إذ تعتبر العقيدة ورقابة الله تعالى ومبدأ التقوى بوصلات موجهة لأي فعل اقتصادي أو اجتماعي أو بشري فيقاس النفع والضرر بمدى الاستجابة لأمر الله لا بالمصالح الذاتية .
وبقراءة بسيطة لبعض نماذج الدعوة في القرءان الكريم نرى كيف وظفت العقيدة الإسلامية ، في إصلاح ما فسد من أحوال اقتصادية واجتماعية وموصلة لتنمية شاملة . ومن أمثلة ذلك نبي الله شعيب وإصلاح الفساد الاقتصادي ، ودعوة نبي الله لوط إلى إصلاح الفساد الأخلاقي والاجتماعي ، ودعوة نبي الله موسى إلى إصلاح الفساد السياسي ، وكل من هؤلاء جعل من تثبيت عقيدة التوحيد مدخلا للإصلاح . وعبر هذه النماذج يظهر بجلاء أن التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبشرية مرتبطة ارتباطا وثيقا بفلسفة التربية السائدة ويمكننا أن نتلمس الآثار الإيجابية للتربية على القيم الإسلامية في ميادين التنمية المعاصرة من خلال رصد واقعها أولا ثم معرفة انعكاسات التربية على القيم الإسلامية في مستوياتها العملية
والخلاصة أن التربية على القيم الإسلامية فلسفة عامة توجه الفعل الحضاري الإنساني إلى التوفيق بين متطلبات الحياة المادية والغاية العلوية التي تتمثل في خلافة الله في الأرض ، وإذا كانت التنمية تقوم أساسا على العنصر البشري فإن تأهيله وتكوينه يمر بالضرورة عبر صياغة برامج تستهدف التربية على القيم وتنمية الكفايات .
فلسفة التنمية من منظور إسلامي :
تنطلق فلسفة التنمية من منظور إسلامي من مسلمة أساسية وهي أن الإنسان خليفة الله في أرضه ، وهذه الخلافة مقرونة بعبوديته .
وانطلاقاً من أن الإسلام يعمل على إحالة سعي الإنسان كله في الدنيا إلى عبادة ، فإن السعي التنموي يُعد صورة مخصوصة من صور العبادة ، كما تؤكد فلسفة التنمية في الإسلام على أن التنمية الحقيقية تحدث نتيجة التفاعل الإيجابي بين البعد الإيماني وبين الأبعاد المختلفة للتنمية ، وأن الفصل بينهما يؤدي إلى الخراب .
كما تحرص فلسفة التنمية على تحقيق الشمول والتكامل والتوازن بين مختلف أبعاد وجوانب التنمية ، وذلك من اجل الوصول بالإنسان إلى مقام التكريم الذي منحه الله للإنسان .
ومن أهم أسس ومبادئ التنمية في الإسلام :
1 ـ أن الإنسان مخلوق مكرم ، خلقه الله في أحسن تقويم ، وميزه بالعقل والعلم والإرادة ، وجعله خليفة في الأرض ، وسخرها له ، وحمله مسؤولية عظيمة وهي عبادته .
2 ـ أن التنمية في الإسلام وسيلة وليست غاية ، فهي وسيلة الإنسان إلى تحقيق علة خلقه ، وهي العبودية ، لذا فإن جميع وسائل التنمية وأهدافها لابد أن تكون مسخرة لخدمة تلك العلة .
3 ـ إن الإسلام يعمل على أن تكون التنمية ذات طبيعة شاملة تتضمن الأبعاد الخلقية والمادية و... للفرد والمجتمع ، بما يؤدي إلى أقصى رفاهية ونفع للبشرية في الدنيا والآخرة في إطار الشريعة الإسلامية
4 ـ محور ومركز العملية التنموية في الإسلام هو الإنسان .
5 ـ أن التنمية في الإسلام يجب أن تتم بوسائل وأساليب بعيدة عن استغلال وظلم الإنسان ، كما يجب أن يستفيد منها جميع أفراد وفئات المجتمع .
6 ـ أن التنمية في الإسلام لابد أن تهدف إلى جلب المصالح للناس ودرء المفاسد والضرر عنهم ، وكفالة ضرورياتهم وتوفير حاجاتهم وتحسينها .
دور التربية الإسلامية في تحقيق التنمية الاقتصادية :
من أبرز ما يمكن أن تقدمه التربية الإسلامية لتكون أداة فاعلة في إحداث ودفع التنمية الاقتصادية :
أ ـ أن تعمل على تنشئة الفرد المسلم على الاعتراف بأن التنمية الاقتصادية أمر مرغوب ، ومطلوب ، ولكنها ليست غاية في ذاتها ، فهي في الإسلام تتحرك داخل الإطار العام للنظام الإسلامي الذي ينظم شؤون الحياة كلها على أساس أن الإنسان مستخلف من الله في الأرض لعمارتها ، وأن الغاية من استخلافه تحقيق العبودية لله .
ب ـ أن تساعد الفرد على معرفة الأصول والقواعد والتوجيهات المرتبطة بالنظام الاقتصادي في الإسلام ، وتحثه على التمسك بها وتطبيقها ، وأن تبين له على وجه الخصوص دائرة الحلال والحرام في الإسلام التي تحكم العلاقات ، والأنشطة الاقتصادية ، وأن تشجعه على أن يكون سلوكه الفعلي محكوماً بها .
ج ـ أن تعد الإنسان القادر على التجديد والتغيير التقدمي في المجال الاقتصادي ، وأن تعمل على تغيير اتجاهاته ، وعاداته الفكرية والسلوكية وقيمه التي تتعارض مع متطلبات التنمية الاقتصادية ، كعدم احترام العمل اليدوي ، والاستهلاك ، والتواكل و...
د ـ أن تنمي وعيه ، وإدراكه بتاريخ التخلف الاقتصادي في المجتمعات الإسلامية ، وعوامله الداخلية والخارجية .
و ـ أن تساعد الفرد على حسن اختيار نوع الدراسة والمهنة ، المبني على معرفة واقعية بقدراته واستعداداته من جهة ، وعلى متطلبات سوق العمل الراهنة والمستقبلة من جهة أخرى .
دور التربية الإسلامية في تحقيق التنمية الاجتماعية :
من أبرز ما يمكن أن تقدمه التربية الإسلامية لتكون أداة فاعلة في إحداث ودفع التنمية الاجتماعية :
أ ـ أن تغرس وتنمي في الفرد روح المسؤولية الفردية ، كأساس لروح المسؤولية الجماعية ، وتهذيبه ليصبح مصدر خير وعطاء لمجتمعه .
ب ـ أن تعتني بتنمية الروح الاجتماعية ، وروح التعاون لدى الإنسان المسلم ، حيث يصبح لديه اهتمام بشؤون مجتمعه ، والاستعداد للتضحية والبذل في سبيل تقدمه .
ج ـ أن تهتم بتوضيح الأثر الاجتماعي للأحكام الشرعية ، وإبراز أهمية دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حفظ وصيانة حياة الناس من الفساد أو الظلم والعدوان ، وأهمية التكافل الاجتماعي كما حدده الإسلام .
د ـ أن تساعد الفرد المسلم على اكتساب القدرة على استيعاب التغيرات الاجتماعية المرغوبة والتكيف معها ، وعلى المساهمة الإيجابية في إحداثها ودفعها إلى الأمام .
هـ ـ أن تهتم بتخليص الأفراد من الأفكار القبلية والطبقية الضيقة ، وتنمية روح الولاء والانتماء للمجتمع الإسلامي .
و ـ أن تساعد الفرد على اجتناب الصفات السلوكية المخلة والمفسدة للعلاقات الاجتماعية ، كالظلم والغيبة والنميمة والحسد و...
دور التربية الإسلامية في تحقيق التنمية البشرية :
من أبرز ما يمكن أن تقدمه التربية الإسلامية لتكون أداة فاعلة في إحداث ودفع التنمية البشرية :
أ ـ أن تتعهد وتنمي العقيد الإسلامية الصحيحة عند المتعلمين ، وتجعلها الإطار المرجعي لسلوكهم وتصرفاتهم .
ب ـ أن تعتني بنشر وبتعليم العلوم الشرعية ، وإشاعة القيم والثقافة الإسلامية بين المتعلمين ، وتنمية الولاء للثقافة العربية والفكر الإسلامي ، ومقاومة الغزو الثقافي ، والشعور بالنقص والدونية الثقافية .
ج ـ أن تعتني بنشر وبتعليم جميع العلوم النافعة ، وأن تغرس في نفس المتعلم أن تعلمها فريضة على المسلم ، وأنها مكملة للعلوم الشرعية ، وأنه لا غنى للمجتمع المسلم عنهما معاً .
د ـ أن تعمل على تطوير تدريس العلوم في مختلف المراحل ليساير التطورات العالمية المفيدة من حيث المحتوى والوسائل والطرائق والمختبرات وغيرها .
هـ ـ أن تكشف عن قدرات واستعدادات المتعلمين ، وتتعهد طاقات الإبداع والابتكار اللازمة للتقدم العلمي ، وأن تهيئ البيئة المحرضة والمساعدة على تنمية هذه الطاقات إلى أقصى حد ممكن .
********************
المراجع :
1 ـ غبان ، محروس أحمد ( 1415هـ ) . التنمية الشاملة للمجتمعات الإسلامية. المملكة العربية السعودية ، المدينة المنورة . مكتبة دار الإيمان .
2 ـ الرشدان ، عبدالله زاهي ( 2005 م ) . في اقتصاديات التعليم . الأردن ،عمان . دار وائل للنشر والتوزيع .
3 ـ نشوان ، يعقوب حسين ( 1425 هـ ) . التربية في الوطن العربي . الأردن ، عمان . دار الفرقان للنشر .