المجتمع المدني أساس التنمية البشرية في العالم العربي ..
<!-- debut_surligneconditionnel -->جميل حمداوي
تمهيــــد:
تواجه المجتمعات العربية كثيرا من المشاكل والأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والبيئية عجزت الحكومات والسلطات عن إيجاد الحلول الناجعة لتطويقها والحد منها وتجاوزها بعد ذلك، مما جعل الأمم المتحدة تعدها ضمن العالم الثالث أو من الدول السائرة في النمو، لكونها لم تحقق مؤشرات التنمية البشرية المطلوبة التي تتحدد في ثلاثة معايير أساسية متكاملة ومترابطة فيما بينها وهي: الدخل الفردي السنوي، والرعاية الصحية، والتعليم المتطور المنتج. وهناك من يضيف معايير إنسانية أخرى إلى هذه المعايير كاحترام حقوق الإنسان وإرساء دولة الحق والقانون وتكريس ثقافة المواطنة الصالحة.
بيد أن الحكومات العربية بمفردها لن تستطيع أبدا أن تحل جميع المشاكل والأزمات التي تحول دون تحقيق نهضتها الحقيقية وازدهارها الشامل وتقدمها الفعال، فلابد من مساعدة المجتمع المدني بجميع جمعياته ومنظماته ومكاتبه القانونية والتنظيمية ومراكزه العلمية وهيئاته النقابية والمهنية من تحمل مسؤولية المشاركة والمساهمة في بناء المجتمع البشري والإنساني وتكثيف الجهود لتنمية الوطن والأمة قصد اللحاق بركب الدول المتقدمة.
ولن تكون مساهمة المجتمع المدني إيجابية إلا إذا طبقت الديمقراطية في المجتمع الإسلامي، وآمن الإنسان العربي بالتسامح ونبذ العنف وإقصاء الآخر وكراهية الغير، واعتمد التعايش سبيلا للتنمية، واختار الانفتاح طريقا للدخول في العولمة وتحصيل الحداثة والتنمية الشاملة، واتخذ التعارف ركيزة للتعامل مع الآخرين قصد الدخول إلى سوق المنافسة المعرفية والعلمية والتقنية . لأن أي تقوقع على الذات وأية انطوائية انغلاقية سادية أو مازوشية أو أي تواكل سلبي قد يكلف الإنسان العربي ثمنا باهظا، وسيسبب له خسائر فادحة تتمثل في التراجع عن سنوات عديدة من التنمية. إذاً، ماهو المجتمع المدني؟ وما هي التنمية البشرية وأهدافها؟ وإلى أي مدى يعد المجتمع المدني قاطرة للتنمية أو وسيلة من وسائل التقدم والازدهار والنماء المادي والرفاهية المعنوية؟ تلكم هي الأسئلة التي سنحاول رصدها في موضوعنا الفكري هذا.
2أ- مفهـــوم المجتمع المدني وخصائصه: 2
1- مفهـــوم المجتمع المدني:
يعتبر المجتمع المدني من الركائز الأساسية لتحقيق التقدم والازدهار وتفعيل التنمية البشرية الحقيقية. ويسمى هذا المجتمع بهذا الاسم، لأنه يتخذ طابعا اجتماعيا مدنيا وسلميا مستقلا عن الدولة والحكومة وعن كل المؤسسات الرسمية والعسكرية، على الرغم من كونه يتكامل مع المؤسسات الحاكمة تنسيقا واستشارة واقتراحا.
هذا، ويجسد المجتمع المدني مظهرا من مظاهر الديمقراطية الحديثة التي ترتكز على الحرية والمساواة والعدالة والكرامة الإنسانية والإيمان بحقوق الإنسان.
ولا يمكن للمجتمع المدني أن يشتغل إلا في مجتمع ديمقراطي يحترم حقوق الإنسان ويعمل على تثبيتها وتكريسها في جميع المجالات والأصعدة والمستويات. كما أن المجتمع المدني "من حيث المبدأ، نسيج متشابك من العلاقات التي تقوم بين أفراده من جهة، وبينهم وبين الدولة من جهة أخرى. وهي علاقات تقوم على تبادل المصالح والمنافع والتعاقد والتراضي والتفاهم والاختلاف والحقوق والواجبات والمسؤوليات. ثم، إن هذا النسيج من العلاقات يستدعي، لكي يكون ذا جدوى، أن يتجسد في مؤسسات طوعية اجتماعية واقتصادية وثقافية وحقوقية متعددة." [1]
ويعرف المفكر الإيطالي أنطونيو گرامشي (1937-1981) المجتمع المدني بأنه :" مجموعة من البنى الفوقية مثل: النقابات والأحزاب والمدارس والجمعيات والصحافة والآداب والكنيسة". [2] ويقابل المجتمع المدني لدى گرامشي المجتمع الرسمي أو مايسمى بسلطة الدولة، ويعرفه المفكر الألماني هابرماس بقوله:" المجتمع المدني نسيج من الجمعيات والهيئات الاجتماعية التي تناقش الحلول الممكنة لبعض المشاكل المرتبطة بالمصلحة العامة". [3]
أما الدكتور سعد الدين إبراهيم فيعرفه بأنه:" مجموعة التنظيمات التطوعية الحرة التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة لتحقيق مصالح أفرادها، ملتزمة في ذلك بقيم ومعايير الاحترام، والتآخي والتسامح والإدارة السليمة للتنوع والخلاف." [4]
ومن هنا، فالمجتمع المدني عبارة عن هيئات مدنية حرة تقوم بأعمال تطوعية اختيارية لصالح الإنسان بتنسيق مع الدولة أو في استقلال عنها من أجل تحقيق التنمية الشاملة.
2- ظهور مفهوم المجتمع المدني:
من المعروف في الكتابات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والفلسفية أن المجتمع المدني لم يظهر في الغرب إلا مع الدولة الليبرالية التي دافعت عن الدولة واستوجبتها للخروج من حالة الطبيعة والفوضى والإقطاع عن طريق الاعتراف بحقوق الإنسان والملكية الخاصة والعلمانية، وقد دافعت عنه الكتابات الفلسفية وخاصة كتابات جان جاك روسو التي أتت مناهضة للمجتمع الديني، فضلا عن كتابات هيگل وأنطونيو گرامشي التي قدمت تصورا إيديولوجيا للمجتمع المدني من خلال ربطه إما بالبورجوازية عند هيگل وإما بالطبقة البروليتارية عند گرامشي.
ولم ينتقل مفهوم المجتمع المدني إلى العالم العربي إلا في السنوات المتأخرة من القرن العشرين بفعل انتشار الوعي العلمي والثقافي والمثاقفة مع الغرب والانفتاح الإعلامي ومحاولة الدول العربية لتبني الديمقراطية والتيار الليبرالي وتكريس ثقافة حقوق الإنسان وإرساء دولة الحق والقانون خاصة بعد فشل الأنظمة الاشتراكية والتجارب السياسية اليسارية في جل الدول العربية.، وذهب الأستاذ حبيب الجنحاني إلى أبعد من ذلك حينما أثبت بأن مفهوم المجتمع المدني دخيل على تراث الفكر السياسي العربي الإسلامي، ولم يبرز في الخطاب السياسي العربي إلا في العقود الأخيرة، واتسم عند ظهوره بسمات خاصة جعلته يختلف عن ميزات المفهوم في بيئته الأولى، ولم يتأثر المجتمع العربي الإسلامي بهذا المفهوم إلا خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وهي الفترة التي رحل فيها بعض رواد الفكر الإصلاحي العربي الإسلامي إلى أقطار أوربية وسجلوا ما شاهدوه. [5]
وأصبح اليوم مفهوم المجتمع المدني من أكثر المصطلحات تداولا في كثير من الحقول المعرفية والمنتظمات الدولية واللقاءات التي تعقدها المنظمات غير الحكومية وشبه الحكومية.
3- مقومات المجتمع المدني وشروطه:
يقصد بالمجتمع المدني مجموعة من التنظيمات الأهلية والشعبية المستقلة عن الدولة والحكومة والأفراد، تتكون من هيئات اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية وإيكولوجية ودينية، تدافع عن مصالح الشعب المشتركة ومصالح الأمة والإنسانية قاطبة. وتسعى كذلك لخدمة أهداف المجتمع الأهلي ماديا ومعنويا من أجل الرفع من مستوى التجمعات البشرية وتحقيق حاجياتها وإشباع رغباتها وتوفير الرفاهية المطلوبة والتنمية المستدامة.
ومن مقومات المجتمع المدني الاستقلالية عن كل الضغوطات الخارجية الرسمية أو شبه الرسمية والتخصص في الأعمال والمشاريع التي تنفع المجتمع البشري بصفة خاصة والمجتمع الإنساني بصفة عامة، واحترام الشرعية القانونية والتنظيمية للجمعيات والهيئات المدنية. أي لايمكن لجمعية أو هيئة أو منظمة مدنية أن تشتغل إلا في ضوء القانون واحترام مبادئ الدستور وكل القوانين المنظمة لمؤسسات الدولة، لكي لايستغلها ضعفاء النفوس لتمرير أهوائهم الإيديولوجية وارتكاب الأفعال المشينة التي تضر بالمصلحة العليا للدولة أو بمصلحة الشعب أو بمصالح الأعضاء الذين ينتمون إلى هذه المؤسسات غير الحكومية.
ومن المقومات الأخرى للمجتمع المدني التطوعية والاختيار الحر، ويعني هذا أن خدمة المجتمع مبني على المساهمة الحرة والفعل التطوعي دون إلزام وإجبار . ويكون الالتزام بالواجب والاستجابة للضمير الإنساني والمواطنة الحقة والشعور بالأواصر القومية والإنسانية من المحفزات الأساسية للمشاركة في التجمعات المدنية. ومن المقومات الأخرى لهذا المجتمع نستحضر تكامل المجتمع المدني مع الدولة عن طريق البحث والتحقيق وتقديم الاقتراحات والاستشارة و إعلان الاحتجاج البناء والنقد الهادف أو المساهمة في التغيير البديل والبناء الفعال لصالح الإنسان مع تحقيق التنمية الشاملة.
وينبني المجتمع المدني كذلك على مجموعة من الشروط الجوهرية كتحقيق الديمقراطية وإرساء دولة حقوق الإنسان والاعتراف بحريات المواطنين الفردية والجماعية، وتكوين نظام انتخابي تمثيلي شفاف ونزيه يخدم مصلحة الوطن والشعب على حد سواء. ومن ثم، فعلاقة الديمقراطية بالمجتمع المدني علاقة وطيدة، لأن الديمقراطية تساهم في :" دعم استقلالية مبادرات المجتمع المدني بالتوسع في تنظيم الجماهير وإقامة مؤسسات المجتمع المدني، والسير إلى طريق التنمية الوطنية المعتمدة على النفس للحد من العلاقات اللامتكافئة، وتحقيق قدر مناسب من العدالة الاجتماعية، تمكن المجتمع المدني من ممارسة دوره في دعم التطور الديمقراطي للمجتمع. ويحتاج السير بنجاح إلى طريق التطور الديمقراطي على ثقافة ترسخ في المجتمع التعاون واحترام الآخر والتنافس والصراع السلميين." [6]
أما الشروط الأخلاقية التي ينبني عليها المجتمع المدني فتكمن في التسامح وتقبل الآخر والإيمان بالاختلاف والاعتراف بالرأي المخالف وحب الغير والتضحية بالذات في سبيل المصلحة العامة وإيثار منطق الحوار والاختلاف والتعايش والأخوة، ونبذ العنف والتهميش والإقصاء وسياسة التغريب والتطرف والإرهاب.
ويتضح مما سبق أن المجتمع المدني يلتزم:" في وجوده ونشاطه بقيم ومعايير الاحترام والتسامح والمشاركة وإدارة التنوع والاختلاف إدارة سلمية، وهي نفس القيم والمعايير التي تقوم عليها الديمقراطية لتدبير شؤون المجتمع، فالديمقراطية أسلوب حياة يشمل كافة مجالات المجتمع. ولا يكفي أن تكون هذه القيم أساس تحرك الإنسان في المجتمع، بل ينبغي أيضا تنمية مهارات المشاركة التي تمكنه من التفكير والتصرف تصرفا يوازن بين حقوقه الفردية وبين الصالح العام." [7]
وخلاصة القول: يقوم المجتمع المدني على الحرية والاستقلالية والفعل التطوعي والتسامح وخدمة الإنسان ودمقرطة العمل والعمل في إطار فرق مشاركة والاعتماد على التعاون الجماعي والمزاوجة بين النظرية والممارسة وبين القول والفعل مع الانطلاق من الأهداف الإنسانية النبيلة من أجل تحصيل تنمية بشرية مستدامة مبدعة وفعالة.
4- مكونات المجتمع المدني:
يتكئ المجتمع المدني على مجموعة من المكونات يمكن حصرها في: النقابات والاتحادات المهنية، والجمعيات التعاونية والخيرية، والغرف التجارية والصناعية، والقطاع الخاص، والجمهور العريض، والمنظمات غير الحكومية مثل: مراكز حقوق الإنسان والمنظمات الشبابية ومنظمات المرأة والطفل والتنمية والبيئة وأجهزة الإعلام والنشر وأجهزة التوعية والتربية ومراكز البحوث والدراسات العلمية والجمعيات الثقافية والرياضية، بله عن الأحزاب السياسية والآداب والفنون والصحافة والمراكز الدينية...
ويلاحظ أن هذه المنظمات والجمعيات مستقلة عن الدولة والحكومة والمؤسسات السياسية حيث تشتغل بكل جدية ومثابرة وتفان خدمة لأهداف إنسانية سواء أكانت اقتصادية أم اجتماعية أم بيئية أم ثقافية أم تربوية أم إعلامية.
بيد أن هناك اختلافا فكريا حول الأحزاب السياسية ومدى انتمائها إلى المجتمع المدني، فإذا كان هناك من لايدرجها ضمن المجتمع المدني لكونها تخدم مصالحها السياسية والإيديولوجية، إلا أننا نرى أن لهذه الأحزاب أدوارا مدنية تقوم بها من أجل مصلحة الشعب خاصة إذا كانت مؤسسات تبتغي خدمة الرعية والدفاع عن حقوقها والعمل على تحسين أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية. ويعني هذا أن الأحزاب السياسية لايمكن فصلها بتاتا عن المجتمع المدني إذا كانت تخدم مصالح المواطنين وتنوب عنهم في المؤسسات التمثيلية كالمجالس البلدية والإقليمية والجهوية وعبر مؤسسة البرلمان في تبليغ حاجياتهم وتوصيل طلباتهم إلى السلطات الحاكمة إما عن طريق الاستشارة والحوار السلمي وإما عبر الضغط واستخدام قوة الإضراب وحشد الرأي العام.
ويذهب الباحث المغربي الدكتور حسن قرنفل مذهبا معاكسا، إذ يؤكد أن جل المفكرين يتفقون على أن:" النقابات والجمعيات الثقافية والحقوقية والأحزاب السياسية تشكل أهم مقومات المجتمع المدني. وإذا كان انتماء النقابات والجمعيات المختلفة إلى المجتمع المدني لايثير أي نقاش ولا اعتراض، فإن اعتبار الأحزاب السياسية أحد مكونات هذا المجتمع المدني، على العكس من ذلك، يثير الكثير من الأسئلة. ذلك أنه يجب أن نذكر بأنه لامجال للحديث عن مجتمع مدني داخل مجتمع معين إلا مقابل وجود هيئات وتنظيمات أخرى مختلفة. من هنا يمكن القول بأن المجتمعات المعاصرة تتكون من ثلاث مستويات. المستوى الأول يضم السلطة السياسية الحاكمة الممارسة لكل الصلاحيات التنفيذية والتشريعية المخولة لها من طرف الدستور أو القانون، والمستوى الثاني يتكون مما يمكن تسميته بالمجتمع السياسي الذي يضم النخبة السياسية المؤطرة داخل الأحزاب السياسية، والمستوى الثالث هو الذي يضم المجتمع المدني. وكل مستوى من هذه المستويات الثلاثة يقيم علاقات تقارب وتنافر مع المستويين الآخرين." [8]
ومن ثم، يرفض الدكتور حسن قرنفل إدراج الأحزاب السياسية ضمن المجتمع المدني، لأن الأحزاب السياسية تنتمي إلى المجتمع السياسي وتمارس جميع الوسائل الشرعية وغير الشرعية للوصول إلى السلطة واحتكارها، وهذا يتنافى مع مقومات وأهداف المجتمع المدني الذي يعمل على خدمة الصالح العام في جو ديمقراطي شفاف ونزيه بعيدا عن الديماغوجية والاستغلال والانتهازية، يقول حسن قرنفل في هذا الصدد: "وهكذا، وحسب هذا التصور، فإن الأحزاب السياسية لا تدخل في نطاق المجتمع المدني، بينما تعتبر النقابات إحدى دعائمه، وذلك ببساطة لكون النقابات وإن مارست السياسة في كثير من الأحيان في التوجهات السياسية العامة للبلاد وبقيامها بإضرابات ذات طابع سياسي، فإن الهدف من سلوكها ذلك ليس هو الوصول إلى السلطة السياسية، ولكن التأثير عليها ومراقبتها." [9]
ومهما اختلفنا في طبيعة الأحزاب السياسية، فكل من يساهم في خدمة الإنسان وكان ينطلق في توجهاته من منطلقات مستقلة عن ضغوطات السلطة الحاكمة والضغط العسكري فهو ينتمي إلى المجتمع المدني.
5- إستراتيجية العمل لدى المجتمع المدني:
يستند المجتمع المدني إلى مجموعة من الخطوات والمراحل الإجرائية في تنفيذ مهامه التنموية والبشرية كالبحث عن الظاهرة المتفشية سلبا في الوسط البشري، ودراسة المشاكل والآفات والتحقيق فيها قصد فهمها وتفسيرها، وإعداد الدراسات النظرية والميدانية لفهم هذه المشاكل فهما عميقا، وتحديد الحاجيات وحصرها، وتوقع المعيقات والمثبطات قصد توفير الإمكانيات المادية والمالية والبشرية الملائمة، وتسطير الأهداف البعيدة والوسطى والقريبة للتحكم في المشاكل والأزمات المرصودة، واستخدام أسلوب المشاورة والاقتراح والتنسيق، وتشغيل وسائل الإعلام للتوعية والتنبيه والإرشاد، واللجوء إلى الضغط في حال الرفض لمتطلبات المجتمع المدني، ويمكن أن يترتب عن هذا الرفض والمنع رفع القضية إلى القضاء والعدالة أو استخدام أسلوب الاحتجاج والمواجهة.
ومن بين المهمات التي يتكلف بها المجتمع المدني تحديث الوطن والأمة وإشاعة العقلانية وتحقيق التنمية البشرية والعمل على تحصيل التنمية المستدامة وتطوير المجال العلمي والمعرفي عن طريق تشجيع البحث النظري والتطبيقي ودعم التطور التكنولوجي وتنمية المجال الصحي والرفع من مستوى الدخل البشري.
6- الأدوار والمهام التي يقوم بها المجتمع المدني:
يرتكز المجتمع المدني على المشاركة الشعبية والفعل التطوعي لكل مواطن غيور على بلده لخدمة بيئته القروية والحضرية والجهوية ووطنه وأمته عن طريق تحقيق مشاريع إنسانية تساهم في تحقيق التقدم والازدهار قصد الخروج من التخلف والفقر ومشاكل البطالة.
وينبني المجتمع المدني أيضا على خدمة مصالح الأفراد والمجتمع ومصالح المواطنين عن طريق اقتراح منجزات تنموية تستهدف الرفع من قدرات المواطنين وتحسين ظروفهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والبيئية وتوعيتهم سياسيا لتحمل مسؤولياتهم التاريخية للمساهمة في تفعيل التنمية المستدامة.
ولا يمكن السير بالمجتمع المدني إلى آفاق أرحب في المجتمعات العربية إلا عن طريق العلم وتحسين الرعاية الصحية والرفع من الدخل الفردي، ولن يتم هذا الطموح المشروع والنبيل إلا بوجود استثمارات اقتصادية وأيد عاملة مؤهلة قادرة على تشغيل دواليب الاقتصاد وتسيير عجلة النمو الإنتاجي.
ومن هنا، لن ينبغي أن تقتصر أنشطة المجتمع المدني على ما هو مادي وبيولوجي واقتصادي، بل ينبغي أن تتجاوز ذلك إلى تحقيق المنجزات الثقافية والفكرية عن طريق محاربة الأمية بكل أنواعها (الأمية الأبجدية، والأمية الوظيفية، والأمية الإعلامية، والأمية اللغوية، وأمية نقص التكوين). وتزداد: "أهمية المجتمع المدني ونضج مؤسساته لما يقوم به من دور في تنظيم وتفعيل مشاركة المواطنين في تقرير مصائرهم، ومواجهة مايؤثر في معيشتهم ويزيد من إفقارهم، ولما يقوم به من دور في نشر ثقافة خلق المبادرة الذاتية، وثقافة بناء المؤسسات، وثقافة إعلاء شأن المواطن، والتأكيد على إرادة المواطنين في الفعل التاريخي، والمساهمة بفعالية في تحقيق التحولات الكبرى للمجتمعات.". [10]
ويلاحظ أن أدوار المجتمع المدني متعددة ومتشعبة تنطلق مما هو محلي إلى ماهو جهوي ووطني وقومي وإنساني، وبالتالي، يخطط المجتمع المدني إستراتيجيته كلها لتنمية الإنسان باستخدام الطاقات البشرية لتحسين ظروف الإنسان ليتبوأ مكانته التي ارتضاها الله له أثناء استخلافه في هذه الأرض الطيبة المباركة عبادة وتعميرا وإنجابا.
2 ب- التنمية: الخصائص والمقومات:2
1- مفهـــوم التنمية لغة واصطلاحا:
تدل التنمية لغة على الزيادة والنماء والكثرة والوفرة والمضاعفة والإكثار. بينما يختلف مفهوم التنمية الاصطلاحي من مجال إلى آخر، فيتخذ دلالة اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو بيولوجية أو نفسية. ومن هنا، أصبح مفهوم التنمية مفهوما معقدا ومتشابكا يصعب تعريفه وتحديده بدقة.
هذا، وقد ارتبط مصطلح التنمية في البداية بالتقدم والتخطيط والإنتاج، ليصبح فيما بعد ذا أبعاد مادية ومعنوية. ولكن التنمية بالمفهوم العام هي تحسين ظروف المواطنين وتغيير مستوى معيشتهم عن طريق تحسين دخلهم الفردي والرفع من شروط الرعاية الصحية وتقديم أحسن منتوج في مجال التربية والتعليم والتثقيف عبر تكثيف برامج العمل ذات الطابع البشري والإنساني والأهلي، وإعداد مشاريع تنموية واستثمارات من أجل خدمة هؤلاء المواطنين والأجيال اللاحقة ضمن ما يسمى بالتنمية المستدامة أو الطويلة الأمد.
وترتبط التنمية أيضا بالتحديث والتغيير والعصرنة وتحقيق مؤشرات النمو الاقتصادي والرفع من الإنتاجية وتحقيق التقدم العلمي والتكنولوجي والصناعي والاعتماد على العقلانية والتصنيع من أجل اللحاق بالدول المتقدمة والدخول في سراديب العولمة التي لا تؤمن سوى بالمنافسة والعمل المتواصل واحتكار الأسواق.
وعليه، تدور التنمية البشرية حول تطوير: "المقدرة البشرية بسياسات وبرامج اقتصادية واجتماعية ودولية تعزز قدرة الإنسان على تحقيق ذاته. ويرتبط مفهوم التنمية في هذا السياق بتنمية الإنسان من حيث هو هدف ووسيلة، أو بتنمية قدرات الإنسان على سد حاجاته المادية والمعنوية والاجتماعية. وإذ تتركز إستراتيجيات تحقيق التنمية البشرية على إحداث تغييرات في البيئة القانونية والمؤسسية التي يعيش في كنفها البشر، يبقى الأساس في ذلك دائما توسيع خيارات الإنسان وبذلك يتسع فضاء حريته، وهو ما يتضمن البعد الاقتصادي للتنمية دون أن يقتصر عليها.
والخلاصة أن التنمية البشرية...توسيع لقدرة الإنسان على بلوغ أقصى ما يمكنه بلوغه من حيث هو فرد أو مجتمع ذو أفراد كثيرة وذلك بزيادة إمكانياته التي ليست القدرات الاقتصادية إلا مجرد جانب منها. ومن هنا لابد أن تكون السياسات التنموية بالضرورة متعددة الآفاق، لا اقتصادية فحسب." [11]
وهكذا، فالتنمية ذات أبعاد مادية اقتصادية، وأبعاد إنسانية بشرية قائمة على التثقيف وتطوير مؤهلات الكائن البشري عن طريق استثمار قدراته الذاتية للتأقلم مع وضعيات المجتمع المعقدة.
2- تاريخ مفهوم التنميـــة:
من المعلوم تاريخيا أن مفهوم التنمية لم يتم تداوله إلا مع منتصف القرن العشرين، وذلك مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية ومع استقلال جل الدول التي تنتمي إلى العالم الثالث أو إلى دول الجنوب، ومنها بعض الدول العربية التي كانت تعاني من التخلف على جميع المستويات والأصعدة.
ورغبة من هذه الدول في التحرر، تبنت عدة مقاربات اقتصادية وسياسية للخروج من شرنقة التبعية والتخلف قصد اللحاق بدول الشمال والدول المتقدمة، فظهر ما يسمى بالدول النامية أو البلدان السائرة في النمو، وطفحت على السطح إشكالية التخلف و التنمية، وأصبحنا اليوم نتحدث عن مفاهيم مقترنة بالمفهوم كالتنمية المستدامة والتنمية البشرية. بيد أن هناك العديد من الدراسات الاقتصادية التقليدية التي تحدثت عن التنمية، ولكن بمفهوم النماء والإنتاج والربح.
وعليه، فقد وظف مصطلح التنمية في الاقتصاد أولا ليعني إحداث مجموعة من التغيرات الجذرية في مجتمع معين عن طريق التحكم في الموارد الذاتية وتوظيفها توظيفا حسنا لرفع من قدرات المجتمع قصد تحقيق الحاجيات المستلزمة، وإشباع رغبات المواطنين عن طريق تحسين ظروفهم المادية والمعنوية. بيد أن هذا المصطلح قد اتخذ في الستينيات من القرن الماضي بعدا سياسيا ليعني تطبيق الديمقراطية وإرساء ثقافة حقوق الإنسان وتنمية الموارد البشرية قصد اللحاق بالدول الصناعية الغربية.
وتنقسم التنمية إلى قسمين: تنمية مادية اقتصادية، وتنمية بشرية إنسانية. ويعني هذا أن التنمية ذات شقين: شق مادي تقني وشق ثقافي معنوي. وبالتالي، فالتنمية تسعى جاهدة إلى تأهيل الإنسان معنويا واجتماعيا وحضاريا وثقافيا وتقنيا عن طريق تطويع الاقتصاد لخدمة الإنسان.
3- أســس التنمية ومرتكزاتها:
لا يمكن تحقيق التنمية الحقيقية إلا بإرساء مجتمع الديمقراطية والعدالة ودولة الحق والإنسان والمواطنة الصالحة ونشر العلم بين كل أفراد الشعب وتوزيع الثروات بكل إنصاف وتشغيل العقل والمنطق وتغيير العقليات الموروثة وتحرير العقل من أي فكر مسبق وإعطاء الأولوية للتجريب العلمي والاختراع التقني عن طريق تطوير التعليم والتربية وإعلاء خطاب التسامح والانفتاح على الآخر وإرساء الفكر الفلسفي الايجابي الذي يساهم في اختراع النظريات وإثراء التجارب التطبيقية الناجعة لتحقيق مجتمع مزدهر يؤمن بالديناميكية والفعالية السياسية القائمة على المشاركة وخدمة الصالح العام . [12]
وتنبني التنمية في جوهرها على أربعة عناصر أساسية وهي: الإنتاجية والمساواة والاستدامة و تمكين المجتمع المدني بقوة التمثيل السياسي للمشاركة في اتخاذ القرارات الصائبة من أجل المساهمة في تحقيق التنمية البشرية الفضلى. [13]
لكن تبقى العقلانية والحرية والديمقراطية وتسييد خطاب حقوق الإنسان والارتكان إلى المبادرة الحرة من الأسس الفعالة لترجمة التنمية إلى الواقع الفعلي.
4- مفهوم التنمية البشرية وأهدافها:
تستند التنمية البشرية إلى خدمة الإنسان عقليا وجسديا ووجدانيا وحركيا، وتحقيق توازنه البيولوجي والنفسي في الوسط الاجتماعي عبر تحسين ظروفه المادية والاقتصادية والاجتماعية، وتغيير مستوى معيشته من خلال تقديم رعاية صحية لائقة به وتحسين دخله الفردي السنوي وتوفير منظومة تربوية متقدمة تؤهله للانفتاح والمساهمة في تحقيق الازدهار والتقدم لوطنه وأمته .
ويمكن الحديث عن التنمية البشرية في إطار ربطها بالمواطنة الصالحة وإرساء دولة الحق والقانون والاعتراف بحقوق الإنسان وبالحقوق والواجبات المشتركة والإيمان بالنضال الحزبي والنقابي لتحقيق مصلحة الشعب والإنسان على حد سواء.
ومن هنا، فالتنمية البشرية:" عملية توزيع الخيارات أمام الناس، أي ما ينبغي أن يتاح لهم، وما ينبغي أن تكون عليه أحوالهم، فضلا عما يفعلوه، ضمانا لتنامي مستوى معيشتهم.
والخيارات أمام الإنسان بلا حدود من حيث المبدأ، لكن حدودها وسقوفها مرتبطة بالمحددات المجتمعية، اقتصادية، وسياسية، وثقافية. وبما يتاح لتحقيقها من سلع وخدمات ومعرفة . وللتنمية البشرية جانبان:
أولهما: هو تشكيل القدرات البشرية وتنميتها من خلال تحسين مستوى الصحة والمعرفة والمهارة. أما الجانب الثاني، فيتصل بتوظيف القدرات المكتسبة في الإنتاج، وفي المشكلة في المجالات السياسية والثقافية والاجتماعية، والاستمتاع بوقت الفراغ. وتتسع مجالات التنمية البشرية لتشمل الاحتياجات المرتبطة بكرامة الإنسان، وحماية حقوقه، كحقه في التحرر والحرية، وحقه في الحركة والتنقل، وحقه في القانون، وحقوقه الشخصية". [14]
ومن أهداف التنمية البشرية والتنمية المستدامة الرقي بالإنسان اجتماعيا وأخلاقيا ومدنيا واقتصاديا وثقافيا وعلميا ومعرفيا عن طريق الاستفادة من التكنولوجيا المعاصرة والاستعانة بالحاسوب للانفتاح على العالم الخارجي الذي أصبح اليوم قرية صغيرة، وتأمين الحياة اليومية عبر تحسين الدخل الفردي، والتمتع بالصحة الجيدة لفترة طويلة، وتملك العلوم والمعارف والفنون المعاصرة مع تحسن الظروف البيئية التي يعيش فيها الإنسان. ومن ثم، فالتنمية لم تعد تنمية مادية ومالية تسعى إلى تحقيق الغنى والثراء والرفاهية للإنسان، بل هي معنوية وثقافية تحاول أن تسعده روحيا وعقليا وذهنيا عن طريق التنشيط والتكوين المستمر قصد تتبع كل ماهو جديد في ساحة الثقافة والإعلام.
إن هدف التنمية البشرية حسب الخبير اللبناني جورج قرم ليس: "مجرد زيادة في الإنتاج، بل هو تمكين الناس من توسيع نطاق خياراتهم ليعيشوا حياة أطول وأفضل وليتجنبوا الأمراض وليملكوا المفاتيح لمخزون العالم من المعرفة إلى آخر ما هنالك. وهكذا، تصبح التنمية عملية تطوير القدرات، لا عملية تعظيم المنفعة أو الرفاهية الاقتصادية كما ينظر إليها اليوم. فالأساس في التنمية البشرية المستدامة ليس الرفاهية المادية فحسب، بل الارتفاع بالمستوى الثقافي للناس بما يسمح لهم أن يعيشوا حياة أكثر امتلاء وأن يمارسوا مواهبهم ويرتقوا بقدراتهم. ويتضح هنا مثلا أن التعليم والثقافة يحققان فوائد معنوية واجتماعية، تتجاوز بكثير فوائدهما الإنتاجية، من احترام الذات إلى القدرة على الاتصال بالآخرين إلى الارتقاء بالذوق الاستهلاكي." [15]
ويضيف جورج قرم بأن الثراء أو الغنى "ليس شرطا لتحقيق الكثير من الأهداف المهمة للأفراد والمجتمعات مثل الديمقراطية أو المساواة بين الجنسين أو تطوير التراث الثقافي والمحافظة عليه. والثروة لا تضمن الاستقرار الاجتماعي أو التماسك السياسي. هذا فضلا عن أن حاجات الإنسان ليست كلها مادية. فالحياة المديدة الآمنة وتذوق العلم والثقافة وتوفر الفرص لممارسة النشاطات الخلاقة وحق المشاركة في تقرير الشؤون العامة وحق التعبير والحفاظ على البيئة من أجل الأجيال الحالية والمقبلة مجرد بعض الأمثلة على حاجات وحقوق غير مادية قد يعتبرها المرء أهم من المزيد من الإنتاج المادي. بالمقابل، فإن التلوث البيئي وارتفاع معدلات الجريمة أو العنف المنزلي أو الأمراض المعدية كالإيدز في الكثير من البلدان لايعقل أن يعوض عنها المزيد من ارتفاع متوسط الدخل الفردي." [16]
وعليه، فمن أهداف التنمية البشرية في العالم العربي هو القضاء على الفقر والجهل والأوبئة والتطرف بتوفير سبل التطوير والتغيير والتحديث عن طريق توفير كل الإمكانيات المادية والمالية والعلمية للرفع من مستوى الإنسان العربي وإخراجه من شرنقة التخلف إلى مراقي التقدم والازدهار والتنمية الشاملة المستدامة.
2ت- علاقة المجتمع المدني بالتنمية البشرية:2
من المعروف أن الحكومات المنتخبة في العالم العربي هي التي تتحمل مسؤولية تسيير الدولة والعمل على تحقيق رفاهية المجتمع البشري وتنميته على جميع المستويات والأصعدة. بيد أن هذه الحكومات العربية مازالت تتخبط في الكثير من المشاكل العويصة والأزمات الخانقة على جميع المستويات والأصعدة، لايمكن وحدها إطلاقا أن تساهم في بناء مجتمع نام ومتطور ومتقدم، ولاسيما إذا كانت مواردها الطبيعية ضعيفة وإمكانياتها المادية والمالية هزيلة ومحدودة، أو تملك على العكس من ذلك موارد متوفرة و أرصدة بنكية كثيرة، وعلى الرغم من ذلك فإننا نجدها تفتقد إلى تقنيات التخطيط الجيد والمحكم، و ينعدم فيها البحث العلمي، وتفتقر إلى آليات التكنولوجيا، كما لا تشغل المعرفة العلمية تشغيلا وظيفيا يؤهلها لتحريك دواليب الاقتصاد وتفعيل بنى الدولة الإنتاجية.
ومن هنا، نسجل مدى أهمية حضور دور المجتمع المدني في العالم العربي إلى جانب عمل الحكومة عن طريق التدخل والمساعدة واقتراح المشاريع والحلول الصائبة والخطط الناجعة للخروج من الأزمات والمشاكل بصفة خاصة ومن آفة التخلف بصفة عامة.
ويلاحظ خلافا لذلك أن المجتمع المدني في الغرب يقوم بما لايمكن أن تقوم به الدولة، حيث يسعى جاهدا لخدمة الإنسان ماديا ومعنويا من أجل تحقيق الرفاهية المادية والإسعاد المعنوي والثقافي الكلي والشامل.
ونفهم من كل هذا أن التنمية البشرية هي التي تتوجه إلى الإنسان ويشارك فيها الإنسان، أي إن الإنسان يصبح في مفهوم التنمية هو المنفعل والفاعل والذات والموضوع والحاضر والمستقبل والإرادة والاختيار. لذا على جميع الطاقات البشرية أن تساهم في خدمة المجتمع المحلي والجهوي والوطني والقومي والإنساني قصد الحصول على السعادة المادية والعقلية والروحية فوق هذه الأرض المباركة.
وينبغي للناس حسب جورج قرم أن: "يشاركوا مشاركة تامة في القرارت والإجراءات التي تشكل حياتهم. وتبرز هنا بشكل خاص أهمية منظمات المجتمع المدني وإمكانية المحاسبة وتعديل المسار عند الضرورة. فالناس في التنمية ليسوا مجرد متلقين سلبيين بل هم عاملون فاعلون في تشكيلها." [17]
ويساهم المجتمع المدني بعدة أنشطة اجتماعية واقتصادية وثقافية وإيكولوجية وسياسية وعلمية لإخراج المنطقة التي ينتمي إليها ذلك المجتمع من أزماته الخانقة ومشاكله المادية والمالية والبشرية والمعنوية المحبطة عن طريق رسم خطط إصلاحية وتغييرية جادة حاضرا ومستقبلا لتحقيق التنمية المستدامة وتطوير القدرات البشرية الذاتية لخدمة الآخر عن طريق الدفاع عن حقوقه المدنية والسياسية والحفاظ على البيئة والقضاء على ظاهرة التلوث والانحباس الحراري ومحاربة الأمراض المتفشية كالسيدا وأنفلونزا الطيور، والوقوف في وجه الإرهاب وتوعية الناس بأخطار التطرف وضرورة تبني خطاب التسامح والتعايش والأخوة، والعمل على الحد من كل أنواع الأميات المتفشية داخل الوسط البشري، وتوفير رعاية صحية جيدة ومناسبة، وتنظيف الأمكنة الآهلة بالسكان المدنيين، وبناء المؤسسات التربوية لتربية المرأة وتعليمها، وتشييد مراكز لحماية الطفولة ورعاية الشباب، والسهر على خلق جمعيات اجتماعية تتكفل بمساعدة الفقراء والمعوزين، وتكوين أندية رياضية وثقافية وأدبية وفنية لتنشيط الفضاء الثقافي داخل الوسط البشري، بله عن توعية المواطنين عبر الصحف والأحزاب السياسية المستقلة، والتنسيق مع الحكومة لإنجاز المشاريع الضخمة التي تحتاج إلى إمكانيات مالية ضخمة وموارد جبارة لتأهيل الوسط المجتمعي والفضاء البشري ليتبوآ مكانتهما اللائقة بهما.
ولكن لا يمكن أن يتحقق هذا المجتمع المدني في أرض الواقع بهذه المواصفات الإيجابية إلا في مجتمع ديمقراطي يؤمن بالخلاف والتعددية والحوار، ويستند إلى خطاب التواصل الحميمي والتسامح الإنساني وحب الغير بدون إقصاء أو تغريب أو ممارسة العدوان ضد الآخرين.
وهكذا يجمع المفكرون والمثقفون العرب على أن: "الديمقراطية هي المخرج الأساسي للشعوب العربية من مأزقها الحالي وما تعانيه من مشاكل وأزمات. فلا يمكن بغير الديمقراطية الحديث عن تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، أو التطلع إلى تحديث حقيقي للمجتمع، أو توفير العدالة الاجتماعية، أو تعميق المشاركة الشعبية.
الديمقراطية في جوهرها طريقة في الحياة وأسلوب لتسيير المجتمع وتدبير شؤونه بوسائل سلمية. وبمعناها الواسع تعني الديمقراطية مشاركة الشعب في اتخاذ القرار السياسي، ومراقبة تنفيذه والمحاسبة على نتائجه." [18]
وعليه، فالمجتمع المدني أساس التنمية البشرية، ولا يمكن تصور أية تنمية حقيقية وشاملة بدون مشاركة المجتمع المدني الذي يساهم بكل طاقاته التطوعية في تشغيل الإنسان من أجل خدمة الإنسان نفسه ماديا وعقليا ووجدانيا وحركيا.
[|خاتمـــة:|]
نستنتج مما سبق أن التنمية الحقيقية ليست هي تنمية الموارد الطبيعية والمادية من أجل إشباع الرغبات والحاجيات وتحقيق رفاهية الثراء والغنى، بل التنمية الحقيقية هي التنمية البشرية التي تتخذ طابعين: طابعا ماديا وطابعا معنويا. أي إن التنمية الحقيقية هي التنمية البشرية المستدامة التي تهدف إلى تطوير قدرات الإنسان وتحريره من ربقة التخلف والجهل والأمراض والأوبئة والفقر عن طريق تحسين دخله السنوي وتوفير رعاية صحية جيدة وتعليم متطور يؤهله للتكيف مع الوضعيات المعقدة التي يجابهها في المجتمع الخارجي. ومن ثم، فالتنمية الحقيقية هي التي تستهدف الإنسان وسيلة وموضوعا، وتجعله أداة وهدفا. ويعني هذا أن التنمية الحالية لم تعد تنمية اقتصادية فحسب، بل هي تنمية بشرية وإنسانية متكاملة ومتوازنة وشاملة تتبنى العلم وتطوير التكنولوجيا، وتتسلح بالعقل والإرادة، وتتحرر من الأوهام الزائفة الموروثة لبناء مجتمع علمي معقلن ومتسامح.
ولمعرفة دور التنمية البشرية وفعاليتها المثمرة ونتائجها الحقيقية، فماعلينا سوى التمثل باليابان التي لا تملك من الموارد الطبيعية والمادية والمالية شيئا مما تملكه الدول العربية قاطبة. بيد أن اليابان تملك شيئا واحدا وهو الإنسان الذي أهلته الحكومات اليابانية منذ عهد الميجي منذ القرن التاسع عشر الميلادي تأهيلا علميا وصحيا وماديا مع تحسين ظروف معيشته وتطوير البنية التحتية للبلاد وبناء مجتمع ديمقراطي إلى أن أصبحت دولة اليابان اليوم ثالث قوة اقتصادية في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأورپي بفضل إيمانها الكبير بالعقلانية والبحث العلمي وتطوير التكنولوجيا وتسطير برامج إنمائية بشرية مستقبلية هادفة.
إذاً، فما أحوجنا اليوم إلى التمثل باليابان والاقتداء بالدول المتقدمة قصد اللحاق بها بعد أن حطمت الأرقام القياسية الأولى في مجال التنمية البشرية، على الرغم من كون الإسلام، كتابا وسنة، هو السباق قبل جميع التشريعات الوضعية الغربية إلى تطبيق التنمية البشرية منذ انبلاج الدعوة النبوية المحمدية التي شرّقت في ربوع الأرض وغرّبت لتخرج الإنسان من الظلمات إلى النور ومن الضلالة إلى الهداية!
*******************
المراجع ...
<!-- debut_surligneconditionnel -->[1] د. عبد الغفار شكر: المجتمع الأهلي ودوره في بناء الديمقراطية، دار الفكر المعاصر، الطبعة الأولى، 2003م، ص:20
[2] الحبيب الجنحاني: (المجتمع المدني بين النظرية والتطبيق)، عالم الفكر، الكويت، العدد3 مارس 1999م،ص:31
[3] هابرماس: ما هو المجتمع المدني؟، ترجمة مصطفى أعراب ومحمد الهلالي، سنة 1999م، ص:48
[4] سعد الدين إبراهيم: (المجتمع المدني والتحول الديمقراطي في الوطن العربي)، مقدمة كتاب: المجتمع المدني والتحول الديمقراطي في البحرين، مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية، 1995م، ص:5
[5] د. الحبيب الجنحاني: (المجتمع المدني بين النظرية والتطبيق)،عالم الفكر، الكويت، العدد3 مارس 1999م،ص:31
[6] محمد مورو: المجتمع الأهلي، آفاق معرفية متجددة، منشورات العرفان، ص:84
[7] د. عبد الغفار شكر: المجتمع الأهلي ودوره في بناء الديمقراطية، ص:20
[8] د. حسن قرنفل: المجتمع المدني والنخبة السياسية، أفريقيا الشرق، الطبعة الأولى، 1997م، ص:57
[9] د. حسن قرنفل: المجتمع المدني والنخبة السياسية، ص:58
[10] د. عبد الغفار شكر: المجتمع الأهلي ودوره في بناء الديمقراطية، ص:55
[11] جورج قرم: التنمية البشرية المستدامة والاقتصاد الكلي، سلسلة دراسات التنمية البشرية، العدد6، بيروت، لبنان، 1997م، ص:35
[12] خيري عزيز:قضايا التنمية والتحديث في الوطن العربي، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، لبنان، ط1، 1983
[13] جورج قرم: التنمية البشرية المستدامة والاقتصاد الكلي، سلسلة دراسات التنمية البشرية، العدد6، بيروت، لبنان، 1997م، ص:35
[14] د. حامد عمار: التنمية البشرية ماهي؟،مطبعة فضالة، المحمدية، ط1، 2006م، ص:15
[15] جورج قرم: التنمية البشرية المستدامة والاقتصاد الكلي، سلسلة دراسات التنمية البشرية، العدد6، بيروت، لبنان، 1997م، ص: 35
[16] جورج قرم: نفس المرجع السابق، ص: ومابعدها 35
[17] جورج قرم: نفس المرجع السابق، ص: ومابعدها35
[18] عبد الغفار شكر: المجتمع الأهلي ودوره في بناء الديمقراطية، دار الفكر المعاصر، الطبعة الأولى، 2003م، ص:20