قال الحكماء قديماً في الحزم :
* الحزم أنفس الحظوظ .
* رب رأي أنفع من مال ، وحزم أوفى من رجال .
* من لم يقدمه الحزم ، أخره العجز .
* الحزم يوجب السرور ، والتغرير يوجب الندامة .
وجماع كل هذا في معنى الحزم إذ أن لفظة الحزم تدل على القوة والاجتماع ويدخل في معناها حسن التصرف واتخاذ المواقف الواضحة بقوة وإصرار .
والحازم هو الذي جمع زمام نفسه بقوة مواقفه وزمام الآخرين لحزم قيادته .
يصف أحدهم شخصية القيادة الحازمة فيقول : إن القيادة الحازمة هي التي تحافظ على تفكير واضح ومنطقي رغم المتاعب وتبحث عن الحقيقة وتمسك بها بكل إصرار مهما كلف الأمر وتثبت في المأزق بكل صبر ولو انسحب الجميع من حولها وتحكم بدون تحيز لآرائها وتصرفاتها الشخصية وتعترف بأخطائها بكل صدق وأمانة .
وتظهر هنا العلاقة بين القيادة الناجحة واتسامها بالحزم بوضوح إذ أن من أهم معاني القيادة القدرة على امتلاك زمام الأمور وهذا لا يتأتى للقيادة إلا بعد أمور كلها.
من معاني الجزم :
أولها : القدرة على تسيير الأمور وقت الرخاء والشدة ، فالرجل الضعيف
المتخاذل لا يستطيع أن يقود أفراده ويوحد صفوفهم ويشد أواصرهم وقت الرخاء
فكيف به وقت الشدة حيث تزداد الحاجة إلى الحزم والقوة .
ثانياً : الوقوف أمام الأهواء فالرئيس الحازم لا تتلاعب به الأهواء ولا تتقاذفه الآراء فبحزمه يستطيع أن يضع الأمور في نصابها الصحيح دون أن يدع فرصة للأمور أن تتسيب أو تسير لتخدم غير المصلحة المناطة في عنقه ، فهو وبحكمته وحزمه يسمع لذوي الحجة والمنطق الصحيح ويقف واضحاً حازماً أمام ذوي الأهواء مما يؤهله للسير بقافلته دون تعثر .
ثالثاً : الوصول إلى الهدف ولو كان صعباً سمة الحازم فمعنى الإصرار لا
يفترق عن معنى الحزم ، إذ إن القائد الحازم الذي رسخ في نفوس مرؤوسيه ضرورة تحقيق الهدف ، يجد نفسه في مقدمة من يصر ويسعى جاداً ليكون قدوة بحزمه وإصراره حتى يصل هو ومرؤوسوه إلى ما تطلعوا إليه وذلك خلاف القائد المتخاذل الذي ينقطع به الطريق في المنتصف .
رابعاً : القدرة على اتخاذ القرار وتحديد الموقف الصحيح من أهم سمات القائد الحازم فهو لا يدع للشك والتردد سبيلاً إلى نفسه فإن حزمه يرفض ذلك وبشدة ، إن من المهم دائماً أن لا يترك مرؤوسيه دون أن يعرفوا قراره أو موقفه في أمر ما لم يشر لهم شخصية تقودهم إلى سبل مختلفة ليست كالتي ينبغي أن يرسمها لهم قائدهم الحازم .
خامساً : تحمل المسئولية وأعبائها يرتبط ارتباطاً وثيقاً بسمة القيادة الحازمة ، إذ أن الحزم أول الطريق لا يعني شيئاً ولا يحقق أي منفعة إذا لم يترتب عليه الوصول إلى نهاية الطريق بكل تبعاتها وعندها يدرك المرؤوسون أن حزم قيادتهم ليس مجرد أزمة عابرة بل هي سمة متلازمة مع كونهم قادة بيدهم زمام الأمور .
ويحضرني موقفان عظيمان يبرزان صفة الحزم في القيادة الناجحة :
الأول :
موقف موسى -عليه السلام- لما رجع من الطور بعد أن ناجى ربه وعاد بالألواح وقد علم من الله بخبر عبادة قومه للعجل وعاين الأمر أقبل على قومه فعنفهم ووبخهم وعاتب أخاه هارون [ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلاَّ تَتَّبِعَنِ ] ، ثم أقبل على السامري [ قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ ] ، توعده وأنذره [ قَالَ فَاذْهَبْ فَإنَّ لَكَ فِي الحَيَاةِ أَن تَقُولَ لا مِسَاسَ ] . وهذا دعاء عليه بألا يمس أحداً ثم توعده في الأخرى فقال : [ وإنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ ] ، وبعد ذلك عمد إلى العجل فحرقه وذراه في البحر [ وانظُرْ إلَى إلَهِكَ الَذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي اليَمِّ نَسْفاً ] . والقرآن يصف الموقف بصورة حزم واضحة إذ يشعر القارئ للقصة في كتاب الله سرعة اتخاذ الموقف والقضاء على الفتنة برمتها وبحزم سريع يكاد يكون خاطفاً فلم يتردد أو يتكاسل بل إن الوضوح والإصرار كان ملازماً لتصرفاته في القضاء على الأمر وهذا هو معنى الحزم الذي نتحدث عنه.
الثاني :
موقف الصديق أبو بكر -tفي ردة الأعراب بعد وفاة رسول
الله - r- إذ ارتدت أحياء كثيرة وادعى طليحة الأسدي ومسيلمة الكذاب النبوة والتف حولهم قومهم وأنفذ الصديق جيش أسامة فقل الجند في المدينة ، فطمعت كثير من الأعراب في المدينة وراموا أن يهجموا عليها ، فجعل الصديق على أنقاب المدينة حراساً يبيتون بالجيش حولها ويصف ابن كثير هذا الموقف فيقول : « عظم الخطب واشتدت الحال وقد تكلم الصحابة مع الصديق في أن يترك المرتدين وما هم عليه من منع الزكاة ويتألفهم حتى يتمكن الإيمان في قلوبهم ، ثم بعد ذلك يزكون فامتنع الصديق من ذلك وأباه وقام في الناس وقال كلمته المشهورة :" والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله - r- لأقاتلهم على منعها والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة " ، وكان في اشتداد المحنة أن طمع الأعراب في المدينة وأغار بعضهم فما كان من الصديق إلا أن بات قائماً ليلة يعبئ الناس فما طلع الفجر إلا وهم والعدو في صيد واحد ومكن الله للمسلمين واستمر على ذلك حتى قال المسلمون : لو رجعت إلى المدينة وأرسلت رجلاً ، فقال : والله لا أفعل ولا أواسينكم بنفسي وهكذا بقي الصديق هو وصحابة رسول الله يقاتلون حتى خضعت الجزيرة إلى حكم الله من جديد .