الهدوء وضبط النفس.
من أهم سمات القيادة الناجحة الهدوء وضبط النفس، وهي صفة جلية في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جميع أحواله، إن الهدوء وضبط النفس موهبة فطرية وسمة خلقية تكتسب كذلك، ولا بأس بذكر موقفين له - r- تتبين فيهما هذه الصفة:
أولاً: في معركة حنين عندما فوجئ المسلمون بهجوم قوي من الكفار (هوازن ومن معها) وفر من فر ممن أسلم بعد الفتح، وتراجع المسلمون عشوائياً، في هذه اللحظات الحرجة والصعبة كان رسول الله - r - ثابت الجأش هادئ الأعصاب يقول: أيها الناس هلموا إلي أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله، ويقول لعمه العباس: ناد أصحاب الشجرة، وبفضل الله ثم بفضل هذا الثبات من الرسول - r- آب المسلمون إليه ورجعوا يتجمعون حوله وانتصروا بعدئذ بإذن الله.
هذا الموقف يحتاج إلى تأمل، ففيه الشجاعة وحسن التصرف، وفيه هدوء النفس وعدم الهيجان، وفيه التوازن مع ما في الحدث من شدة انعكست على الألوف ممن سار في الجيش، يذكرني هذا الهدوء من رسول الله - r- بقول أحدهم: » لكي يحافظ القائد على هدوئه، عليه أن يعتاد على معالجة الأمور المفجعة وكأنها عادية، بدلاً من معالجة الأمور العادية وكأنها فواجع «، ويقول كذلك: » على القائد الذي يود أن يكون أهلاً للقيادة أن يبدأ بقيادة نفسه ولا يمكن لمن لا يسيطر على نفسه أن يسيطر على الآخرين « .
إن استقبال أي حدث مهما كانت درجة عظمته بهدوء وضبط نفس يمكّن المسئول والقائد من عدة أمور منها:
أولاً: استيعاب الحدث بمعرفة حجمه الحقيقي، فكم من موقف استقبلناه بشدة وغلظة بينما هو أبسط وأصغر من أن يواجه ويستعد له على حساب أمور أخرى- والعكس صحيح فكم من حدث ظهر لنا بسيطاً فلم يحسب له أي حساب فلما تبين لنا أنه كبير ويحتاج إلى موقف سريع منا لم نتمكن من استيعابه، ففي كلا الحالتين ضبط النفس وهدوءها يعين القائد على دراسة حجم الأحداث.
ثانياً: استيعاب الحدث بمعرفة مسبباته، الأسباب التي من شأنها أن تؤدي إلى وقوع الحدث يعين على معرفة أفضل المواقف التي ينبغي اتخاذها.
ثالثاً: استيعاب الحدث بمعرفة أبعاده المستقبلية، فما من حدث إلا وله ما وراءه، والهدوء وضبط النفس مما يعين القائد على الاستعداد لمواجهته بعقلية الواعي لما يدور حوله.
ففي غزوة حنين نفسها غنم المسلمون غنائم كثيرة جداً، فأعطى رسول الله - r- من هذه الغنائم أعطيات كبيرة للمؤلفة قلوبهم من أهل مكة وبعض زعماء الأعراب، فوجد الأنصار في أنفسهم شيئاً؛ لأن رسول الله - r- لم يعطهم، وظنوا أنه قسّمه في قومه، فجمعهم رسول الله - r- في مكان وخاطبهم قائلاً: ) يا معشر الأنصار، مقالة بلغتني عنكم، وموجدة وجدتموها علي في أنفسكم، ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله، وعالة فأغنكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟ قالوا: بلى، لله ولرسوله المن والفضل! ثم قال: ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟ قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ولرسوله المن والفضل.
قال - r-: (أما والله لو شئتم لقلتم، فلصدقتم ولصدقكم: أتيتناك مُكَذِّباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك).
أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم! ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذى نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار، ولو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار! اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار.
قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسماً وحظاً.
يقول صاحب كتاب فن القيادة: » يوحي الهدوء بأن صاحبه ذو إرادة لا تتحول عن هدفها وتسبب نظرة الرئيس الهادئة العميقة شعوراً من القلق لدى المشاغبين ومثيري المشاكل من المرؤوسين، وإحساساً غريزياً بأنهم أمام قوة لا تقهر«.[1]