أهمية الموارد البشرية في تنمية القدرات التنافسية للمنظمة:
لقد "وهب" الله سبحانه وتعالى للإنسان ميزة العقل والتفكير، ومن ثم تبين للإدارة المعاصرة أن المصدر الحقيقي لتكوين القدرات التنافسية واستمرارها هو "المورد البشري" الفعال، وأن ما يتاح لديها من موارد مادية ومالية وتقنية ومعلوماتية، وما قد تتميز به تلك الموارد من خصائص و"إن كانت شرطاً ضرورياً لإمكان الوصول إلى تلك القدرة التنافسية، إلا أنها ليست شرطاً كافياً لتكوين تلك القدرة لذلك لا بد من توفر العمل البشري "المتمثل في عمليات التصميم والإبداع الفكري، التخطيط والبرمجة، التنسيق والتنظيم، الإعداد والتهيئة، التطوير والتحديث، التنفيذ والإنجاز، وغيرها من العمليات التي هي من إنتاج العمل الإنساني و بدونها لا يتحقق أي نجاح مهما كانت الموارد المتاحة للمنظمة، لكن توافر هذا العنصر البشري أو تواجده ليس كافياً لضمان تحقيق الأهداف المتوخاة للمنظمة أو تحقيقها لقدرة تنافسية، بل وجب تنمية قدراته الفكرية وإطلاق الفرصة أمامه للإبداع والتطوير وتمكينه من مباشرة مسؤولياته حتى تثيره التحديات والمشكلات وتدفعه إلى الابتكار والتطوير، إذاً، ما تتمتع به تلك الموارد البشرية من مميزات وقدرات هي التي تصنع النجاح المستمر، ووضع تلك المبتكرات والاختراعات في حيز التنفيذ.
والسؤال الذي يمكن طرحه هنا هو: ما هي الدواعي "الأسباب" التي أدت إلى تغيير توجهات أو نظرة الإدارة العليا إلى العنصر البشري.
- دواعي تغيير نظرة المنظمة المعاصرة للعنصر البشري:
قبل سنوات قليلة كان الاهتمام بشؤون الموارد البشرية ينحصر في عدد قليل من المتخصصين الذين يعملون في قسم يطلق عليه "قسم أو إدارة الأفراد والموارد البشرية" يختصون بكافة المسائل الإجرائية المتصلة باستقطاب الأفراد وتنفيذ سياسات المؤسسة في أمور المفاضلة والاختيار بين المقدمين لشغل الوظائف، ثم إنهاء إجراءات التعيين وإسناد العمل لمن يقع عليه الاختيار، وكانت مهام إدارة الموارد البشرية تشمل متابعة الشؤون الوظيفية للعاملين من حيث احتساب الرواتب، ضبط الوقت، تطبيق اللوائح في شأن المخالفات التي قد تصدر منهم، وتنفيذ إجراءات الإجازات على اختلاف أنواعها، مباشرة الرعاية الطبية والاجتماعية وتنفيذ نظم تقييم الأداء وأعمال التدريب والتنمية التي يشير بها المديرون المختصون، ثم متابعة إجراءات إنهاء الخدمة في نهاية التقاعد وغيرها من الإجراءات الروتينية.
فالإدارة العليا في معظم المؤسسات لم تولي المورد البشري الاهتمام المناسب ولم تهتم بتنمية قدراته الإبداعية وجعله الركيزة الأساسية لتحقيق التفوق التنافسي. ومن الأسباب التي أدت إلى هذا القصور:
§ حالات الاستقرار الاقتصادي النسبية والنمو المتواصل في الكثير من المؤسسات دون مشكلات كبيرة.
§ المستويات المعتادة من المنافسة، وتعادل المراكز والقدرات التنافسية لكثير من المؤسسات.
§ حالات الاستقرار التقني النسبية وتواضع المهارات والقدرات البشرية المطلوبة للتعامل مع التقنيات السائدة.
ففي تلك الظروف المتصفة أساساً بالاستقرار لم يمثل الحصول على الموارد البشرية المطلوبة مشكلة، كما أن مستويات المهارة المطلوبة لم يكن يتطلب عناية خاصة في محاولات البحث عن الموارد البشرية أو التعامل معها.
ولقد سادت هذه الظروف في كثير من دول العالم لفترات طويلة خلال فترة النهضة "الثورة" الصناعية التي تمتع بها العالم الغربي وانتقلت نسبيا إلى بعض دول العالم العربي، ففي تلك الظروف كانت أهم المشكلات التي تُعني بها الإدارة العليا في المؤسسة الاقتصادية هي تدبير الموارد المالية اللازمة، وتنميط أساليب الإنتاج وتحقيق مستويات أعلى من الميكنة "آلات" تحقيقاً لمستويات أعلى من الانتاجية. ومع تنامي السوق لم تكن حتى عمليات التسويق تثير اهتمام الإدارة العليا التي كان همها الأول "كما قلنا" هو الانتاج (يلاحظ أن الكثير من المؤسسات العربية لا تزال تسير وفق هذه الفلسفة التي ترى الإنتاج مشكلتها الأولى، وترى في العنصر البشري عامل من عوامل الإنتاج يخضع لنظم ولوائح وإجراءات لأداء المهام المنوطة "المسندة إليه" لا تترك له فرصة للتفكير أو الإبداع أو حرية اتخاذ القرار).
لكن تلك الظروف لم تدم على هذا النحو، فقد أصاب العالم كله حالات من التغير المستمر والمتواصل والعنيف ذو التأثير على هيكلة الموارد البشرية وقدراتها ولعل أبرز تلك التغيرات:
أ- التطورات العلمية والتقنية وانتشار تطبيقاتها خاصة تقنيات المعلومات والاتصالات والتي يتطلب استيعابها وتطبيقها كفاءة تتوفر في نوعيات خاصة من الموارد البشرية.
ب- تسارع عمليات الابتكار والتحديث للمنتجات والخدمات والاهتمام المتزايد بتنمية المهارات الابتكارية والإبداعية للعاملين وإتاحة الفرصة أمامهم للمساهمة بأفكارهم وابتكاراتهم لتنمية القدرات التنافسية للمؤسسة.
ج- اشتداد المنافسة واتساع الأسواق وتنامي الطلب "الأمر الذي استوجب وجود مختصين" في مجالات البيع والتسويق والترويج لمواجهة تلك الهجمات التنافسية.
د- ظاهرة العولمة وانفتاح الأسواق العالمية أمام المنظمات مع تطبيق اتفاقية الجات وظهور منظمة التجارة العالمية ودورها في تحرير التجارة الدولية من خلال إزالة العوائق الجمركية في تحرير التجارة الدولية، هذا الأمر أوجد هو الآخر احتياجاً متزايداً لنوعية جديدة من الموارد البشرية تتفهم الثقافات المختلفة وتستوعب المتغيرات المحلية في الأسواق الخارجية.
ه- ارتفاع مستوى التعليم وتطور مهارات البشر ذوي المعرفة المتخصصة في فروع العلم والتقنية الجديدة والمتجددة والذين أصبحت المنظمات تسعى إليهم لأهميتهم في تشغيل تلك التقنيات وصيانتها. ومن ثم اكتساب القدرة التنافسية.
تلك التغيرات كانت السبب الرئيسي في تغيير نظرة المؤسسة المعاصرة إلى الموارد البشرية وبداية التحول نحو اعتبارهم المصدر الأساسي للقدرات التنافسية وأكثر الأصول أهمية وخطورة في المؤسسة وبذلك بدأت الإدارة المعاصرة تبحث عن مفاهيم وأساليب جديدة لإدارة الموارد البشرية تتناسب مع أهميتها وحيوية الدور الذي تقوم به.
أسس تنمية القدرات التنافسية للموارد البشرية:
باعتبار المورد البشري هو الذي يعمل على تفعيل واستثمار باقي الموارد المادية والتقنية الأخرى في المنظمة وأن نجاح المنظمة يعتمد بالدرجة الأولى على نوعية هذه الأخيرة "مواردها البشرية" فإنه من الضروري أن توجه جميع جهود المؤسسة في سبيل تطوير وتنمية هذا المورد من أجل الوصول به إلى حد الامتياز.
لكن قبل التعرض إلى المداخل التي تساهم في تطوير الموارد البشرية نستعرض مفهوم الموارد البشرية أو لِمَا وجب أن يتوفر في الموارد البشرية لكي تساهم في تحقيق التفوق التنافسي. أو لكي نقول عنها أنها متميزة.
بشكل عام لكي تساهم الموارد البشرية في نجاح وتفوق المؤسسة وجب أن تتوفر فيها الصفات التالية:
- أن تكون نادرة أي غير متاحة للمنافسين، بمعنى أن يتوفر للمؤسسة موارد بشرية نادرة المهارات والقدرات ولا يمكن للمنافسين الحصول على مثلها، كأن تتوفر لدى هذه الموارد البشرية القدرة على الابتكار والإبداع وقبول التحديات والمهام الصعبة والقدرة على التعامل مع تقنيات مختلفة.
- أن تكون الموارد البشرية قادرة على إنتاج القيم "Valeur" من خلال تنظيم غير المسبوق "sans précédent" وتكامل المهارات والخبرات ومن خلال القدرات العالية على العمل في فريق.
- أن يصعب على المنافسين تقليدها، سواء بالتدريب والتأهيل، ولعل ما يذكر عن الموارد البشرية اليابانية هو نوع من الموارد التي يصعب تقليدها إذا تعرف على أنها مرتبطة بالمؤسسات التي تعمل فيها ارتباطاً وثيقاً يعبر عنه بفكرة التوظف الدائم، فتعتبر هذه الحالة فريدة من نوعها، لا تكرر بسهولة في غير المؤسسات اليابانية.
لكن لكي تمتلك المؤسسة هذه الموارد البشرية المتميزة يجب أن توفر مجموعة من المتطلبات "الأسس" التي يمكن حصرها في هذه النقاط:
1- التدقيق في اختيار العناصر المرشحة لشغل وظائف تسهم في قضية بناء وتنمية وتوظيف القدرات التنافسية بوضع الأسس السليمة لتقدير احتياجات المنظمة من الموارد البشرية وتحديد مواصفات وخصائص الأفراد المطلوبين بعناية. إلى جانب التأكد من توافق التكوين الفكري والنفسي والاجتماعي والمعرفي للأشخاص المرشحين مع مطالب هذه الوظائف وتمتعهم بالسمات والخصائص التي بيناها سابقا، من خلال تنمية وسائل ومعايير فحص المتقدمين للعمل في المفاضلة بينهم لاختيار أكثر العناصر توافقا مع احتياجات المؤسسة
وفي هذا الصدد نذكر أن أمام المؤسسة خيارين فيما يخص استقطاب الموارد البشرية فإما أن تجري عمليات البحث والاستقطاب ذاتياً بإمكانيات المؤسسة وأساليبها الخاصة، أو إسنادها إلى مكاتب البحث والاستقطاب ومراكز التقييم المتخصصة.
2- الاهتمام بتدريب الموارد البشرية بمعنى أشمل وأعمق مما كانت تتعامل به إدارة الموارد البشرية التقليدية، أي عدم انحصارها على الأفراد الذين يبدون قصور في مستويات أدائهم، بل يجب أن يشمل جميع أفراد المنظمة مهما كان سنهم، ومهما كان مستواهم المعرفي والوظيفي؛ أي جميع أفراد المنظمة لا على التعيين.
وقد تبين منهجية إدارة الموارد البشرية الاستراتيجية أن تفعيل التدريب وجرعات تنمية الموارد البشرية لا تتحقق بمجرد توجيهها وتركيزها على الأفراد القائمين بالعمل، وإنما لا بد من أن تتناول جهود التنمية المنظمة ذاتها وذلك من خلال تحويلها إلى منظمة تتعلم حتى تهيئ الفرص للعاملين فيها بالتعلم وتتميز معارفهم في تطوير الأداء.
ولكي تضمن المؤسسة ذلك يجب أن تكون في ارتباط مستمر مع الجامعات ومراكز البحث وحتى المؤسسات الرائدة لكي يتسنى لها الحصول على المعارف الجديدة.
3- ترسيخ روح التعلم لدى الأفراد وإتاحتهم الفرص للمشاركة في المؤتمرات والندوات العلمية والمهنية المختلفة وتطبيق نظام يقضي بتحمل المنظمة عنهم رسوم الاشتراك في تلك المؤتمرات والندوات ورسوم العضوية في الجمعيات والهيئات العلمية والمهنية. فضلاً عن تيسير فرص استكمال الدراسات العليا والمتخصصة مع تحمل نفقات عنهم، كلها أو جزء منها وعلى حساب وقت المؤسسة.
4- تنمية واستثمار الطاقات الفكرية والقدرات الإبداعية للأفراد وتوفير الفرص للنابهين "الممتازين" منهم لتجريب أفكارهم ومشروعاتهم الخلاقة، والعمل بمبدأ الإبتكار أو الفناء.
نذكر هنا أن المؤسسات الأكثر نجاحاً في العالم المتقدم تحاول أن تجعل من كل فرد رجل أعمال في ذاته وليس مجرد موظف يؤدي أعمال روتينية بل هو يفكر ويبتكر ويشارك في المسؤولية ويتحمل المخاطر.
5- تنمية أساليب العمل الجماعي وتكريس روح الفريق للموارد البشرية في المؤسسة وضرورة توفير المناخ المساند لتنمية الاتصالات الإيجابية والتواصل بين شرائح العاملين المختلفة وتحقيق أسس الانتماء والولاء للمنظمة.
6- مراجعة هيكل الرواتب والتعويضات المالية وإجراء المقارنات مع المستويات السائدة في سوق العمل، وفي هذا المضمار يمكن الإتاحة للعناصر البشرية الفرصة في المشاركة في عوائد إنتاجهم الفكري بتطبيق نظم المشاركة في الأرباح وتوزيع أسهم مجانية، لتحفيزها وتنمية اهتمامها بالعمل.
7- فتح قنوات الاتصال وتسيير تدفقات المعلومات والمعرفة بين قطاعات وجماعات العمل المختلفة لتحقيق الفائدة الأعلى الناشئة من هذا النمو المتصاعد للمعرفة نتيجة التداول والتعامل فيها، باعتبار أن ما يفرق المعرفة على الموارد الأخرى التي تتاح لدى المؤسسة هو أنها لا تنقص ولا تهتلك بالتداول، بالعكس فهي تنمو وتتطور كلما زاد انتشارها وتداولها بين الأفراد.
إلى جانب هذا نذكر أهمية تهيئة الفرص للعاملين للمشاركة في اقتراح الاستراتيجيات وتطوير النظم وتأمين مناخ من الانفتاح الفكري الذي يحفز العاملين على التفكير والإبداع والمساهمة بالأفكار في إثراء القاعدة المعرفية للمنظمة.
8- تطبيق نظام إدارة الأداء ومن ثم الاهتمام بجميع عناصره البشرية والمادية والتقنية والتصميمية في إطار متناسق ومتكامل والاهتمام بقضية مهمة جداً ألا وهي مراعاة الأبعاد الثقافية والاجتماعية للموارد البشرية واختلاف مستوياتهم الفكرية، وأخذ هذه الفروق في الاعتبار عند تصميم الأعمال وإعداد خطط الأداء وتحديد معايير التقييم.
إلى جانب تزويد العاملين بالمعلومات المتجددة، عن طريق التدريب أو الاجتماعات الدورية بين العاملين والرؤساء والكشف عن أفكار جدية لتحسين فرص الأداء حسب الخطط المعتمدة.
9- ومن أجل تنسيق جهود تلك الموارد البشرية متنوعة الخبرات والكفاءات والاهتمامات، وضمان توجيهها جميعا صوب الأهداف المحددة وفق الأساليب والأولويات المعتمدة وجب التركيز على عنصر مهم في عناصر الموارد البشرية ألا وهو القائد الإداري، الذي يختص في ممارسة وظائف التوجيه، المساندة والتنسيق ولتقييم وغيرها من الوظائف، والذي يلعب دور الرائد في تهيئة الدخول إلى عصر المتغيرات واستكمال مقومات التميز.
فالقائد ليس الفرد الذي يفرض سلطته على العمال لأداء عملهم بل هو الذي يوجه ويطور وينمي قدرات الموارد البشرية. إذاً هو مدير أعمال بحد ذاته، يسير الأفكار والقيم، إذا وجب تغيير النظرة إليه أو إلى القيادة الإدارية ككل، واعتبارهم مدربين ومساندين ورعاة للعاملين وليسوا رؤساء ومسيطرين.
كان التصور في الماضي أن من يقدمون المساهمات المالية لتكوين الشركات ومنظمات الأعمال هم أصحاب رأس المال، ولكن الواقع الجديد يطرح حقيقة أخرى أهم، وهي أن من يملك المعرفة يملك المنظمة. إن رأس المال الفكري يقدمه أصحاب المعرفة، فهم أصحاب رأس المال الحقيقي والأهم.
وبذلك حين تتعامل إدارة الموارد البشرية مع أفراد المنظمة يجب أن ينطلق هذا التعامل من تلك الحقيقة، أن العاملين ليسوا أجراء يعملون لقاء أجر ولا يمثلون عامل من عوامل الإنتاج، وإنما على أنهم مصدر للأفكار والأداة الرئيسية للتغيير ولتحويل التحديات لقدرات تنافسية بفضل المعرفة والقدرة الإبتكارية أو الإبداعية التي يمتلكونها، لذا يفترض بالمنظمة تنمية قدرات الأفراد وتحفيزهم على التطوير والإثراء في أدائهم، وذلك بهدف تفعيل مساهمات العنصر البشري في تحقيق الأهداف المتوخاة للمنظمة، فعلى هذه الأخيرة أن تدرك بأن اللعبة التنافسية ليست اختياراً، بل هي ضرورة حتمية تمليها عليها الظروف الجديدة، وعليها التعامل مع قواعد هذه اللعبة والتي تقوم أو تستند في الأساس على أهمية العنصر البشري.