المقصود من التربية الصحية : وضع الخبرات الصحية المتعددة في أنماط وقوالب سلوكية، بهدف التأثير الإيجابي على أفراد المجتمع والرفع من مستواهم في عاداتهم واتجاهاتهم ومعارفهم، مع توفير الخدمات الصحية الوقائية والعلاجية اللازمة للجميع، بحيث يستمتع كل فرد - ذكراً كان أو أنثى - بحقه من الصحة العامة الشاملة للكيان الإنساني بجوانبه المختلفة، فإن " مفهوم الصحة في الإسلام لا يقتصر على الصحة الجسمية … بل يشمل الصحة الجسمية والنفسية والعقلية أيضاً "، فالنمو الإنساني يستوعب كل نواحي الشخصية بأبعادها المختلفة، فالفرد لا يتحرك في الحياة، وتفاعلاتها مجزَّأ؛ إنما يتحرك بكليته، والخطاب القرآني واضح في تعامله مع الفرد ككيان إنساني متكامل، حيث يُمثِّل البعد النفسي عند الإنسان أشرف وأغرب جانب في طبيعته المتميِّزة عن طبيعتي الحيوان والنبات، فرغم اليقين بوجود النفس كجزء رئيس في الكيان الإنساني، وثبات طبيعتها الفطرية، فإنها مع ذلك أكثر جوانب الإنسان غموضاً، وأعظمها خفاء. ومذهب الجمهور في حقيقتها أنها : " جسم نوراني علوي خفيف، حيٌّ ينفذ في جوهر الأعضاء، ويسري فيها سريان الماء في الورد، والنار في الفحم "، فهي جوهر روحاني لطيف قائم بنفسه، وهي مع ذلك مخلوقة من مخلوقات الله تعالى، تموت وتفنى كغيرها من المخلوقات، فهي ليست عنصراً إلهياً في طبيعة الإنسان كما يظن بعضهم، وصحتها تكمن في توافقها التام والمتكامل " مع وظائفها المختلفة، مع القدرة على مواجهة الأزمات العادية التي تطرأ عادة على الإنسان، مع الإحساس الإيجابي بالسعادة والكفاية ".

وأما البعد الجسمي الذي يمثل الأساس الثاني في هذا الكتاب فهو أوضح جوانب الإنسان ظهوراً، وأبلغها بروزاً في الطبيعة الإنسانية؛ لكونه مادي الأصل والنشأة والتكوين، حيث تعود طبيعته المادية إلى عناصر الأرض ومكوناتها، حتى إن الفلاسفة الماديين لفرط استفحال نشوز الطبيعة المادية في الكيان الإنساني ظنُّوا أن الإنسان لا يعدو أن يكون ظاهرة مادية كيميائية، حتى " إن العلوم الاجتماعية الحديثة تبدو وكأنها قد عقدت العزم، وجمعت الهمة على أن لا ترى في الإنسان إلا كيانه المادي … وأن تعتبر أن الإنسان لا يمثل إلا امتداداً تطورياً لعالم الحيوان، مما دفع بعضهم في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي نحو استخدام قواعد المنهج العلمي للعلوم التطبيقية على العلوم الاجتماعية، في حين " يتفق الباحثون على أن التقدم في العلوم الإنسانية لا يمكن قياسه بالمعايير نفسها التي تطبق على العلوم الطبيعية "، كما أن البعد الجسمي بكل مظاهره البارزة المحسوسة لا يعدو أن يكون جانباً من جوانب الطبيعة الإنسانية المتعددة الأبعاد، وليس هو الجانب الوحيد في بناء الشخصية الإنسانية، وصحته المنشودة تكمن في : " توافقه التام بين وظائفه المختلفة، مع القدرة على مواجهة الصعوبات العادية المحيطة به، والإحساس الإيجابي بالنشاط والقوة والحيوية "، والهدف من تربيته ورعايته : " الوصول بالفرد إلى الكمال الجسماني، بحيث يكون خالياً من الأمراض والعاهات، وفي حالة يكتمل فيها الشعور بالكفاية البدنية، مع رصيد من الصحة يمكِّنه من التغلب على المرض إذا ما انتابه، وأن يكون لديه القدرة على استخدام أجهزة الجسم استخداماً يوفر من طاقتها، ويزيد من مهارتها ".

وأما البعد الجنسي، فمع كونه أدنى الأبعاد الإنسانية شرفاً، ودونها مكانة إلا أنه من أشدها عنفاً وعدوانية، وأكثرها تأثيراً في الكيان الإنسان الكلي، إلى جانب أنه من أعظم الظواهر الأساسية والمحورية في حياة الأفراد والشعوب، ومن أكثرها إزعاجاً للمجتمع، ومن أبلغها فتنة وإضلالاً، خاصة عند الأنثى البالغة، حتى إن البعض جعله مقياساً لصدق الأخلاق، وسلامة السلوك؛ ولهذا عقد الغرب عدة مؤتمرات خلال منتصف القرن العشرين الميلادي يؤكدون فيها على ضرورة رعاية القيم الأسرية، ومحاربة الانحرافات الخلقية، وتضييق فرص الممارسات الجنسية المنحرفة، مع ضرورة التحفظ في القضايا الجنسية، وهذا يدل على خطر هذا الجانب من كيان الإنسان، والحاجة الملحة للتربية الجنسية ضمن المفهوم الإسلامي.

وأما الصحة الجنسية فتكمن في حصول درجة الإشباع والكفاية المشروعة الواقية من الوقوع في الانحراف المُوجب للحد أو التعزير، وأما الهدف من السلوك الجنسي فخدمة النوع الإنساني من خلال التناسل والتكاثر.

إن صحة هذه الأبعاد، وسلامة نموها، واستمرار أدائها الحيوي مع باقي جوانب الكيان الإنساني ضمن منهج التربية الإسلامية هي القاعدة الكبرى في مجال التربية الصحية للناشئ المسلم، وما لم تنضبط هذه الأبعاد، وتتوازن نزعاتها ضمن التصور الإسلامي المحكم، فإن الفراغ النفسي، والاستفحال المادي، والانحراف الخلقي، بما تحمله من صنوف المعاناة هو مصيرالإنسان المحتوم، ومن ثم مصير المجتمع كله. 

من أصول الشريعة وضرورياتها المحافظة على ذات الإنسان روحاً وجسداً؛ لأن الجسد مرْكَبٌ لقوى الإنسان الباطنة، فلا يصح لأحد أن يتعدى على نفسه بالضرر، وحتى من صاحبها نفسه؛ فقد قال الرسول e : ((… لجسدك عليك حقاً ))، وقد ثبت يقيناً أن هناك علاقة قوية بين صحة الجسد من جهة، وبين العمليات العقلية المختلفة من جهة أخرى، فقد قال الحكماء : " الخلق المعتدل، والبُنية المتناسبة : دليل على قوة العقل، وجودة الفطنة "، فالحاجات العليا في الإنسان ممثلة في مختلف العمليات العقلية لا يمكن أن تعبِّرعن نفسها بصورة صحيحة متكاملة ما لم تُشبع أولويات حاجات الإنسان الجسدية الأساسية، كما أن للنشاط العقلي المُفْرط قوة تأثيرية يمكن أن تضرَّ بالجسد الضعيف، وتفتك به.

إن أعظم قوى البدن أهمية لتنمية مواهب الإنسان العقلية هي الحواس؛ لأنها وسائل المعرفة، ومعبرها الوحيد إلى العقل، فإن التفكير يعتمد على مصدرين للمعرفة، الأول : غيبي مصدره الوحي، والثاني : مُشاهد معْبره الحواس، فالعقل لا يولِّد المعارف من عنده؛ إنما يستمد من العالم المحيط به بواسطة الحواس المادة العلمية التي تقوم عليها معرفته العقلية، وتفاعلاته الذهنية، فالحواس روافد العقل من المعرفة، فإن عجزت أو ضعفت عن ذلك، قلَّت بقدر ضعفها وعجزها معارف الإنسان وعلومه.

ومن هنا تظهر أهمية الرعاية الصحية العامة لقوى الإنسان الجسمية، والرعاية الصحية الخاصة لقوى الحواس : السمع، والبصر، واللمس، والذوق، والشم؛ لكونها روافد معرفة الإنسان لعالم الشهادة، وبالتالي هي وسيلته لنمو مواهبه العقلية، وازدهار ملكاته الذهنية التي خصَّه الله تعالى بها.

 

ويحترم التصور الإسلامي بدن الإنسان، فلا يعتبره شراً ولا منبوذاً ولا محتقراً، فهو " وعاء الطاقة الحيوية العاملة النشيطة التي تُعمِّر الأرض، وتستخرج كنوزها، وتستغل طاقاتها "، وعلاوة على ذلك فإن الجسم : مَرْكَب كيان الإنسان الكلي، ووسيلته المهمة للقيام بأعباء التكاليف الشرعية من العبادات، والمعاملات ونحوهما، فصلاحه : صلاح للدين، كما أن فساده: فساد للدين؛ فالصلاة - كمسؤولية عبادية مستمرة ومتتابعة لا تنفك عن المكلَّف - رغم أنها روحية الطابع إلا أنها مفتقرة إلى الجسد في الطهارة والحركة، وإلى العقل في التركيز والتمعُّن، وإلى القلب في النية والمقصد، فهي رغم طابعها الروحي المستتر فإنها - مع ذلك - تستوعب في الوقت الواحد، في كل لحظات أدائها جميع كيان الإنسان بأبعاده المختلفة، بحيث تختل هذه العبادة، أو ينقص فضلها بقدر اختلال أحد هذه الأبعاد الإنسانية، أو غيابه.

وكذلك الصيام الذي يستهلك من المكلَّف عصارة قواه البدنية والشهوانية، والحج والعمرة اللذان عدَّهما رسول الله e ميداني جهاد النساء البدني، كل هذه العبادات ونحوها مفتقرة إلى قوى الجسد السليم، القادر على القيام بأعباء التكاليف المفروضة، فلا بد أن ينال الشاب - كعضو إنساني مكلَّف - نصيبه من الرعاية الصحية الجسمية التي تؤهله للقيام بأركان العبادات المفروضة، وتُساعده على الاستزادة الوافرة من نوافلها المستحبة والمندوبة، وفي هذا تقول التابعيَّة الفاضلة حفصة بنت سيرين عن العبادة في زمن الشباب : ((يا معشر الشباب خذوا من أنفسكم وأنتم شباب، فإني ما رأيت العمل إلا في الشباب)).

إن الشخصية الإنسانية بكل مقوماتها المادية والمعنوية وجوانبها المتعددة لا تزيد على أن تكون نتاجاً لمجموع المؤثرات البيئية : الاجتماعية منها، والفيزيقية، وما زالت البيئة المادية بمتغيراتها المختلفة التي تحيط بالإنسان، وتحاصره بنفوذها من كل جانب : تُؤثر فيه كأبلغ ما يكون، حتى تعمل عملها في صحته الجسمية، وسلامته العقلية، وراحته النفسية. وحتى الجانب الخلقي الذي يبعُد عن الذهن تأثُّره بالبيئة الفيزيقية؛ فإن لها في هذا الجانب تأثيرها الفعَّال في الإنسان كأشد ما يكون حتى ينطبع بطابعها، ويتصف بصفاتها، وفي الحديث : (( من بدا جفا ))، وفي رواية أخرى : (( من سكن البادية جفا ))، يعني غلُظ طبعه، بمعنى أنه تأثر ببيئته، وانطبع بطابعها.

ولما كان للبيئة المادية هذا التأثير البالغ في كيان الإنسان : جاءت التوجيهات الرَّبانية " بحتمية المحافظة عليها، وعدم استنزافها، أو تلويثها، أو سوء التعامل معها، بمعنى تحسين العلاقات البيئية، والقضاء على مشكلاتها، بما في ذلك علاقة البشر مع الطبيعة … بهدف إيجاد نوعية أفضل للبيئة، وتحسينها، والارتقاء بها … في إطار المعايير والتشريعات التي قررها الإسلام "، حيث حمَّل الإنسان المكلَّف - ذكراً كان أو أنثى - المسؤولية الخلقية تجاه البيئة العجماء بنوعيها : الحي والميت، فحدد مجالات الإفادة من الثروة الحيوانية، وطرق التعامل معها، بما يخدم الصحة الإنسانية، ووجَّه للعناية بالثروة النباتية، فرغَّب المحسن في ذلك بالثواب، وهدَّد المسيء بشديد العقاب، وأحكم طرق الإفادة من ثروات الأرض وكنوزها، وضبط أساليب التعامل مع مواردها المائية، وفجاجها المطروقة، ومواقع تجمعات الناس؛ بما يحفظ للبيئة سلامتها، ونقاءها مما يضر بصحة الإنسان الجسمية، وقواه البدنية، حتى اعتبر إماطة الأذى عن الطريق من الإيمان، واعتبر في الجانب الآخر مجرَّد البصق في المسجد خطيئة. وكل ذلك في الوقت الذي لم تعرف فيه أوروبا أهمية العناية بصحة البيئة إلا في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، وفي الوقت الذي لم تعرف فيه البشرية عبر التاريخ تلوُّثاً بيئياً كالذي تعاني منه اليوم، في ظل الأنظمة السياسية الظالمة، والتجمعات الاقتصادية الجائرة، حيث يعاني الشباب من الجنسين - ضمن معاناة الأمة العامة - آثار التلوث البيئي، خاصة في الدول النامية، ولا سيما على النساء رغم الأهمية البالغة لسلامة النساء الصحية -بصورة خاصة- للقيام بمهامهن الأساسية في الحمل، ورعاية النسل.

" وعلى الرغم من هذه الضجة التي أثيرت حول تلوث البيئة، وتسارع الدول إلى اتخاذ وسائل السلامة، واصطناع سبل الأمان، إلا أن التلوث يزداد يوماً بعد يوم، ويكتسح البر والبحر، ويفسد الماء والهواء، ويُهلك الحرث والنسل "، وكل ذلك بما اقترفته يد الإنسان، بسبب جشعه وإهماله، وصدق الله العظيم إذا يقول : { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [الروم:41].

 

المصدر: عدنان بحارث .
ahmedkordy

خدمات البحث العلمي 01009848570

  • Currently 186/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
62 تصويتات / 4154 مشاهدة
نشرت فى 11 أغسطس 2010 بواسطة ahmedkordy

أحمد السيد كردي

ahmedkordy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

29,882,928

أحمد السيد كردي

موقع أحمد السيد كردي يرحب بزواره الكرام free counters