مقدمة بقلم الاعلامي القدير الاستاذ فاروق شوشة 

حين قُدِّر لجيلنا العمل بالإذاعة المصرية، مذيعين ومقدِّمي برامج، كنّا نعتبر أنفسنا محظوظين، لأننا سوف نتلقى أصول العمل وتقاليده على أيدي أجيال سبقتنا، ستصبح بمثابة الأساتذة لنا.كانت دفعتي تضمُّ الزميلات والزملاء جمالات الزيادي وصبري سلامة وحسين شاش وعبد العال هنيدي وجمال توكل - الذي ظل طيلة حياته الإذاعية يعمل في إذاعة الإسكندرية حتى أصبح رئيسًا لها - وسهير الحارتي التي تخصصت في العمل الثقافي من خلال البرنامج الثاني، البرنامج الثقافي الآن.وبدأت القطرات الأولى، للعلم والفن الإذاعي، تصلنا ونحن تحت التدريب في استديو الهواء، نتابع ونشاهد كيف يتصرف الكبار، وطريقة كل منهم في الأداء، وكيف يواجه المواقف المفاجئة، وما أكثرها، وحرصه على المراجعة الدقيقة لكل مادة إذاعية سيقوم بقراءتها، والاهتمام بكتابة ملاحظاته على ما يذاع. كانت أسماؤنا توضع في جدول المذيعين بين قوسين، إشارة إلى أننا لا نشارك ولا يحق لنا الكلام، واستمر صمتنا عامًا كاملاً، نألف فيه جوّ الاستديو، وتكبر فيه علاقتنا بالميكروفون ونحن نفتحه ونغلقه للزملاء الكبار، ونلعب أسطوانات الأغاني من الاستديو، ونتفنن في اكتساب مهارات إذاعة الأسطوانة ذات الوجهين دون أن يُحسّ المستمع أنه قد انتقل من أحد الوجهين إلى الآخر.ولم تكن علاقتنا بجيل الكبار علاقة محاكاة أو تقليد، كنا نلتقط من كل منهم صفة أو سمة أو ملمحًا، دون أن نفكر في أن نكون صورة منهم، وإلا طمست شخصياتنا، وأصبحنا مجرد صدًى لهم، وقد ظل حرصنا على هذا التفرد، يجعلنا نقترب لنتعلم، ثم نبتعد ليُخرج كل منا أفضل ما لديه. كان الكبار - في زماننا الإذاعي - لا يبخلون بنصح أو توجيه، ولا يضنون بنقل خبراتهم وتجاربهم إلينا، وسرعان ما نمت العلاقات الوثيقة والصداقات الحميمة، بيننا وبينهم، وأزالت الألفة في العمل المشترك حاجز الرهبة، فكنا نسألهم باستمرار، وكانوا يجيبوننا دون تردد أو ضيق.أذكر أني قصدت ذات يوم الإذاعي الرائد محمد محمود شعبان (بابا شارو) أطلب إليه أن أكون واحدًا من مساعديه في الإخراج، وكان وقتها يخرج حلقات ألف ليلة وليلة ومن بعدها حلقات الأغاني للأصفهاني، وعندما حدثته برغبتي ابتسم، وسألني عما إذا كنت أرغب في ترك قسم المذيعين لأعمل بمجال الإخراج، فلما أجبته بأن عمله في الإخراج يشدني إلى الاقتراب منه، ومحاولة الإفادة من فنه العالي. هزّ رأسه بعد أن تأكد من حرصي على البقاء مذيعًا، وطلب مني أن أبدأ بإحضار المؤثرات الصوتية والموسيقى التصويرية التي سيستخدمها في التسجيل، وصولاً إلى مرحلة  مراجعة الاسكريبت الإذاعي مع الممثلين، وتصحيح نطق الكلام وضبطه من الناحية اللغوية، قبل أن يتهيأ لممارسة الإخراج بنفسه، وإلقاء تعليماته وأوامره ونواهيه في أثناء التسجيل. وسرعان ما اكتشف كل منا طريقه في عمله الإذاعي - نحن أبناء الدفعة الواحدة عام 1958. كنت أكثر اهتمامًا بالجانب الأدبي والثقافي، الذي تحقق من خلال برامج مثل: "روائع الشعر" و"نافذة على الفكر" و"حياتنا الثقافية" و"زهور وبراعم"، وكان زميلي صبري سلامة أكثر ميلاً إلى البرامج المستوحاة من الفن الشعبي بعالمه المتنوع، وكان حسين شاش أكثرنا اهتمامًا بالجانب الإخباري والسياسي من العمل الإذاعي وهكذا . كان لكل منا آلته التي يعزف عليها، لكن التناسق بين كل هذه الآلات، والميول، جعل منها أوركسترا إذاعيًّا واحدًا، أفاد فيه كل منا، من استعداده الفطري أولاً، ثم من دراسته وثقافته وتخصصه، ثم من خلال ميله إلى لون من ألوان العمل الإذاعي جذبه دون سواه، وتلمذته على واحد أو أكثر من أعلام الفن الإذاعي الذين كانوا نجوم ذلك الزمان. كانت طريقة جلوسنا في استديو الهواء، ثم تنفيذنا للفترة الإذاعية فيما بعد، يخضع لنظام صارم منضبط، كما كان احترامنا للوقت يلزمنا بالتأهب للعمل وممارسته قبل أن تفوت الدقائق والثواني في تأخير أو عائق أو حادث عارض. وأذكر أن الاستديو كان مكانًا نحيطه بالإجلال والاحترام، الأصوات فيه خفيضة وربما هامسة، والحركة فيه لا تكون إلا لأمر جوهري، أما انطلاقاتنا ومرحنا وصخبنا فمجاله استراحات المذيعين. مازلت أذكر حتى الآن كيف كانت مذيعات الجيل الأكبر يقدمن لنا المثال على اهتمامهن بنظافة المكان قبل أن نمارس العمل، كل ورقة في مكانها، وكل مقعد في موضعه الصحيح، وكل زجاج للاستوديو لابد أن يكون مجلوًّا وناصعًا، لا يكتفين بقيام السعاة بهذه المهمة، لأنهن تعوّدن أن ينظفن بيوتهن أولا، وعلى غرارها يكون الحرص على نظافة الاستديو وتنظيم كل شيء فيه. وكان تفننهن في هذا الأمر يجعلنا نُحسّ أن هناك منافسة خفية بينهن، منافسة غير معلنة.
لم نكن نتعلل بأعذار واهية، أو كاذبة، للفكاك من العمل، أو التخلص من بعض مسئولياته، بل كان العكس هو الذي يحدث، يكون بعضنا مريضًا، حرارته مرتفعة، وصوته لا يكاد يبين، لكنه يحرص على الحضور حتى وإن كان لن يشارك، فهو يعلن عن انتمائه ومحبته ورغبته في العمل حتى لا يبدو متمارضًا. وكنا نصاب بخيبة أمل حين يقال لنا: عودوا إلى بيوتكم حتى تعود إليكم الصحة والعافية أولا، وحتى لا يُحسّ المستمع أن أصواتكم مريضة. كثير من اللفتات والإيماءات والتوجيهات البسيطة صنعت لنا حياتنا الإذاعية: كيف نجلس أمام الميكروفون، ما المسافة التي ينبغي أن تكون بيننا وبينه، كيف يكون أداؤنا النشيط الحيوي في الصباح مختلفًا عن أدائنا المؤانس والرفيق في المساء والليل، وكيف تختلف نبرة هذا الأداء في نشرة الأخبار عنها في تقديم أغنية أو مادة إذاعية خفيفة، وكيف نتجنب تأثير أدائنا في برامجنا (وقد يكون عاطفيًّا أو ميّالاً إلى الشرح والتعليل أو ساخرًا أو هازلاً) على أدائنا الإخباري والسياسي. وقد لمست هذا في نفسي حين أصبح أدائي في برنامج "لغتنا الجميلة" - وهو أداء أدبي متلون بطبيعة المادة التي أقدمها - يؤثر في أدائي الإخباري والسياسي، ولا أنسى كيف وجّهني كبير المذيعين وقتها - الإذاعي الكبير جلال معوض - إلى الالتفات إلى هذا التأثير في أدائي الإخباري - وهو أداء ينبغي أن يكون حياديًّا ومباشرًا وغير خاضع لأية انفعالات أو مشاعر بعكس أدائي الشعري والأدبي والثقافي بوجه عام. لا أريد أن يطول الحديث أكثر، لكن ما أحرص عليه وقد نلت شرف تقديم هذا الكتاب، الذي هو بمثابة مدخل إلى دستور العمل الإذاعي والإعلامي، هو أن أدعوكم إلى الاهتمام إلى كل ما فيه من تفاصيل - قد تبدو صغيرة - لكنها على جانب كبير من الأهمية، شاكرًا للزميلة الكريمة والإذاعية المثقفة - صاحبة الوعي والرسالة - الدكتورة نادية النشار إقدامها على صنع هذا الكتاب، من أجل إعلام  يقوم على العلم والخبرة والتجربة، والممارسة العملية الصحيحة، ودعوتها إلى قيام أجيال جديدة من الإعلاميين  على أسس سليمة تجمع بين العلم والفن وهما قوام هذا العمل ودعامته الرئيسية. مع تمنياتي للجميع بالتوفيق والتألق.فاروق شوشة
المصدر: من مقدمة الاعلامي الكبير الاستاذ فاروق شوشة
DrNadiaElnashar

المحتوى العربي على الانترنت مسئوليتنا جميعاً د/ نادية النشار

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 93 مشاهدة
نشرت فى 15 مايو 2015 بواسطة DrNadiaElnashar

د.نادية النشار

DrNadiaElnashar
مذيعة و كاتبة ،دكتوراة في علوم الاتصال و الاعلام والتنمية .استاذ الاعلام و علوم الاتصال ، مستويات الاتصال و أهدافه، الوعي بالاتصال، انتاج محتوى الراديو والكتابة الاعلامية ، والكتابة، و الكتابة لوسائل الاعلام الالكترونية ، متخصصة في علوم الاتصال و الاعلام و التنمية، وتدريبات التطوير وتنمية المهارات الذاتية والاعلامية، انتاج »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

612,247