ما عادت تفصل بيننا وبين الدقيقة الأولى من العام الميلادي الجديد سوى عدة ساعات، ويحسن في أمثال هذه المناسبات أن نتوقف لبرهة عن اللهاث وراء الأحداث التي نصنعها أو نشارك في صناعتها، وتلك التي تصنع واقعنا ونتشارك التأثير فيها والتأثر بها، لكي نراجع بموضوعية ما قد فات، ونرتب جيدا لما هو آت. وإذا كان حري بنا كأشخاص أن نجري بأنفسنا لأنفسنا في لحظات التحول الكبرى أمثال هذه المراجعات، فما أحرانا كجماعة وطنية أن نقف لنقيم أحداث العام المنصرم 2011، عام ثورة 25 يناير، درة ثورات الربيع العربي، والذي حددت مصر خلاله "مسار الثورة"، لنحسن التخطيط للعام القادم 2012 والذي ينتظر فيه أن يتحدد "مصير" هذه الثورة العظيمة التي دفع شعبنا الصابر ثمنها الغالي مقدما، من الدماء الطاهرة لآلاف من الشهداء والضحايا والمصابين، إلى تكلفة اقتصادية باهظة، على أمل التغيير.
جميعنا يذكر كيف شهدت الساعات الأولى من العام 2011 أحداثا مأساوية من جراء تفجيرات كنيسة القديسين التي خلفت وراءها عشرات القتلى والمصابين، ثم تبعتها بأيام قلائل حادثة مصرع الشاب السلفي "سيد بلال" بأيدي رجال الأمن على خلفية التعذيب. هذه الأحداث الدامية التي وصلت بالغضب الشعبي المتراكم منذ انتخابات مجلس الشعب 2010 الفجة إلى أقصى مداه، وهو ما جعل الرأي العام مستنفرا ومستعدا للتفاعل مع شرارة ثورة تونس، باكورة ثورات الربيع العربي، وهو ما شكل أرضية خصبة مهيأة للاستجابة لدعاوى الخروج السلمي للتغيير على أيدي مجموعات من شباب مصر النقي غير المسيس في 25 يناير 2011. وجميعنا أيضا يذكر كيف تصاعد المد الثوري إلى أن تنحي الرئيس السابق بعد استمرار الضغط الشعبي وبعد انحياز الجيش المصري لمطالب الثورة، ثم كيف بدأ مسار الثورة سريعا في التراجع والنكوص والانتكاس مع استفتاء "19 مارس" المعيب، الذي شكل نقطة البداية في شق صف القوى الوطنية وفي تفتيت وحدتها، والذي غرس بذرة حالة الاستقطاب المجتمعي الحاد الذي ما زلنا نعايشه ونعاني من آثاره وتوابعه وتداعياته حتى الآن.
والتزاما بهذا المسار الذي اختاره أو قبله الغالبية من المصريين، وبغض النظر عن آليات الدعوة وأساليب إدارة هذا الاختيار، ووسط حالة من التخبط والعشوائية في إدارة المرحلة الانتقالية أثارت القلق والشكوك في إمكانية إتمام الانتخابات على خير، شرع المصريون في انتخاب أعضاء أول برلمان بعد الثورة في تفاؤل حذر وإقبال كبير وانتظام تلقائي أمام لجان الانتخاب للإدلاء بالصوت. وعلى النقيض تماما من هذا المشهد الحضاري، نجد مشاهد عبثية لإدارة كارثية وتعامل قمعي مع احتجاجات مجموعات صغيرة من الشباب، لتحولها إلى دوائر متعاظمة من العنف المتزايد والقتل والسحل والفوضى والتخريب والتدمير، وكأن من يديرون المشهد الأول ليسوا هم أنفسهم من يتولون إدارة الثاني، ونرى الشعب وقد انقسم إلى فريقين: أحدهما يصوت في الانتخابات ويجني ثمارها والآخر ينعي شهداءه ويبكي ضحاياه ويلعن جلاديه، ونرى الميدان وقد أصبح ميدانين: أحدهما يصعد مطالب التغيير إلى أقصى مدى، والآخر يبارك ويؤيد خطوات الإصلاح التدريجي المتمهل البطئ.
ووسط هذه الحالة من الترقب –ولا أقول الارتباك- تأتي تباشير العام الجديد، الذي نضرع إلى الله أن يكون عاما لاستكمال وإتمام مسيرة الثورة، لا عام النكوص عنها والالتفاف عليها. فمن حق مصر بعد أن قدمت قبل وأثناء وبعد ثورة يناير الآلاف من الضحايا والشهداء أن تحلم بثورة كاملة، وليس عليها أن تقبل بثورة منقوصة، أو أن تكتفي بنصف ثورة، أو أن تقنع بشبه أو بمشروع ثورة. وأملنا في وجه الله الكريم كبير. وكل عام ومسيحيي مصر وأقباطها ومصر والمصريين جميعا بكل خير.
Email: [email protected]
ساحة النقاش