عاد لتوه من مهمة عمل بدت كأنها رحلة طويلة بينما لم تستغرق غير عدد من ساعات يوم صيف حار ، وقد بدت على وجهه ابتسامة عريضة يؤثر أن يظهرها دائما وهو عائد من أي مكان عملا كان أم غير ذلك،، حتى يضفي البهجة والسرور على أهل بيته ،محاولا أن يخفي ما بداخله من ألم أو نصب قد أصابه من مهمته ،، إنه غالبا ما يكتم شكواه وأحاسيسه المرهقة المتعبة عن أهله والمقربين فيكفي ما يعتري أيا منهم من متاعب ومشاغل ومشاكل ،،يدفعه حنان وتباشر أحاسيس مرهفة من الرحمة والرأفة بمن حوله فيلتمس العذر للآخرين ويلوم نفسه إن أخطأ في حق أحدهم .
يقترب منه ابنه الأصغر المتودد اليه دوما بأسئلة لايغيب عنها الفضول يود أن يعرف منها هل وفق أبوه في مهمته التي بدت من قسمات وجهه وجسمه المنهك كأنها رحلة طويلة ؟؟ وماذا رأى ومن قابل من الناس مع من تكلم ..؟ إنها أسئلة فضولية تدغدغ مشاعر الابن الذي يريد دائما أن يطمئن على خط سير أبيه وأحواله العامة وخاصة أحواله الصحية التي تشغل بال الشاب لما يراه على أبيه من ضعف ووهن .
أخذ الأب يحكي ويسرد لابنه بالتفصيل كل ما حدث وكل ما قيل في الوقت الذي لا تفارقه فيه ابتسامته
اجتزت يا بني الاختبار بنجاح وقوة وتمنيت من الله أن أقبل في هذا العمل ويرضى عني المسئولون ويوافقوا على ترشحي وتزكيتي عندهم ،،
أحببت هذا العمل وتمنيت أن أكون أحد أفراد تشكيله ،، إن باقي أفراد الطاقم العاملين فيه تمنوا لي النجاح لحبهم الشديد لي واحترامهم لأعمالي السابقة ،، وختمت الرحلة أقصد المهمة يا بني بفضل من الله أن وفقت في أداء الفروض في وقتها ولم تلهني مشقة المهمة أو استقبال الناس وحفاوتهم ،، لأن أهم شيء في الحياة هو ذكر الله وشكره وحمده و حسن عبادته .
وبعدما توقف عن الحكاية حين اطمأن أنه أرضى فضول ولده بم سمع وراى بسمة الاطمئنان على وجهه إلاأن قصة المهمة مازالت لها بقية وأسرارا لم تذع فهل يحكي أنه تلقى اعتذارا عقب المقابلة وبطريقة مهذبة قيل له:
نشكرك يا استاذ أجهدت نفسك واضح خبرتك من الاوراق لكن انت عارف السن حتى سقط في يده فالمعاش لايكفي والمعيشة ونفقاتها زادت ونطق كما نطق من قبله كثيرون الشكوى لله !
ألقى الأب بجسده على مقعده الوثير ،، ومال برأسه المثقلة من عناء الرحلة أو المهمة إلى ظهر الكرسي وسرح ببصره في سقف الحجرة وهو يقول في نفسه ...: آه يا صغيري لو علمت ما حل بأبيك من إرهاق ونصب في تلك المهمة وعاد يستطرد من جديد
هاجمتني الآلام المبرحة في ساقي واستوقفتني عدة مرات في الطريق وضاق صدري وكادت رئتاي تتوقان عن العمل وفكرت أن أعود أدراجي إلى المنزل وألغي تلك المهمة ولو جاء من وراءها مال قارون !
و تحاملت على نفسي حتى وصلت إلى موقف السيارات التي تحمل الناس إلى ميدان في وسط المدينة ومنه ركبت سيارة أخرى توصلني إلى نقطة قريبة من المكان المستهدف ،، ولما وصلت لتلك النقطة كان لزاما علي أن أسير على قدمي مسافة طويلة تصل إلى ما يقرب من نصف كيلومتر .... ، وهنا بدأت المتاعب الكبرى ...، فكلما سرت مسافة زمنها ثلاث دقائق أضطررت للاستراحة ثلاث دقائق أخر لالتقاط الأنفاس وإراحة الساقين ...،، ثم أواصل السير وكلما زاد زمن السير أشعر بالإرهاق والتعب أكثر . حتى وصلت إلى الهدف وأنا ألهث وأتصبب عرقا وليس عندي المقدرة على الكلام مع أحد
وفي طريق العودة كان علي أن أمشي تلك المسافة مرة أخرى على قدمي ...، ولم أجد وسيلة غير ذلك وكم كنت أتمنى أن يراني أحد راكبي السيارات الفارهة وأنا أسير متعبا وبسرعة النملة ويبدي مروءة للركوب معه ! ،، ولكن لم يعطف علي أحدهم إلا بسطاء الناس الذين يجلسون على الطريق مضطرون لأعمالهم في حراسة العقارات أو غسيل السيارات ،، فقد كانوا يسرعون إلي بتقديم المساندة والمساعدة بالمقاعد أو تطييب الخاطر ... فشكرا لهؤلاء الطيبين البسطاء ...، ولما وصلت لأول الطريق العمومي ..، استوقفت حافلة متوجهة إلى الميدان الرئيسي ببلدتنا ولما هممت بالركوب لم أستطع رفع رجلي على سلم الحافلة وكدت أنزلق إلى الطريق لولا أن امتدت إلي أيادي العون ورفعوني إلى داخل السيارة ....؟! وغاص جسمي في المقعد وسرح خيالي في كل هذه المعاناة التي لاقيتها
إنها الشيخوخة يا بني التي لا ترحم ،، والهرم الذي يأكل في العافية حتى يكاد ينهيها,,,!هذا يا بني ما لم أشأ أن أحكيه لك عن رحلتي لأنه شيء مخيف ويبعث على القلق ... وأنا لا أحب لك أن تقلق وتتوتر طالما فيّ عرق ينبض ونفس يدخل ويخرج .. انتفض الأبن وقد استشعر أن أبوه يكافح لأجل لقمة عيش فات آوان الكد لأجلها فيكفي ما يحصل عليه من معاش
أجل يكفي وبينما كان الأبن جالسا جوار أبيه وهو يسرد له بشفافية ماحدث خر الأبن على ركبتيه آخذا برأس أبيه بين كفيه ثم طبع قبلة بين عينيه قائلا :
أرجوك أنا فداك ياأبي لا تعود في الكد مرة أخرى الحمد لله أنا مبسوط وأخوتي أيضا مبسوطين فما كان من أبيه إلا أن مسح على رأس ولده وفرت على وجنتيه دمعة ساخنة عانى كثيرا حتى يكظمها !
ساحة النقاش