ثالثا : المجتمع المدنى العالمى:
فى السنوات العشر الأخيرة من القرن العشرين، نشطت بشكل كبير المؤتمرات الدولية التى تناقش القضايا الإنسانية العالمية. ويشترك فى هذه المؤتمرات بفاعلية، إلى جانب ممثلى الحكومات، عدد كبير من المنظمات غير الحكومية. وتتكون هذه المنظمات من أفراد أو جماعات يدافعون عن قضايا معينة، وتتيح لهم آليات العولمة الجديدة التأثير فى صناعة القرار على المستوى العالمى.
ومن أهم المؤتمرات الدولية التى عقدت فى أعوام التسعينيات، مؤتمر قمة الأرض الذى عقد فى ريو دى جانيرو فى يونيو عام 1992، تحت عنوان مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة والتنمية. وكان الهدف من المؤتمر توضيح المخاطر البيئية المعاصرة، التى قد تضر بمصير البشر فى جميع أنحاء الأرض، وتوجيه النظر إلى ضرورة أن تراعى السياسات الاقتصادية اعتبارات المحافظة على البيئة، لضمان استمرار التنمية الاقتصادية فى حد ذاتها، واستمرار التوازن البيئى الذى يؤثر على الطبيعة وصحة وحياة البشر فى العالم كله.
وقد شارك فى مؤتمر قمة الأرض حوالى 100 رئيس دولة وحكومة، جنبا إلى جنب مع عشرات الآلاف من البشر الذين حضروا مؤتمر قمة الأرض، والمؤتمر الموازى الذى نظمته المنظمات غير الحكومية. وشاركت فى هذا المؤتمر الموازى الذى عرف بإسم منتدى العولمة مئات من المنظمات غير الحكومية سواء من الدول المتقدمة أو من دول العالم الثالث، يجمع فيما بينها الإيمان بقضية مشتركة، والسعى لإقرار السياسات الدولية التى تناسبها.
تلى ذلك عدد من المؤتمرات الدولية الكبرى، ومنها على سبيل المثال: المؤتمر العالمى لحقوق الإنسان فى فيينا عام 1993، تلى المؤتمر العالمى للمرأة فى بكين عام 1995.
وإلى جانب ظهور دور المنظمات غير الحكومية على الساحة العالمية، أتاحت وسائل الاتصال الحديث فى عصر العولمة لأى جماعة من الناس إمكانية تكوين رأى عام عالمى حول القضايا التى تمس قطاعات واسعة من البشر، والتنسيق فيما بينها للتعبير عن رأيها، فيما قد يجبر الدول والحكومات لأخذ هذه المطالب وتلك الاعتبارات فى الحسبان.
إن ظاهرة المجتمع المدنى العالمى، وإن كانت وليدة عصر العولمة، إلا أنها فى كثير من الأحوال قد تكون موجهة ضد إحدى سياسات العولمة. ومن أبرز الأمثلة على تأثير المجتمع المدنى العالمى هو الأثر الذى خلفته مظاهرات معاداة العولمة، التى تنظم عن طريق الإنترنت ضد المؤتمرات التى تعقدها المؤسسات العالمية التى ينظر إليها على أنها مؤسسات العولمة مثل منظمة التجارة الحرة وصندوق النقد والبنك الدوليين.
وإلى جانب الحركة الثقافية طويلة المدى التى تسعى تدريجيا إلى الاتفاق حول عدد من القيم العالمية، هناك حركة أكثر بروزا على سطح الحياة اليومية فى العالم أجمع، ومن أهم مظاهرها تزايد التشابه فى طرق الحياة والذوق العام فى الموسيقى والفن، والمأكل والملبس.
فقد ولَّد البث الفضائى المباشر فى عصر العولمة ثقافة يومية للبشر فى مختلف أنحاء الأرض تتشكل يوما بعد يوم. فمن الممكن اليوم لجميع سكان الأرض، الارتباط من خلال الطبق الهوائى الدش بالقنوات التليفزيونية الموجودة فى جميع أنحاء العالم، والتى تتميز بالإبهار فى العرض والقدرة على التأثير فى المتلقى، وتتوجه للجمهور فى العالم بأسره، وليس للجمهور فى بلد معين.
فالعالم ينقل إلينا فى كل لحظة صيحاته الجديدة فى الموضة، والفن، وتنقل البرامج الإخبارية العالمية أخبارنا أولا بأول إلى العالم الخارجى، كما تنقل إلينا أخباره.
فقد أصبح العالم فى عصر الفضائيات وشبكة المعلومات الدولية، مثل القرية، بكل ما تتميز به القرية من علاقات القرابة والجوار، وصغر المساحة، فكل ما يحدث فى بقعة من الأرض ينتشر خبره فى البقاع الأخرى فى نفس اللحظة التى يحدث فيها، وكل ما يحدث فى جزء من العالم يظهر تأثيره فى بقية الأجزاء بدرجات كبيرة.
رابعا : عولمة السياسة:
السياسة هى آخر محطات العولمة. فالعولمة التى تسعى إلى إلغاء الحدود تصطدم مع السياسة التى تقوم أساسا على انقسام العالم إلى دول تفصل بينها حدود سياسية، وتطبق قوانينها التى ترمز إلى سيادة الدولة على أرضها ومواطنيها. ولكن العولمة التى بدأت فى مجالات الاقتصاد والاتصال تمضى فى سبيل التأثير على السياسة.
وأول ما فعلته العولمة بالسياسة هو أنها أفقدتها أهميتها القصوى. وقد فاز الرئيس الأمريكى بيل كلينتون بفترتين رئاسيتين عقب أزمة الخليج رافعا شعار إنه الاقتصاد يا غبى.
فسياسات العولمة فى العالم أجمع تقلل يوما بعد يوم من مناعة السياسة فى مواجهة الاقتصاد. ونلاحظ هذه الظاهرة فى اتجاه عديد من الدول التى كانت بينها علاقات صراع أو حتى حروب فى الماضى إلى تعزيز علاقات التعاون الاقتصادى. ومن أبرز علاقات الصداقة أو الشراكة الجديدة بين أعداء سابقين فى عصر العولمة، هى علاقة الولايات المتحدة الأمريكية بالصين. فالمصالح الاقتصادية المشتركة بين الدولتين تعمل باستمرار على التجاوز عن الخلافات السياسية التاريخية بينهما، وحل المشكلات التى تطرأ بين الحين والآخر بشكل ودى.
وفى السياسات الداخلية للدول، برزت ظاهرة تشابه برامج الأحزاب السياسية، خاصة فى الدول المتقدمة، لتراجع اهتمام المواطن العادى بالقضايا السياسية، وتركيزه على القضايا التى تمس قوته، وحياته اليومية، مثل التعليم، والخدمات الصحية، وبرامج الضمان الاجتماعى، بل أصبح المتنافسون فى الانتخابات العامة فى الدول المتقدمة يبحثون عن العيوب الأخلاقية للخصوم لانعدام الفروق السياسية بينهم.
وكما فقدت السياسة أولويتها فى مواجهة الاقتصاد، اضطرت السياسة أو الدولة لتقديم بعض التنازلات لصالح ثقافة العولمة. فمع الأهمية المتزايدة التى أصبحت تحتلها بعض القيم المرتبطة بالسياسات الداخلية للدول مثل الديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان، تتجه معظم الحكومات، التى حكمت بلادها عقود طويلة من الحكم المطلق، إلى تبنى درجات وأشكال متفاوتة من الديمقراطية، والانفتاح السياسى، ولو بالتدريج، من خلال الانتخابات الحرة النزيهة وضمان حرية الصحافة، وغيرها من قواعد الحكم الديمقراطى.
الأكثر من ذلك، إن احترام الحكومات لهذه القيم أصبح فى كثير من الأحيان تأشيرة دخول إلى بعض المنظمات الدولية، أو شرطا أساسياً للحصول على بعض الامتيازات الاقتصادية، والمساعدات الدولية، والتكنولوجيا المتطورة.
وهذه القضية هى نفسها من أهم تناقضات عصر العولمة، فالمجتمع الدولى الذى يستطيع أن يفرض على بعض الدول الالتزام باحترام الديمقراطية وحقوق الإنسان، هو فى الحقيقة مكون من الدول العظمى، التى تقول بإسم العولمة السياسية أن من حقها أن تتدخل وتعاقب الأنظمة السياسية والدول التى لا تحترم حقوق الإنسان أو حقوق الأقليات داخل حدودها السياسية. ويعتبر قانون الاضطهاد الدينى، الذى أصدره الكونجرس الأمريكى، مثالا بارزا على ذلك. فالقانون يعطى الولايات المتحدة الأمريكية الحق فى أن تفتش عن احترام الأديان وحقوق الأقليات فى العالم، وفقا لرؤيتها الخاصة.
ومع تشابك السياسة والاقتصاد والثقافة فى عالم اليوم، أصبح بمقدور الولايات المتحدة، باعتبارها القوة العظمى الوحيدة، تعطيل انضمام دولة مثلا إلى منظمة التجارة العالمية بسبب سجلها فى مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان وفقا للرؤية الأمريكية. كما أصبح إدراج إسم دول بعينها فى القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب يؤثر على فرص تلك الدول فى تحقيق التنمية الاقتصادية وتوفير الرفاهية لشعوبها.
وبطبيعة الحال فإن هذه التدخلات من قبل الدول الكبرى، للضغط على الدول التى لا تحترم القيم والأعراف الإنسانية العالمية، لا تكون بالضرورة منزهة عن الأغراض السياسية والمصالح الخاصة للدول الكبرى التى تقوم بالتدخل .
وإلى جانب التدخل الدولى عن طريق المنح والمنع للضغط على الدول لإتباع بعض السياسات، برزت ظاهرة التدخلات العسكرية المباشرة بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية فى بعض الأزمات الدولية، منها على سبيل المثال، أزمة الخليج الثانية، ومن بعدها أزمة البوسنة، ثم كوسوفا.
وقد تراوحت التدخلات العسكرية للدول الكبرى فى الأزمات الدولية فى السنوات العشر الأخيرة، ما بين تدخل قانونى بإسم الأمم المتحدة فى أوائل التسعينيات فى أزمة الخليج، إلى تدخل قوات منظمة حلف شمال الأطلنطى (الناتو) بقيادة الولايات المتحدة فى كوسوفا فى نهاية التسعينيات. وتفضل معظم دول العالم الثالث التدخل العسكرى من خلال الأمم المتحدة التى تتسم بتمثيل أوسع وشرعية أكبر فى التصرف بالنيابة عن الإرادة الدولية.
ساحة النقاش