تضيف شبكة الإنترنت أبعادا هائلة لكثافة وسهولة التفاعلات الاقتصادية العالمية، فقد أدت شبكة المعلومات الدولية إلى ظهور نوع جديد من التبادل المالى والتجارى يعرف بـ التجارة الإلكترونية، بحيث يتم تبادل البيانات، بل والبيع والشراء وعقد الصفقات فى كل لحظة عبر شبكة الإنترنت. وقد فاق حجم التجارة الإلكترونية العالمية كل التوقعات، حيث تجاوزت هذه التجارة عام 1999 ما قيمته 100 بليون دولار أمريكى، وترى بعض التقديرات أنه من المتوقع بحلول عام 2005 أن يتراوح حجم التجارة الإلكترونية ما بين 2 إلى 3 تريليونات دولار أمريكى.
وقد أدت هذه الزيادة المذهلة فى حجم التجارة الإلكترونية إلى لجوء العديد من الدول المتقدمة إلى وضع القواعد والقوانين لتنظيمها وتسهيلها على غرار التجارة الدولية التقليدية. وفى إطار هذه التطورات، اعترف عدد من الدول مؤخرا بالبصمة الإلكترونية لكى يسهل توقيع الاتفاقات وعقد الصفقات والعقود الدولية عبر الإنترنت بين شركات ومؤسسات وأفراد من مختلف أنحاء العالم فى نفس اللحظة دون الحاجة إلى السفر لإتمام التعاقد.
والتجارة الإلكترونية ليست مقصورة على المؤسسات الكبرى والصفقات العملاقة، وإنما يستطيع الشخص العادى أن يقوم بالتسوق وشراء الكثير من احتياجاته عن طريق الإنترنت، حيث تقوم المحلات والأسواق الكبرى بعرض منتجاتها وأسعارها على الإنترنت، ويتم خصم ثمن المعاملة عادة من خلال الحسابات البنكية.
مجمل القول، إن العولمة الاقتصادية هى الاقتصادات المفتوحة على بعضها البعض، والمرتبطة ببعضها البعض، والمبنية على الانتقال الحر للسلع والخدمات، ورأس المال، بل الخبرات والكفاءات عبر العالم. وأساس هذه القيم هو خبرة الدول الرإسمالية الغربية التى ترى فى حرية التبادل التجارى واقتصاد السوق الحر القائم على فكرة المنافسة أفضل وسيلة لتحقيق الرفاهية، والاستخدام الأمثل للموارد الاقتصادية فى العالم ككل. فمن المفترض أن المنافسة تؤدى تلقائيا إلى تحسين جودة المنتجات وتخفيض الأسعار. بعبارة أخرى، إن المنافسة الحرة تجعل البقاء للأصلح.
وتلعب المؤسسات الاقتصادية الدولية مثل صندوق النقد، والبنك الدولى، ومنظمة التجارة العالمية الدور الرئيسى فى رسم قواعد اللعبة لهذه الأنشطة الاقتصادية العالمية، بل لعب بعضها منذ فترة دورا فى نصح الدول بالسياسات الاقتصادية التى يجب أن تتبعها داخل حدودها، والتى يطلق عليها سياسات الإصلاح الاقتصادى. ومن أبرز السياسات التى يوصى بها صندوق النقد الدولى سياسات الخصخصة، أو تقليل دور الدولة فى الاقتصاد، وتقوية دور القطاع الخاص عن طريق بيع الصناعات والشركات المملوكة للدولة إلى القطاع الخاص، اعتمادا على خبرة الدول الغربية المتقدمة الخاصة بمبادئ اقتصاد السوق، وتحرير التجارة.
وقد أدت هذه النشاطات الاقتصادية ذات الطابع والنطاق العالمى إلى ظهور قضايا لها نفس صفة العالمية تتعلق بتأثير اقتصاد العولمة على حياة الإنسان وبيئته، مثل قضية الممتلكات الإنسانية كالبحار والمحيطات والفضاء وتنظيم حقوق استغلالها اقتصاديا، وقضية صيانة البيئة من النشاطات الاقتصادية الضارة، بالإضافة إلى الآثار الإنسانية للنشاط الاقتصادى فى ظل العولمة مثل قضية الفقر، وقضايا العنف والجريمة المنظمة.
ثانيا : عولمة الثقافة:
إن الثقافة بشكل عام هى الذاكرة الجمعية لأى مجتمع من المجتمعات، وهى تشكل قيم هذا المجتمع والسلوكيات المرتبطة بالأدوار المختلفة فيه. فالثقافة هى أساس هوية المجتمع وانتمائه، وتميزه عن غيره من المجتمعات. ويتكون العالم من مئات، بل آلاف الثقافات والثقافات الفرعية، فالثقافة شيمتها الأساسية هى التنوع، مع وجود حد أدنى من الاتفاق حول القيم الإنسانية الأساسية. وهكذا يمكن أن نتحدث عن هوية عربية، أو عقائد هندية أو ثقافات بدائية فى أدغال أفريقيا واستراليا. وهكذا أيضا يمكن أن نتحدث عن سمات المجتمع الألمانى أو الشعر الإنجليزى أو المسرح اليونانى، دون أن نغفل السمات المشتركة بين البشر، والقيم المتشابهة بين الثقافات.
والتجانس الثقافى بين البشر سابق بعصور طويلة على ظهور العولمة الحديثة، لكنه كان محدود بأقاليم معينة متمايزة ثقافيا مثل الثقافة الهيلينية، والثقافة الإسلامية، والثقافة المتوسطية، وغيرها. وشكلت هذه الأقاليم تجمعات ثقافية تجمع فيما بينها سمات مشتركة وتميزها عن غيرها سمات أخرى.
والعولمة الثقافية تؤدى إلى زيادة المساحة المشتركة بين الثقافات فى كل أنحاء العالم، وخلق ثقافة جديدة منفتحة على كافة الآراء والاتجاهات، والتطورات العالمية، بعبارة أخرى، تهدف ثقافة العولمة إلى بناء مجتمع إنسانى واحد.
والعولمة الثقافية كما نعيشها اليوم هى وليدة تطورين أساسيين، الأول تطور سياسى اجتاح العالم فى نهايات القرن العشرين وهو انتهاء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة وحلفائها، والاتحاد السوفييتى وحلفائه، والثانى هو التطور التكنولوجى الهائل فى وسائل الاتصال العالمية والبث الإعلامى الفضائى، الذى أصبح يربط البشر فى كل لحظة، وفى كل أنحاء الأرض.
فقد أدت نهاية الحرب الباردة إلى رفع الحواجز أمام انسياب المعلومات والتفاعلات بين البشر فى مختلف بقاع الأرض. كما أدى اختفاء العداء السياسى، والخلاف العقائدى بين الجانبين إلى زيادة الشعور بأن الكل يعيش فى عالم واحد، وأن القضايا العالمية الهامة، والتى تؤثر على الحياة اليومية للبشر، هى قضايا ذات طابع عولمى. فالاهتمامات بحقوق الإنسان، والديمقراطية وحفظ السلام والعدالة الاجتماعية وفرص الحياة الكريمة، وحماية البيئة، هى كلها اهتمامات ذات طابع عولمى.
من ناحية ثانية، لعب التطور التكنولوجى ووسائل الاتصال الحديثة دورا أساسيا فى تسريع وتسهيل عملية عولمة الثقافة، بمعنى تطوير وعى وإدراك وقيم ثقافية عالمية. فوسائل الاتصال والإعلام الحديث، والإنترنت، نجحت فى توسيع دائرة الاهتمام بالقضايا الإنسانية، وسهلت للمواطن العادى فى العالم كله متابعة المعلومات والتطورات حول تلك القضايا، وتجاوزت ذلك فى بعض الأحيان إلى المساهمة فى تشكيل قناعات وأنماط سلوكية معينة ذات طابع عالمى.
فالعولمة الثقافية هى وليدة زوال الموانع السياسية، من ناحية، وزيادة التفاعل والاتصال العالمى نتيجة للتطور فى تكنولوجيا الاتصال والفضائيات من ناحية ثانية. ولذلك، أصبحت قضايا مثل التحول الديمقراطى وحقوق الإنسان والشفافية والمحاسبية ومكافحة الفساد وحقوق المرأة وحماية البيئة، وغيرها من القضايا العالمية ملء السمع والبصر، ويهتم بها المواطنون فى جميع أنحاء الأرض.
وهناك حركة عالمية تدعو إلى صياغة مواثيق أخلاقية عالمية تعتمد على مبادئ الأديان السماوية، والتراث الأخلاقى للإنسانية، والثقافة المعاصرة، وأساسها قيم الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان.
والحركة العالمية لبناء الاتفاق حول عدد من القيم الإنسانية، وخاصة احترام حقوق الإنسان هى حركة سابقة على العولمة المعاصرة. فقد اهتمت منظمة الأمم المتحدة منذ نشأتها، وعدد من الهيئات التابعة لها، ومن أهمها منظمة اليونسكو، بوضع المواثيق الدولية لحقوق الإنسان منذ حوالى نصف قرن. ونجحت هذه الجهود بالفعل فى إصدار عدد من المواثيق الدولية مثل: الإعلان العالمى لحقوق الإنسان 1948، والعهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية 1966، والعهد الدولى للحقوق الاقتصادية والثقافية 1966. كما امتد التشريع الدولى لحقوق فئات معينة من البشر، فصدرت الاتفاقية الدولية لحماية اللاجئين 1951، والاتفاقية الدولية لقمع جريمة التمييز العنصرى والمعاقبة عليها 1973، واتفاقية حقوق الطفل 1989، واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة 1981، وغيرها من الاتفاقيات العالمية التى تسعى للاتفاق على احترام حقوق وحريات البشر اعتمادا على القإسم المشترك بين الثقافات المختلفة.
ولكن الجديد فى عصر العولمة، هو ذلك الوعى الجديد الذى ينتشر تدريجياً بين البشر -على اختلاف أشكالهم وألوانهم، وانتماءاتهم السياسية، ومستوياتهم الاجتماعية والثقافية- بتلك الموضوعات التى كانت من قبل حكرا على الحكومات والهيئات الدولية، وبعض المنظمات المحدودة، والقليل من المثقفين.
الجديد أيضا فى عصر العولمة أن الوعى بالقضايا الإنسانية يترجم نفسه فى صورة حركة عالمية لصياغة برنامج عمل لمواجهة بعض القضايا العالمية موازية لحركة الحكومات والدول. وتشترك فى هذه الحركة أطراف اكتسبت أهمية متزايدة هى أساسا المنظمات غير الحكومية، بل إن أعدادا كبيرة من البشر أصبح متاحا لها اليوم التأثير على الرأى العام وصنع القرار العالمى، ويطلق البعض على هذه الظاهرة التى بزغت فى عصر العولمة، ظاهرة المجتمع المدنى العالمى.
ساحة النقاش