يوسف العمري

إنّ مشكلة انحراف الأحداث ظاهرة اجتماعيّة قديمة، أصابت كل المجتمعات في الماضي والحاضر. ويتجسّد خطر هذه الظاهرة في انحلال الأسرة، وفساد الأبوين على وجه التحديد؛ إذ إنّ الأسرة هي الجوّ الطبيعيّ الملائم للنمو العاطفيّ والوجدانيّ للطفل، حينما تختلّ فيها معايير القيم الأخلاقيّة، وتنشأ الخلافات الهدّامة التي تؤدّي إلى تحطيم الدعائم الأساسيّة للأسرة، وقد ثبت لدى (البروفسور) "تشارلز" أنّ من بين الأسر المتصدّعة تلك التي تكون فيها العلاقات غير مرضية بين الزوجين، وبسبب المحاباة أو عدم الرعاية والاهتمام أو الصّرامة والإهمال أو الغيرة أو بسبب وجود زوجة أب أو زوج أم أو قريب فضولي، ومن بينها أيضاً الأسر غير المتكيّفة اجتماعياً أو أخلاقياً، وبسبب اختلاف الدين أو التقاليد أو المستويات؛ فالأسرة هي المسؤولة الأولى والأخيرة عن جنوح الأحداث وانحرافهم، ولها الفضل في استقامتهم وسلوكهم السويّ.
وإذا ما رجعنا إلى نظرة الإسلام لهذه الظاهرة، وجدْنا بأنّ الإسلام قد ألقى بهذه المسؤوليّة على عاتق الأبوين، ويقول القرآن الكريم في صريح آياته : ( وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءَنا) [ البقرة :170].
ونجد بأنّ الرسول- صلى الله عليه وسلم- يقول : " كلّ مولود يولد على الفطرة؛ فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه"، ونجد سيدنا نوحًا- عليه السلام- عندما دعا على قومه، حكم عليهم بالفساد الأسريّ (وقال نوحٌ ربّ لا تذرْ على الأرض من الكافرين ديّارا إنّك إنْ تذرهم يُضِلّوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفّارا) [ نوح: 26،27].
فالأسرة تنتابها مجموعة من العوامل والمؤثرات تؤدي إلى اضطراب في كيان الأسرة، ويكون لها التأثير على سلوك الأطفال فيها، فقد تتعرض الأسرة إلى اضطراب ماديّ، أو إلى مرض ربّ الأسرة، أو موته، أو فساد المعاشرة السويّة بين الزوجين، أو تكون الأسرة مستباحة الحِمى لكل فضوليّ يتدخل في شؤونها، كل هذه العوامل تؤثّر على نفسيّة الحدث، وقد تؤدّي به إلى الانحراف، ولكن عدم الانضباطيّة في الأسرة من أخطر العوامل التي تؤثر على سلوك الأحداث، وتدفعهم إلى الانحراف.
عندما تتحلل الأسرة من كل معاني القيم الأخلاقيّة، ويشيع في جوها نوع من الأنماط السلوكيّة الخاطئة، تتأثر نفسيّة الطفل وفطرته النقيّة بما يراه مخالفاً للاستقامة الفطريّة فيه، ويأخذ سلوكه بالاهتزاز، وشخصيّته بالتبدّد، ويجدر بنا في هذا المقام أنْ نرجع إلى جوّ الأسرة النظيف كما صوّره القرآن الكريم.
والأسرة في القرآن تقوم على دِعامتين أساسيتين هما: الأب والأم، والعلاقة بينهما هي المودة والرحمة، ( ومن آياته أنْ خلق من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إنّ في ذلك لآياتٍ لقومٍ يتفكّرون) [الروم:21]فإذا ما تحققت الرحمة والمودة بين الأبوين، ساد جو الأسرة الطمأنينة والهدوء والراحة، وانعكست بالاستقرار على كل فرد فيها، وشعر الأطفال بجوٍّ مريح وهادئ وحنان يشدّهم إلى حبّ جو البيت والتعلّق به.
ثم يحدّد القرآن الكريم علاقة الأسرة فيما بينها داخل البيت، بحيث يكون فيها الأدب الجمّ والاستئذان المؤدّب المهذّب، فإذا كان فيها خدم أو أطفال بلغوا الحُلُم، فإنّ لهم من الحدود الأخلاقيّة داخل الأسرة ما لا يجوز لأحدٍ أنْ يتخطاها، قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لِيستأذنْكُمُ الذين ملكت أيمانُكم والذين لم يبلغوا الحُلُم منكم ثلاثَ مرّاتٍ من قبلِ صلاةِ الفجرِ وحينَ تضعون ثيابَكم من الظهيرةِ ومن بعدِ صلاةِ العشاءِ ثلاثُ عَوْراتٍ لكم ليس عليكم ولا عليهم جُناحٌ بعدهُنّ طوَّافون عليكم بعضُكم على بعض كذلك يُبيّنُ الله لكُمُ الآياتِ والُله عليمٌ حكيمٌ) [النور:58].
هذه الآداب تعلّم الأطفال التحرّز من الفوضى، ثم هي بالتالي تحفظ عليهم من أنْ تقع أبصارهم على ممارسة العلاقة الزوجيّة بين الأبوين، وكذلك حتى لا تقع أبصارهم على عورات مكشوفة داخل البيت، ثم يقول الله غزّ وجلّ : ( وإذا بلغ الأطفالُ منكُمُ الحُلُمَ فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم كذلك يبين الله لكم آياتِهِ والله ُعليمٌ حكيمٌ) [النور:59].
في هذا الجو من الأدب والالتزام، حدّد القرآن الكريم العلاقة الداخليّة في الأسرة، وفي مجال العلاقات الإنسانيّة وصّى الله الأبناء بالآباء، ووصى الآباء بالأبناء ثم أمر أنْ يسود جو الأسرة حِزام من الطهارة والعِفّة؛ إذ لا يمكن أنْ تستقيم الأسرة و المجتمع في وَحْل الفواحش ما ظهر منها وما بطن. والفواحش كلّ ما أفحش أيْ تجاوز الحدّ؛ فالتبرّج، والتهتّك، والاختلاط المثير، والكلمات والإشارات والضّحكات الفاجرة كلّ ذلك يلفت الانتباه، ويثير كوامن دفينة في نفسيّة الطّفل.
وفي مجال النّوم حدّد الإسلام للأنثى مكانها، وللذكر مكانه من الإخوة، وخاصة عندما تبدأ لدى الحدث علامات النّضج الجنسيّ، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم- في مجمل وصاياه :(مروهم بالصّلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر،وفرقوا بينهم في المضاجع).
وعلى الزوجين أن تكون العلاقة الزوجية بينهما على درجة من السموّ؛ فلا يمارسان أمام الأطفال أي صورة من صور الجنس، ولا كل ما يدعو إليه؛ فيورث هذا السلوك لدى الطفل نوعاً من الحقد على لأبوين، ويقودهما –أحياناً- إلى الشذوذ والكراهية. وعلى ذلك يمكن أن ينطوي تحت موضوع عدم الانضباطيّة في الأسرة المسائل الرئيسة التالية:
1-عدم احترام وتقدير العادات والتقاليد وأنماط السلوك المتعارف عليها في حدود المستوى الطبقي والمكانة الاجتماعية في إطار الأسرة.
2-خفوت القيم الروحية أو انعدامها كلية وبصورة مستمرة يؤدي إلى وأد الشعور الديني لدى الأحداث؛ فلا يعرفون الحلال والحرام ومن هنا قال الله تعالى (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها...)[طه:132].
3-انهيار معاني العفّة في الأسرة وتغليب جانب الغرائز يؤدي إلى ضعف مقومات الأخلاق لدى الأحداث، وخاصّة إذا حصلت الخيانة الزوجية من أحد الزوجين.
4-الهروب من الواقع الاجتماعيّ والأخلاقيّ بممارسة نماذج معينة من الحياة تخالف القيم الأخلاقيّة السائدة والتصرفات الخارجة عن السلوك السويّ، مما يدفع بالتالي الحدث إلى ممارسة هذه التصرفات خارج نطاق الأسرة.
5-الأسرة التي تقوم العلاقة فيها بين الزوجين على عدم التفاهم والاحترام؛ فتنحل المرأة والرجل أو أحدهما ويقع الأطفال ضحيّة لذلك.
وكثير من الأسرة يسودها جوّ عدم الانضباط؛ فلا تعرف الحلال والحرام، ولا تقيم وزناً للأخلاق والعادات السليمة في المجتمع تدفع الأحداث إلى الانحراف والجنوح، وخاصة إذا كانت الأسرة لا تقيم وزناً لمعاني العفّة ولا تقدّر المسؤوليّة تجاه الأطفال.
والأسرة التي تعيش جوًّا من عدم الانضباط، فيمارس الأب سلوكه الشاذّ أمام الأطفال، أو تمارس الأم نفس السلوك حسب ما يتراءى لهم دون ضابط من دين أو خلق، يولدّ ذلك عند الأطفال نوعًا من اللامبالاة وعدم الغيرة، وخاصة إذا كانت الأسرة لا تتقيد بالمعاني السّامية التي ينتمي إليها المجتمع.
فعندما يرى الأحداث أنّ الأب طلق أمّهم بغير وجه معقول، أو فقدوا نصيرهم في الحياة، فعاشوا في ظلّ أم تزوجت من رجل آخر، وأَسلمتهم للغرباء ،أو زوجة الأب الجديدة التي لا تشعر نحوهم بشيء من العناية والعطف، فعند ذلك يكره الحدث جو الأسرة، ويدفعه التعقيد إلى الخروج من كل قيم أخلاقية تسود المجتمع ؛ويتجه بالتالي نحو الإجرام، أو السرقة، أو ممارسة الأعمال المخلة بالشرف والأدب.
والأسرة التي تكون مستباحة الحِمى (ليس فيها سيطرة للأب ولا قِوامة له على زوجته،وتكون قيادة الأسرة لكل فرد فيها)، فعند ذلك تحدث الطّامة، وينفلت الجميع من قيود الانضباط والشعور بالمسؤوليّة، ويتصرف الحدث حسب ما تمليه عليه غريزته الفِجّة، وعقله القاصر، فيمارس كل ما يخالف الخلق السويّ.
وهنا نقطة هامة في عدم انضباطيّة الأسرة من الواجب التنبه إليها، وهي أن التدّليل الزائد والإسراف اللامعقول، والإغداق على الأطفال دون رقابة أو تقنين، يورث عند الأطفال نوعاً من الطّيش يقودهم إلى حافّة الانحراف، وإنّنا نشاهد كثيرا من مشاكل الأطفال الجانحين تعود إلى الغنى المبطر، والإغداق الخالي من كل معاني الاعتدال وتقدير المسؤولية.
والأسرة الصالحة في نظري هي الأسرة التي تقوم على المقومات الأساسيّة التالية:
1- القيادة المسؤولة، ممثلة بالأب والأم، وتتسم العلاقة بينهما بالعطف، والحنان ،والرغبة الصادقة في تنشئة الأطفال، ورعايتهم، ويعرف كل واحد منهما دوره وواجباته تجاه الأسرة.
2- أنْ تسود الأسرة ضوابط الأخلاق، ويكون فيها التجانس بين الزوجين من ناحية السن أو الطّاقة أو الحبّ أو المشاركة أو الدّين، ولذلك يقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم- " كفى بالمرء إثماً أنْ يضيّع مَنْ يعول) رواه أصحاب السنن.
3- أن يسود الأسرة جوٌ أخلاقي متين، يلتزم به الأب والأم وجميع أفراد الأسرة، فلا يكون أحدهما أنانياً، ويحترم حقوق الغير ويكون هادئاً في قوله وطلبه ونهيه. فالأسرة التي تثور وتغضب لكل أمر، إنما تخلق في الطفل قلقاً نفسيًّا وصراعاً حاداً يصيب حياته؛ فالأم التي لا تنسجم مع الأب، والأب الذي يأمر ولا يطاع، والأم التي تدلّل طفلها ويقسو عليها الأب، كل هذه الأمور تجعل من الطفل إنساناً يعيش في متناقضات تُكوّن فيه اتجاهاتٍ وقيماً متأرجحة لا قوّة لها على نفسه.
4- رفض كل ما هو غريب في حدود الأخلاق السّامية، وأنْ يمارس الأبوان شعار العبادة بصدق أمام أبنائهم، ويأمرون بها، وأنْ تكون العِفّة والحياة شعاراً للأسرة من غير هيمنة أو قسوة في التزام ذلك.
والأسرة التي لا تقوم مؤسستها على أساسٍ من هذه القيم، تكون أسرةً منحلةَ البنيان، متداعية الأركان، يهرب منها الأطفال ليتلقفهم الضياع والانحراف.
إنّ عدم الانضباطيّة في الأسرة، تشكل عاملاً خطيراً في سلوك الأطفال، وتَهَتُّك الأم أو شذوذ الأب، وعدم معرفة كل منهما لدوره في الأسرة والواجبات الملقاة على عاتق كل منهما، تجعل الأسرة غرضًا مُباحًا لكل طارئ، وملجأ لكل دخيل!!
الأسرة غير المنضبطة هي التي لا تسأل عن صداقات أطفالها، ولا علاقات أبنائها، ولا متطلباتهم ولا ترعى شؤونهم، وهي التي تمارس كل عيْب وتتحلّل من كل روابط الرحمة والحبّ والمودّة، وهي التي تترك الحبْل على الغارب لأبنائها؛ فهذا يأكل على مزاجه، وذلك ينام عل مزاجه، وتلك تعود في الساعة التي تحلو لها، والأب يهمل دوره في القِوامة، والأمّ تنسى دورها كأم. حياة صاخبة، ومشاكل متلاحقة، تجعل الحدث يُولَّي هارباً نحو الخط الملتوي؛ وتحدث العقد والانحرافات.
حبذا لو أنّ أسرنا الإسلامية تعمل بقول الله – تبارك وتعالى- (الرجال قوّامون على النساء...)[النساء:34] وبقول الله – تعالى- : (...فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله...) [النساء:34]، لكانت الأسرة مثالية، والأطفال نموذجاً حياً لتلك الأسرة المتراحمة. والويل للأطفال في ظل عدم انضباطيّة الأسرة،والسّعادة لهم في ظل الأسرة المتراحمة المترابطة، التي يسودها الخلق، ويحكمها الاحترام والعطف.

ahmedkordy

خدمات البحث العلمي 01009848570

  • Currently 20/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
6 تصويتات / 688 مشاهدة
نشرت فى 1 سبتمبر 2011 بواسطة ahmedkordy

أحمد السيد كردي

ahmedkordy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

30,892,362

أحمد السيد كردي

موقع أحمد السيد كردي يرحب بزواره الكرام free counters