مقدمة :
أصبحت المعرفة Knowledge المفتاح الأساسي لتطور اقتصادات الدول وكذلك للمنظمات سواء كانت ذات إنتاج سلعي أو خدمي. كذلك أصبحت ظاهرة البحث عن المتخصصين الماهرين (إداريين وفنيين) سمة من سمات الاقتصاد المعرفي. وتشير الإحصاءات في مختلف دول العالم إلى أن هناك ميل كبير في نمو الوظائف ذات الطابع المعرفي. وتشكل هذه الوظائف قوة عظيمة للمنظمات وعامل مساعد في بقائها ومنافستها في السوق الذي يتسم بحركة تطورية سريعة. والملاحظ أن المنظمات الناجحة في العالم الصناعي المتقدم هي منظمات ذات اهتمام كبير بالمعرفة حيث تشكل لها هذه المعرفة ميزات تنافسية كبيرة.
إن عملية إدارة المعرفة وبما تتضمنه من تخطيط على المديات المختلفة وما تتطلبه من تنظيم ورقابة وتوجيه تعتبر حاسمة في بناء رأس المال المعرفي وتنميته والاستفادة مما يتولد منه من إبداع تكنولوجي يتجسد في تقديم منتجات (سلع وخدمات) أو تحسين هذه المنتجات أو ابتكار عمليات إنتاجية لم تكن معروفة أو تحسين ما هو موجود من أساليب إنتاجية. إن عملية نقل وهضم وإنتاج المعرفة تشكل دورة جديدة تزامن دورة حياة المنظمة التقليدية المعروفة. وبناءً على هذه الأهمية للمعرفة فقد حاولنا من خلال هذا البحث التطرق إلى دور رأس المال المعرفي في بناء وتوليد ميزة تنافسية جديدة تضاهي أو تتفوق على المزايا التنافسية التقليدية لمنظمات الأعمال مثل الجودة والكلفة وسرعة التسليم والمرونة وغيرها. وتم تناول موضوع البحث في عدة فقرات تضمنت الأولى منها مفهوم رأس المال المعرفي وأهميته فضلاً عن مؤشرات قياسه ومن ثم تناولنا كيفية الاستفادة من رأس المال المعرفي في خلق وإدامة الميزة التنافسية كفقرة ثانية وختم البحث باستخلاص بعض الاستنتاجات المهمة.
1. تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وأهميتها للمعرفة
إن بداية حديثنا عن تكنولوجيا المعلومات والاتصالات دون غيرها من أنواع التكنولوجيا الأخرى هو بسبب ما أحدثه هذا النمط من تغييرات جوهرية في طبيعة العمل الإنساني وكذلك عمل المنظمات على اختلاف أنواعها، وتجسيده للمعرفة في الوظائف المختلفة حيث ينتمي هذا النمط التكنولوجي إلى عائلة تسمى التكنولوجيا ذات الغرض العام (General Purpose Technologies) حيث يكون الحاسوب هو المحور لهذه التكنولوجيا. إن قوة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الحقيقية تمكن في قدرتها على إحداث تغيرات هيكلة عميقة في الاقتصاد الوطني من خلال قابليتها على تشفير المعرفة وجعلها سهلة الاستخدام في جميع القطاعات الاقتصادية، الأمر الذي ينعكس بشكل إنتاجية عالية للفرد والمنظمة والقطاع وكذلك تحسين لجودة المنتجات وخفض الكلفة وبالمقابل فإنها تجعل المهارات التقليدية متقادمة حيث أنها وعلى سبيل المثال دخلت في جميع نواحي الحياة اليومية للمجتمع فالسيارة وما تحتويه من تجهيزات ذات تكنولوجيا اتصالات وحاسوب وكذلك المصارف وشركات التأمين وغيرها من مرافق الحياة تحتاج إلى استخدام المعرفة والمهارات العالية بشكل متزايد ولا تكفي الخبرة التقليدية في مثل هذه الحالات.
ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى ما أحدثته هذه التكنولوجيا من انقلاب عميق في طرائق وأساليب التعليم حيث الانتقال من مرحلة التلقين إلى مرحلة حل المشاكل ويتطلب هذا الأمر الاستفادة من تكنولوجيا المعلومات للتعامل مع مشاكلات متجددة وحلها وهضم المعرفة وتوليد معرفة جديدة لا أن يكون مستهلكاً لمعرفة نظرية فقط.
ومع أن البعض يعتقد أن دور تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ليس ايجابياً دائماً في الاقتصاد بسبب خلق بطالة والاستغناء عن كثير من العاملين مثل حالة البريد الالكترونية والاتصالات عبر الإنترنت التي أحدثت هزة كبيرة في شركات ووزارات الاتصالات إلا أن الأمر يمكن النظر إليه من جانب آخر وهو عدد الوظائف ومجالات العمل المتولدة من جراء إدخال هذه التكنولوجيا وكمثال على ذلك الحاسوب فقد استحدثت ملايين الوظائف في العالم التي ترتبط بشراء وبيع وصيانة وتشغيل أجهزة الحاسوب وشبكاتها وما ترتب على إدخال الحاسوب من افتتاح أقسام وكليات علمية ومعاهد تدريب وما تحتاجه من مدرسين ومعلمين وأمور أخرى ترتبط بالحاسوب. إن هذا الأمر يشير إلى أن الوظائف المستحدثة لا تقل عن تلك التي تم الاستغناء عنها نتيجة دخول التكنولوجيا الحديثة وبعبارة أخرى فإن الوظائف المعرفية قد حلت محل الوظائف التقليدية وهذا بحد ذاته دافع كافٍ للاهتمام بإدارة المعرفة والحرص على تراكم رأس المال المعرفي.
2. مفهوم المعرفة Knowledge Concept
ليست المعرفة بالمفهوم الجديد والطارئ في الفكر الإنساني سواء العربي أو الإسلامي أو الغربي. فقد حضيت باهتمام الفلاسفة والمفكرين منذ العهود القديمة. ويشير تراث الفلسفة اليونانية القديمة إلى كثير من العلماء والفلاسفة الذين اغنوا حقل الفلسفة بأفكارهم حول المعرفة والحكمة، ونفس الشيء يقال عن الفلاسفة المسلمين والعرب الذين استفادوا ممن سبقهم في الأمم الأخرى، فضلاً عن إضافاتهم المميزة. ولكن المعرفة في إطار العلوم الإدارية والاقتصادية أصبحت موضوعاً حيوياً في العصر الحديث، وظهر مصطلح إدارة المعرفة (KM) ليضعها على قدم المساواة مع الأصول المادية الملموسة الأخرى، ومن ثم اعتبارها أهم الأصول في منظمات الأعمال في عالم اليوم لدرجة أنها تمثل الميزة التنافسية الرئيسية في ظل الاقتصاد الرقمي.
يدل مفهوم المعرفة على الفهم والوعي وحسن الإطلاع المتحصل عليه نتيجة الدراسة والبحث ومن خلال الملاحظة والخبرة عبر الزمن، وتمثل تأويلاً شخصياً قائم على أساس الخبرة والمهارات والقدرات الذاتية. أما بالنسبة لمنظمات الأعمال فإن المعرفة تتمثل بما يعرفه أعضاء التنظيم عن الزبائن والمنتجات والعمليات والأخطاء والنجاح. وتتواجد هذه المعرفة في قواعد البيانات أو من خلال تقاسم الخبرة والممارسات الجيدة أو من خلال موارد أخرى داخلية أو خارجية.
إن تراكم المعرفة المنظمية عبر الزمن والتي تمكن الشركات من الوصول إلى مستويات عميقة من الفهم والإدراك الذي يقود إلى الفطنة والذكاء في الأعمال. (Bollinger and Smith, 2001, P.9)
إن التعريف أعلاه هو واحد من وجهات نظر كثيرة ومتباينة حسب تخصصات الباحثين أو المفكرين فالفلاسفة كان لهم دور مهم في صياغة مفهوم المعرفة وأبعادها ثم علماء الكلام واللغة الذين أضافوا أفكاراً أخرى تفسر المعرفة وتوضح معانيها واستمر تفسير المصطلح عبر الزمن إلى أن أدلى الاقتصاديون وعلماء السلوك التنظيمي والباحثون في الإدارة الإستراتيجية بدلوهم في هذا المجال. ولكن لا بد من التفريق بين مصطلحي المعرفة Knowledge والمعلومات Information اللذين يستخدمان بشكل متبادل في الأدبيات. فالمعلومات هي بيانات Data ثم تنظيمها ووضعها في إطار ذي مغزى محدد.
في حين أن المعرفة في إطارها العام تستند إلى تعلم ضمني وصريح وتفكير متكامل قائم على أساس المعلومات المستخلصة من بيانات من مصادر متعددة. لذلك يمكن النظر للمعرفة كسلسلة متكاملة ومترابطة من المراحل تبدأ بالبيانات ثم المعلومات ثم التحقق ثم التأمل والتفكر وصولاً إلى الحكمة التي هي قمة المعرفة. وكما يوضحها الشكل التالي:
ونعتقد أن المعرفة تتجسد في كل مرحلة من المراحل ولكن بمستوى نضوج مختلف فالبيانات تمثل معرفة بسيطة أو أولية ثم معرفة منظمة تمثلها المعلومات ثم معرفة معمقة يجسدها التحقق والتأمل وأخيراً نصل إلى مرحلة المعرفة المتكاملة متمثلة في الحكمة.
3. أنواع المعرفة Knowledge Types
إن تقسيم المعرفة إلى نظرية وتطبيقية عملية موجود منذ نشأة العلوم فالمعرفة النظرية قائمة على جمع وتفسير الحقائق بهدف الوصول إلى مبادئ ونظريات علمية يتم إثباتها ببراهين عقلية وفلسفية أما المعرفة التطبيقية فإنها تطورت بفعل التجارب العلمية والحقائق المطلقة والخبرات العملية والممارسة بهدف الوصول إلى حقائق مطلقة ثم إثباتها بشكل دقيق.
وتجدرالإشارة إلى أن علم الإدارة توسع كثيراً عندما اعتمد الإحصاء كأداة في تحليل كثير من الظواهر التي تجمع عنها بيانات بهدف خدمة منظمات الأعمال.
وبذلك تراكمت لدى هذه المنظمات معرفة تطبيقية من نوع آخر. وهذه المعرفة التطبيقية جعلت منظمات الأعمال تتبارى في تجسيدها في منتجاتها وخدماتها كإبداعات في بيئة تنافسية مفتوحة. ولكن هذا التصنيف للمعرفة هو تصنيف قديم طغى عليه في أدبيات إدارة المعرفة اليوم تصنيف آخر يقول بأن المعرفة هي إما ضمنية Tacit أو صريحة Explicit. فالصريحة تمثل معرفة تتسم بالوضوح والتحديد الدقيق ويعبر عنها بسهولة كما أنها تخلو من الغموض والإبهام ويمكن تشفيرها وخزنها في قواعد البيانات (Jung et. al, 2002, P.481).
في حين أن الضمنية تمثل حالة ذهنية في رأس الفرد صعبة الوصف والنقل وتشتمل على الدروس المستقاة ومهارة الإنجاز Know-how وحسن التقدير والحكم على الأشياء والحدس وغيرها من الخصائص صعبة النقل إلى الآخرين بشكلها الكامل أو صعبة التشفير والخزن بوسائط أخرى.
ومن المفيد هنا استعراض بعض الآراء في مجال تصنيف المعرفة وأنواعها، فقد اجتهد الباحثون في إيجاد مسميات لأنواع المعرفة ومن أسس وقناعات لدى كل منهم قائمة على أساس القدرة على تجسيد المفاهيم وبما يتلاءم مع خلفية واختصاص كل منهم سواءً كان فيلسوفاً أو اقتصادياً وخبراء في مجال الأعمال.
4. رأس المال المعرفي : Intellectual Capital
لقد شاع استخدام مفهوم رأس المال الفكري (أو المعرفي) Intellectual Capital (IC) في التسعينات من القرن الماضي وأصبح ينظر إليه باعتباره ممثلاً حقيقياً لقدرة المنظمة على المنافسة وتحقيق النجاح بعد أن كانت المصادر الطبيعية تمثل الثروة الحقيقية للشركات قبل هذا التاريخ. (Stewart, 1994, P.5)
ولقد تطور استخدام هذا المفهوم ليمثل القدرة العقلية التي تمتلكها الشركات والتي لا يمكن تقليدها بسهولة من قبل المنظمات المنافسة، ويرى الباحث Spinder أن رأس المال الفكري يتمثل بامتلاك المنظمة نخبة متميزة من العاملين على كافة المستويات وهذه النخبة لها القدرة على التعامل المرن في ظل نظام إنتاجي متطور ولها القدرة على إعادة تركيب وتشكيل هذا النظام الإنتاجي بطرق متميزة. (Quinn, et. al, 1996, P.64)
إضافة إلى ما تقدم أعلاه فإنه يمكن أن نستعين بوجهة نظر الباحث April الذي وضع حدوداً فاصلة بين الموارد المادية والموارد المعرفية (الفكرية)، فقد أشار إلى أن الموارد المادية تشمل كل تلك الموارد التي تظهر في ميزانية المنشأة منها على سبيل المثال العقارات والتجهيزات والمكائن والبرامجيات وغيرها، في حين أن الموارد المعرفية تمثل في ثقافة المنظمة والمعرفة التكنولوجية والعلامات التجارية وبراءات الاختراع (للعمليات والتصاميم) والمعارف العملية التي يتقاسمها العاملون في المنظمة، وكذلك التعليم المتراكم والخبرة. (April, 2002, P.448)
وبتأمل الرأي السابق فإننا نرى أن تكوين رأس المال الفكري في المنظمة هو ناتج عمليات متتابعة ومعقدة تحتاج إلى استثمارات وفترات زمنية طويلة لتكوينها، فإذا كانت بعض المهارات الفكرية يمكن استقطابها بشكل مباشر من سوق العمل أو البيئة الخارجية فإن المنظمة تحتاج أيضاً أن تجعل من هذه المعارف مدخلات تجري عليها عمليات التحويل المناسبة لكي تصبح معارف فردية ومنظمية تستند عليها المنظمة في خلق التراكم المعرفي كقدرات أساسية ذات أهمية كبيرة لتكوين الجانب المهم من رأس المال وهو رأس المال غير الملموس والتي يمكن توضيحها من خلال الشكل التالي:
ولكون رأس المال الفكري يمثل ميزة تنافسية حرجة للمنظمات الحديثة ودعامة أساسية لبقائها وازدهارها وتطورها فإن الأمر يتطلب من إدارة الموارد البشرية أو من لجان متخصصة في هذه الإدارة متابعة الكوادر المعرفية والنادرة لغرض جذبها واستقطابها كمهارات وخبرات متقدمة تستفيد منها المنظمة بشكل كبير. كما أن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد بل على إدارة الموارد البشرية أن تكون قادرة على زيادة رصيدها المعرفي من خلال هذا الاستقطاب الجديد وبما يساهم بتطوير وإنعاش عمليات الابتكار والإبداع باستمرار في مجاميع عمل تتبع أساليب إبداعية لعصف الأفكار وتوليدها ونقلها متجسدة بمنتجات متطورة تحاكي رغبات الزبائن وحاجاتهم في سوق شديدة المنافسة. كذلك فإن المحافظة على القوة المعرفية للمنشأة والحرص على دمجها بالنسيج الثقافي للمنظمة يمثل قدرات تنافسية لا يستهان بها في السوق العالمية ومتطلباتها. ومن المعلوم أن هذا ليس بالعمل السهل على إدارة الموارد البشرية في المنظمة وإن حرصت عليه وذلك للخصائص الفريدة للمعرفة ورأس المال المعرفي التي تميزه عن غيره من الأصول أو الموارد في المنشأة، ولعل أهم هذه الخصائص (Wiig, 1997)
1. رأس مال غير ملموس.
2. من الصعوبة بمكان قياسه بدقة.
3. سريع الزوال والفقدان.
4. يتزايد بالاستعمال.
5. يمكن الاستفادة منه في مراحل وعمليات مختلفة في نفس الوقت.
6. يتجسد في أشخاص لديهم الاستعداد لحمله.
7. له تأثير كبير على المنظمة.
ومع كل ما يواجه المنظمة من إشكالات وصعوبات جمة لغرض تشكيل رأس مال معرفي تستند عليه قدرتها التنافسية فإن المنظمات الرائدة حاولت التغلب على هذه الصعوبات بطرق وأساليب متعددة يأتي في مقدمتها اعتبار رأس المال المعرفي موضوعاً حرجاً وإستراتيجياً يستحوذ على اهتمام خاص من قبل الإدارة العليا في المنظمة، وطورت بعض المنظمات مقاييس خاصة لقياس كفاءة الاستثمار في رأس المال الفكري باعتباره استثمار ذو مردود بعيد الأمد وذو تأثير شمولي.
5. رأس المال المعرفي كميزة تنافسية
Intellectual Capital as a Competitive Advantage
مع التطور الحاصل في بيئة الأعمال الدولية فقد أصبحت المنظمات الحديثة مراكز بحوث قائمة على أساس المعرفة. إن المزايا التنافسية المعروفة مثل كلفة الإنتاج الواطئة والجودة العالية وسرعة التسليم والمرونة والاستجابة للتغيرات والتكيف معها والتي يمكن تحقيقها من خلال قيام المنظمات ببناء مقدرات جوهرية Core-Competence مستندة إلى قدرة المنظمة في التعليم المشترك لا سيما تنسيق المهارات الإنتاجية والتنظيمية وكذلك تحسين وتكامل تقنيات الإنتاج المستخدمة (Prahalad and Hamel, 1994, P.82) أضيفت إليها في الوقت الحاضر مزايا تنافسية جديدة قائمة على أساس قدرة المنظمة المعرفية. فالإبداع وتقديم منتجات تشكل سلسلة متعاقبة لتطور تكنولوجي متكامل أصبحت سمة المنظمات المعرفية في الوقت الحاضر. إن الاتجاه الحديث في الإنفاق والاستثمار في البحث والتطوير وتشكيل رأس مال معرفي في المنظمات فإنها تهدف من خلال ذلك زيادة قدرتها في خلق إبداع تكنولوجي عام مستند إلى معرفة واسعة وقادراً على تقديم دعم وإبداع لعدد كبير من المنتجات والخدمات التي يمكن أن تطور في ظل هذه المظلة المعرفية العامة، ويمثل هذا الأمر خروج عن قواعد العمل السابقة والتي تتمثل في إنفاق استثماري متقطع لغرض تحسين أو تطوير منتجات منفردة أو في أحسن الأحوال بعض من منتجات كسلسلة مترابطة. وهكذا فإنه يبدو أن خصائص رأس المال المعرفي والمتمثلة في عدم تجسيد وسرعة الزوال والتزايد بالاستعمال. وإذا كانت الميزات التنافسية في الإطار القديم يمكن أن تستنسخ وتقلد من قبل الآخرين أو أنها تختفي أو تزول سريعاً بحكم وجود منافسين أقوياء ومتابعين لعمل المنظمة فإن الميزات التنافسية المستندة إلى المعرفة ورأس المال المعرفي يمكن أن تخرج من إطار هذه الإشكالية بحكم كون المعرفة التي تستند إليها تمثل خصائص إستراتيجية للمنظمة لا يمكن تقليدها بسهولة من قبل الآخرين.
وتشير أدبيات الإدارة الإستراتيجية إلى أن المورد لكي يصبح إستراتيجياً يجب أن تتوفر فيه خصائص معينة منها (Bollinger and Smith, 2001, P.10).
1. أن يكون المورد ثميناً.
2. أن يتسم بالندرة.
3. لا يمكن تقليده بسهولة.
4. لا يمكن إحلال بديل محله.
وعند تأمل هذه الخصائص سيتبادر للذهن تساؤل حول كيفية ومدى انطباق هذه الخصائص على المورد المعرفي أو رأس المال الفكري. يمكن القول أن قيمة وثمن المورد البشري يتجلى في أن المعرفة ستؤدي إلى تحسين في العمليات والمنتجات وبذلك تمكن المنشأة من البقاء منافسة للآخرين وهذه ميزة تنافسية ليست بالقليلة. ومن جهة أخرى فإن كون المعرفة نادرة فهذا أمر مرتبط بكونها حاصل تراكم خبرات العاملين ومعرفتهم التطبيقية فإنها ستكون نادرة لأنها مبنية على الخبرات الذاتية السابقة لنفس المنظمة وليس لمنظمة أخرى. وبالنسبة لخاصية عدم التقليد بسهولة فإن المعرفة في أي منظمة هي خاصة بها ولها بصماتها المميزة والتي لا تكتسب إلا عبر فترة زمنية ومشاركة مجاميع العاملين وتقاسم خبراتهم لذلك فهم مختلفون عن سائر المنظمات الأخرى. أما ما يخص عدم قابلية الإحلال فهو مرتبط بالقدرة المميزة للمجاميع والتداؤب بين العاملين الذي لا يمكن نسخه وإحلاله محل المعرفة السابقة.
6. إشكالية تكوين وإدارة رأس المال المعرفي
من خلال تصفح التقرير الخاص بالتنمية البشرية في الدول العربية يتضح لنا أن تراكم رأس المال المعرفي وخلقه يشكلان معضلة رئيسية في البلاد العربية، حيث تشير الإحصاءات والتقارير إلى أن هذه البلاد هي الأقل إنتاجاً واستفادة من المعرفة. إننا لا نتحدث عن الحالة العربية بشكل خاص وإنما نعتمدها مدخلاً لاستعراض معوقات ومشاكل إدارة رأس المال المعرفي بشكل عام. وفي حقيقة الأمر فإن هذه الإشكالية نراها متجسدة في عدد كبير من المنظمات في دولنا سواءً كانت هذه المنظمات في القطاع العام أو الخاص. ففي إطار تكوين رأس المال المعرفي تقف مجموعة كبيرة من مشاكل بعضها يرتبط بجوانب علمية تكنولوجية والبعض الآخر يرتبط بأبعاد ثقافية واجتماعية وسياسية. ولغرض التركيز على المهم منها دون الدخول في معالجة تفاصيل كثيرة فإن بناء رأس المال الفكري يتطلب:
1. خلق أقطاب صناعية من خلال عمليات دمج ودية في بعض منظمات الأعمال الخاصة، وبالتالي يصبح لهذه الأقطاب القدرة المادية والبشرية في تكوين والاستفادة من المعرفة المتاحة.
2. خلق محيط وإطار معرفي من خلال تهيئة الأرضية المناسبة على الصعيد الخاص في تكنولوجيا المعلومات وإعادة النظر في الإجراءات والقوانين السائدة لكي تأخذ بنظر الاعتبار متطلبات تكوين هذه الأقطاب المعرفية.
3. أن يكون هناك جامعات ومراكز بحوث رائدة مرتبطة بالقطاعات الاقتصادية المحورية التي سبق وأن أشير إليها وأن يكون هناك تعاون كبير بين القطاع العام والقطاع الخاص بشأن خلق وتكوين المعرفة والاستفادة منها.
4. ضرورة أن تؤمن الإدارات العليا للمنظمات بأن العصر الحالي هو عصر معرفي وليس بيئة تنافسية قائمة على أساس تقديم منتجات وتحقيق وأرباح في سوق محلية فقط.
5. التركيز على العناصر الجوهرية الممثلة لرأس المال المعرفي للمنظمة فكل منشأة تكون لها مكونات معرفية وأصول فكرية تختلف عن المنظمات الأخرى وهذا الأمر ضروري لكي لا تتشتت الجهود وتتبعثر الموارد.
6. التركيز على حسن إدارة المورد المعرفي الموجود أصلاً قبل تشتيت الجهود في اقتناء أصول معرفية إضافية جديدة قد لا تقوى المنظمة على هضمها والاستفادة منها فالبداية الصحيحة مهمة جداً في مجال إدارة رأس المال الفكري.
7. تنمية قدرة تشخيص هوية الأصول المعرفية الحقيقية، حيث أن هناك إشكالية تتجسد في اعتبار الإدارة العليا نفسها أو بعض الحلقات الإدارية القريبة منها مورداً معرفياً وحيداً في المنظمة الأمر الذي يولد الإحباط عند الأصول المعرفية الأخرى.
8. بذل جهود كبيرة لخلق المعرفة الذاتية، أو تكوين رأس المال المعرفي الخاص بالمنظمة، حيث أن التجارب أثبتت أن المعرفة المستوردة من الخارج غالباً ما تكون استهلاكية تزول بسرعة إلا ما يتبقى منها متجسداً في بعض الأصول المعرفية ومساهماً في بناء رأس المال المعرفي للمنظمة.
7. مداخل تأطير إدارة رأس المال المعرفي
إن المعرفة وإدارتها خضعتا إلى تنظير عميق ومتعدد الاتجاهات من قبل المتخصصين في مختلف العلوم وممارسين في مختلف المهن وحسب طبيعة عمل منظمات الأعمال ما كان منها منتجاً للسلع والخدمات. يرى (O'Dell and Jackson, 1998, P.4-5) أن إدارة المعرفة ما هي إلا إستراتيجية دقيقة للحصول على المعرفة الصحيحة في الوقت الصحيح وللأفراد المناسبين بحيث تساعد هذه الإستراتيجية على تقاسم المعلومات وتؤدي إلى تحسين إدارة المنظمة. ويرى آخرون أنها أي إدارة المعرفة مجموعة من العمليات التي تحكم خلق وهضم واستغلال ونشر المعرفة للوصول إلى أهداف المنظمة.
ويؤيد أغلب الباحثين بكون إدارة المعرفة هي إطار يحوي في داخله أربعة عناصر هي عمليات الإنتاج، تكنولوجيا المعلومات، الخزين المعرفي، والسلوك الشخصي (Kakabadse et. al, 2003, P.79).
ولغرض التعامل الصحيح من الناحية الإدارية والممارسة التنظيمية فإننا نرى أن عمليات التخطيط والتنظيم والقيادة والرقابة على خلق وهضم واستغلال ونشر المعرفة يجب أن تسود في أي منظمة من المنظمات لكون المعرفة أصبحت رأس مال يتم التعامل معه كما هي الحال مع الموارد الأخرى.
ولكون المعرفة تركيب معقد وليس مفهوم بسيط فإننا نلاحظ اجتهاد العديد من الباحثين وطرح آراء وأفكار لدراسته في مداخل متعددة. ورغم تعدد هذه المداخل فإننا نجد تكامل معرفي وترابط منطقي في طرح الرؤيا حول المعرفية وبالتالي فإنها أي المداخل لا تتعارض في توضيحها للمعرفة وإدارتها.
إن أهم هذه المداخل هي :
1. المدخل الفلسفي : يؤكد هذا المدخل بكون إدارة المعرفة معنية بالتنظير العلمي للمفهوم المعرفي (Epistemology of Knowledge) وتهتم بكيفية جمع المعلومات حول الحقائق الاجتماعية والمنظمية وتركز على أهداف وأنواع ومصادر المعرفة. كما تركز على العلاقة بين المعرفة والمفاهيم الأخرى مثل درجة التأكد والسببية وتبرير المعتقد والشك وغيرها.
2. المدخل الإدراكي : يمثل هذا المدخل مساهمة علماء الإدارة ونظرية المنظمة والسلوك التنظيمي، وينظرون للمعرفة من زاوية قيمتها الاقتصادية ويعتبرونها أصل إستراتيجي مهم وشرطاً لبقاء المنظمة منافسة في السوق بكفاءة وفاعلية لذلك لا بد لها من أن تحصل على قدر من المعرفة والخبرة بهدف تطبيقها لحل المشاكل الإدارية والتنظيمية واستثمار الفرص المتاحة.
3. المدخل الشبكي : يقوم هذا المدخل على نظريات المنظمات الشبكية، حيث يفسر إدارة رأس المال المعرفي من خلال تركيزه على اقتناء وتقاسم ونقل المعرفة من خلال أنماط تبادل أفقية وانسياب متداخل للموارد وخطوط اتصال تبادلية, ويعتبر أن اقتناء وتقاسم المعرفة بأنها الحلقة الأولى في سلسلة التعلم التنظيمي (Organizational Learning) الذي تليه ممارسات جديدة أخرى ترى المنظمة أنها ضرورية.
4. مدخل الممارسة الجماعية : يستند هذا المدخل على المنظور الاجتماعي والتاريخي لدراسة المعرفة، حيث يرى أن المعرفة العلمية (البعض يرى المعرفة بشكل عام) أنها ملك عام للجمهور أو المجموعة أو أنها لا شئ على الإطلاق وليس هناك إلا الاتفاق والإجماع في تداول المعرفة وأنها نقلت من أجيال إلى أجيال بعملية تقليدية. إن المعرفة في إطار هذا المدخل تمثل التزام وثقة للمجموعة في الرصيد المعرفي المتراكم.
5. المدخل الكمي : في إطار هذا المدخل تمثل المعرفة نظاماً متكاملاً للتعامل مع المشكلات بطرق علمية محددة تعطي نتائج تتصف بالأمثلية. إن تكنولوجيا المعلومات والاتصال تتغير في إطار هذا المدخل لتأخذ بعداً عملياً يتعامل مع مشكلات معقدة وكبيرة ويعطي أهمية للأفراد من خلال المعرفة التي يزودهم بها.
الخلاصة والاستنتاجات
في إطار هذا البحث حاولنا استعراض المتاح من الأدب الإداري حول مفهوم المعرفة ورأس المال المعرفي وإظهار أهمية كون رأس المال المعرفي يمثل ميزات تنافسية للمنظمات المعاصرة. ويلاحظ الانتقال من التركيز على المنظمات كوحدات تنافسية تقدم السلع والخدمات في إطار تنافسي تقليدي قائم على تحقيق تميز نوعي وإيداع وابتكار مستمر إلى اعتبار هذه المنظمات نظم معرفية تحاول أن تخلق ميزات تنافسية قائمة على أسس غير ملموسة وجديدة وهو أمر غير معهود في الفترات السابقة. وهكذا يمكن استخلاص الاستنتاجات التالية :
1. ضرورة فهم وإدراك أهمية رأس المال المعرفي في عالم اليوم.
2. إن رأس المال المعرفي عملية تراكمية ولكنها تتطلب الاستمرار وذلك للخصائص التي يتمتع بها هذا النمط من الأصول غير الملموسة الفريدة وأهمها خاصية سرعة التلاشي.
3. تدل كثرة البحوث والدراسات ومن قبل باحثين ينتمون إلى اختصاصات متنوعة مثل الفلسفة وإدارة الأعمال والاقتصاد ونظم المعلومات وتكنولوجيا المعلومات والفيزياء وغيرها على حيوية رأس المال المعرفي وضرورة تنميته والاحتفاظ به كأصل رئيس في المنظمة.
4. تعطي خصائص رأس المال المعرفي من ندرة وقيمة عالية وعدم قابلية للتقليد إمكانية اعتباره أصل إستراتيجي للمنظمة يتطلب من الإدارة العليا أن تركيز جهود في سبيل الاستفادة منه.
5. ضرورة أن تدرك إدارة المنظمة أهمية التشخيص الواعي لما يشكل رأس مال معرفي من مواردها البشرية العاملة لغرض العناية بهذه الموارد وتطويرها والاستفادة منها لخلق ميزات تنافسية مستدامة.
6. بالرغم من وجود مداخل متعددة لإدارة وتأطير رأس المال المعرفي فإننا نؤكد على ضرورة العناية بمدخل الممارسة الإدارية الواعية والذكية فيما يتعلق بالتخطيط والتنظيم والقيادة والرقابة والتوجيه.
د. صالح مهدي العامري
د. طاهر محسن الغالبي
المصادر
1. April, Kurt A., "Guidelines for Developing a K-strategy", Journal of Knowledge Management, Vol.6, No.5, 2002.
2. Bollinger, Audrey S. and Robert D. Smith "Managing Organizational Knowledge as a Strategic Asset", Journal of Knowledge Management, Vol.5, No.1, 2001.
3. Bueno Campos, Eduardo and Paz Salmador Sanchez, "Knowledge Management in the Emerging Strategic Business Process: Information, Complexity, and Imagination", Journal of Knowledge Management, Vol.7, No.2, 2003.
4. Jang, Seung Kwon et. al, "Knowledge Management and Process Innovation: the Knowledge Transformation Path in Samsung SDI", Journal of Knowledge Management, Vol.6, No.5, 2002.
5. Kakabadse, Nada K. et. al, "Reviewing the Knowledge Management Literature: Towards a Taxonomy", Journal of Knowledge Management, Vol.7, No.4, 2003.
6. O'Dell C. and Jackson C., "If Only we Know What We Know: The Transfer of Internal Knowledge and Best Practice", Free Press, New York, 1998.
7. Prahalad C. K. and Hamel G., "Strategy as a Field of Study: Why Search for a New Paradigm", Strategic Management Journal, Vol.15, 1994.
8. Quinn G. B. et. al, "Managing Professional Intellectual: Management the Most of Best", Harvard Business Review, March-April, 1996.
9. Stewart T. A., "Intellectual Capital: The New Wealth of Organizations", Business Quarterly, Vol.3, 1994.
10. Wiig K. M. et. al, "Supporting Knowledge Management: A Selection of Methods and Techniques", Expert Systems with Applications, Vol. 13, No.1, 1997
نشرت فى 12 يونيو 2011
بواسطة ahmedkordy
أحمد السيد كردي
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
30,876,849