في داخل كل فرد منا سمة من سمات الشخصية النرجسية، يختلف ظهورها من شخص إلى آخر، اعتماداً على درجتها. صحيح أن حب الذات والاعتزاز بالنفس هما أمران مشروعان لكل إنسان، لكن الإفراط في عشق الذات، لاسيما من قِبل الشريك، يمكن أن يحول حياة الآخر إلى جحيم لا يطاق. هل تنجح العلاقة مع شخص لا يهتم إلاّ بذاته ولا يعشق إلاّ نفسه؟ هل يجب السكوت عن تصرفات الشريك الذي لا يكترث لمشاعر الآخرين، أم يجب مواجهته؟
شبهت «جنيفييف ديناتي»، اختصاصية في علم النفس، النرجسية بالكوليسترول، إذ يوجد منه الجيد والضروري لصحة الإنسان، وهناك السيئ منه الذي يجب التخلص منه، لأنه يؤدي إلى الإصابة بأمراض القلب والشرايين القاتلة. هكذا هي النرجسية، قليلها يؤشر إلى الثقة بالنفس والاعتداد بالذات واحترام الذات، وكثرتها تعني المرض والهوس. كذلك، يشرح ستيف كارتير وجوليا سوكول في كتابهما «النجدة أنا أعيش مع شخص نرجسي»، النرجسية مشيرين إلى أن كل فرد منا يمتلك درجة من سمات الشخصية النرجسية، تتفاوت بين البسيطة والمرضية القاتلة. فمن منا لم يسمع شريكه يتباهى بإنجازاته وآرائه أمام الأصدقاء أو في خلال اللقاءات، ويعرب عن بهجته ورضاه عن الاهتمام الذي تمكن من جذبه؟ في المطلق، لا ضرر من مسألة حب الذات والتباهي بالنفس، مادام الأمر باقياً في حدود احترام الآخر. لكن، ما إن يتخطى الأمر الحدود الطبيعية للعلاقات الثنائية حتى تظهر المشكلات، وتتعقد الأمور، لاسيما عندما يتضح لأحد الطرفين أن شريكه لا يولي أي تقدير لغير الأنا الخاصة به، ولا يهتم بأي أحد غير نفسه ولا يعشق أي شخص غير ذاته.
العيش مع نرجسي
كيف وصل بك الأمر إلى الارتباط بصاحب هذه الشخصية النرجسية؟ ألم تلاحظي تصرفاته ومدى عشقه لذاته؟ هذه الأسئلة وغيرها تطرحينها على نفسك، في كل مرة تشعرين بأنه أهملك ولم يقدّر مشاعرك أو أفكارك. قد تلومين نفسك على هذا الاختيار، ولكن عليك أن تعرفي جيداً أن الإنسان النرجسي يبرع في خداع الآخرين. مازلت تتذكرين كلمات الإطراء والمديح التي غمرك بها في بداية علاقتكما. كان يكثر من مديحه كي يخفي نرجسيته التي عادة ما تفضحها عبارات مثل: «أنا الأجمل»، و«أنا الأذكى»، و«أنا الأكثر سحراً». وما يقهرك أكثر، أنك كنت تستظرفين تلك العبارات وتعتبرينها دليل ثقته الكبيرة بالنفس. وعندما لاحظت أنه نادراً ما يطرح عليك الأسئلة، وأنه لا يهتم أبداً بمشاعرك، بل يطالبك بمزيد من الاهتمام به، وأن كل قراراته يتخذها بناء على مصلحته ومن أجل منفعته الخاصة، كان الأوان قد فات للتراجع وإعادة التفكير في علاقتكما، فقد وجدت نفسك واقعة في شرك هذا النرجسي. لا تظني أن الأمر حدث بسهولة، فالنرجسيون مشهورون باحتيالهم وبخططهم في اصطياد ضحاياهم. هذا الشخص الذي يعتبر العالم بأسره مجيراً لخدمته ومدحه، هذا الذي لا يرى في المرآة سوى صورته، سوف تجدينه حزيناً يستدر عطفك ويعترف لك بكل تواضع بأن لا أحد يفهمه، وأنه إنسان حساس جداً، هكذا ينصب فخه بإحكام تام. يشرح ستيف كارتير وجوليا سوكول أن ذلك التناقض في الشخصية هو الشرك الذي يبرع كل نرجسي في نصبه. هو يدرك تماماً أن النساء سيتأثرن بضعفه وحساسيته، وأنهن لن يترددن في تأدية دور الأم، لكنهن سرعان ما يصبحن معتمدين عليه. في هذه اللحظة، ينقض هو على فريسته، والضحية المثالية بالنسبة إلى النرجسي هي تلك التي تعرب عن خوفها وقلقها، من الانفصال عنه. للأسف، تبدو مسألة بناء علاقة عاطفية مع إنسان نرجسي أمراً مستحيلاً، لأن الآخر بالنسبة إليه ليس سوى مرآة يتأمل من خلالها ذاته إلى ما لا نهاية.
الإنسان النرجسي بارع في خداع الآخرين مرآتي يا مرآتي
يعتبر علماء النفس أن الإنسان النرجسي لايزال يعيش في مرحلة التعلق بوالدته، فما معنى ذلك؟ يعتاد الطفل، منذ لحظة ولادته، على مشاهدة ذاته في عيني والدته، وهو ما يمكن وصفه بالعلاقة العاطفية الأولى التي يختبرها في هذه الدنيا. لهذا يسعى الإنسان في بداية كل علاقة جديدة إلى التفتيش عن جنة العشق الضائعة، عن تلك اللحظة التي يعيشها في وهم تام بأنه هو الأفضل في نظر الآخرين، تماماً كما كان في نظر والدته. لكن، ما إن يستيقظ من وهمه ويعود إلى الواقع، حتى يدرك أن هذا الآخر قد خذله، وأنه لم يعد هو الأفضل بالنسبة إليه.
العكس تماماً يحصل مع الإنسان النرجسي، فهو يفكر دائماً في أنه الأفضل والأحسن، وأنه فوق الجميع وأنه شخص نادر الوجود، وهو ينتظر من الآخرين احتراماً من نوع خاص لشخصه وأفكاره، فهو استغلالي ووصولي يستفيد من مزايا الآخرين وظروفهم لتحقيق مصالحه الشخصية. باختصار، هذا الآخر غير موجود بالنسبة إلى النرجسي.
يخطئ من يعتقد أنه قادر على فهم النرجسي، وتغييره، فالأمر ليس بمثل هذه السهولة، لا بل يمكن القول إنه من المستحيلات، والسبب في رأي علماء النفس، يعود إلى أن النرجسي متمركز حول ذاته وشخصيته، فهو يستميت مثلاً من أجل الحصول على المناصب لا لتحقيق ذاته وإنما لتحقيق أهدافه الشخصية.
كيف تستقيم الحياة مع هذا المريض بحب نفسه؟ الأمر الوحيد الذي يمكن أن يفعله الإنسان الذي يعيش مع نرجسي، غير الهرب بعيداً، هو اتخاذ قرار صارم بالاهتمام بنفسه، وتعلم كيفية وضع حدود لطلبات شريكه العاشق لذاته. وبدلاً من تمضية الوقت في محاولة تهدئة نوبات نرجسية الشريك وتحقيق مطالبه، يمكن استغلال هذا الوقت في القيام بأعمال خاصة به، أو التوجه إلى نادٍ أو مشغل رسم أو أي مكان آخر لا تطوله أهواء النرجسي.
عندما سئلت جنيفييف ديناتي عن سلوك النرجسي في العلاقة العاطفية، أوضحت أن في اعتقادها لا يصح استخدام عبارة علاقة عاطفية، لأنه لا يمكن الحديث عن تبادل العواطف والمشاعر مع إنسان نرجسي يعشق ذاته ولا يولي الآخرين أي اهتمام، لأن أهمية الآخر تعتمد على ما يقدمه له. يتحول شريك النرجسي في الحياة إلى مجرد خادم، مهمته الوحيدة الاهتمام بشخصه وتبيان عظمته. هل النرجسية مرض نفسي يحتاج إلى علاج؟ إنه سؤال أساسي يفرض ذاته، لكن النرجسية بالنسبة إلى جنيفييف تنتج عن خلل ما في مرحلة «عقدة أوديب» التي يمر بها الطفل. لتبسيط الأمر أكثر، تعبر النرجسية عن إحدى مراحل النمو التي يمر بها جميع الأفراد. ففي السنة الأولى من العمر، نجد الطفل الصغير متمركزاً حول ذاته، إذ يكون هو محور العالم، وبعد سنوات عدة ينتقل ليتمركز حول الآخرين، أي أنه يبدأ بحب ذاته ثم ينتقل إلى حب الآخرين. أحياناً يحصل خلل، فيستمر الطفل في التمركز حول ذاته إلى ما لا نهاية.