بداية،هناك فرضية تقول بأن غياب العدالة في المجتمعات يؤدي إلى حضور فكرة العمل الخيري وبقوة. فإذا تحققت العدالة حتى في حدها الأدنى، فإن الحاجة إلى العمل الخيري لن تكون بنفس الدرجة، لا بل، ربما، لن يكون للعمل الخيري مكانا.سنحاول في هذا المقال مناقشة "باختصار" العلاقة بين المفهومين. العمل الخيري هو حالة من التلطيف للظلم القائم في المجتمعات، ولو بحثتا عن تعريفات أخرى للعمل الخيري فلن نستطيع الخروج كثيرا عن هذا التعريف. وبما أن العدالة هي حكم القانون في المجتمعات فإن العمل الخيري لا يأخذ طريقه للوجود إلا كمكمّلٍ لحالة من عدم تطبيق القوانين بشكلها الصحيح. ضمن هذه الحالة، إن العمل الخيري لن يختفي نهائيا من المجتمعات لأن إمكانية تطبيق العدالة الصحيحة هو أمر مستحيل، ومن هنا تكمن الحاجة للعمل الخيري الدائم والمنظّم، ليس لأننا نرغب باستمراره،الذي يعني استمرار حالة من اللاعدل في المجتمع، ولكن لأننا لا نستطيع تجاوز فكرة العمل الخيري. لقد عمل الكثير من المثقفين و المفكرين عبر التاريخ على العلاقة بين العمل الخيري والعدالة. كتب الفيلسوف " هيغل" في " مبادئ فلسفة الحق"، وفيما يتعلق بالصراع ضد " البؤس و الحاجة" عند البشر:" حالة العمل العام هي أكثر كمالا مما هو متروك لمبادرة الفرد، والذي في رأيه الخاص هو اقل أهمية بمقارنته مع نتائج العمل الجماعي". في هذه الجملة الأخيرة نرى الإشارة الواضحة إلى "العمل الخيري". فالعمل الفردي بالنسبة له هو " أخلاقية أو سلوك شخصي"، أما " الشكل الجماعي للعمل الخيري" فإنه يأخذ طابع القانون و الحق لأنه مضمون بواسطة قواعد "إجبارية" ناتجة عن الجماعة.
فيما يتعلق بالمساعي الحميدة للعمل الخيري، فإن واجب الدولة :" أن تجعل من هذا العمل الخيري، والذي هو مكمّل للعدالة الناقصة، كشكل من أشكال القانون أو الحق"؛ وإذا أردنا قبول المبادرة الفردية:" فإنها ستجد مكانا جيدا لها رغم وجود التنظيم الجماعي". يُعتبر الرأي الهيغيلي هنا بمثابة دعم قوي لتوضيح الفرضيات الرئيسية التي تتطلبها رؤيتنا للعمل الخيري كتلطيف لحالة غياب العدالة. يمكن القول، إذا استندنا إلى ما سبق، إن العمل الخيري و العدالة "المفترضة من قبل الدولة"، يمكن النظر إليهما كمتنافسين، فاتساع أحدهما يعني ضعف للآخر،علما أنهما،في النهاية، فكرتين موجهتين للقيام بنفس الهدف أو الغاية. محتواهما متشابه لكن شكل ونموذج التطبيق سيكون مختلفا.
فالشخص الذي لا يلقى ما يأكله أو ليس لديه وسائل للعيش، فإن مأكله يمكن أن يأتي عن طريق جماعة لها شكل مؤسسة رسمية أو أهلية، أو عن طريق أفراد يعملون كمتطوعين خاصين وليس مع جهة رسمية. ولكن من المفترض أن تكون العدالة أفضل شكلا وعملا من العمل الخيري، لأن هذه الأخيرة تعتمد على أخلاق وسلوك شخصي، بنما العدالة تستند إلى القانون، واحترام القانون والحق لا يتعلق بأحكام شخصية وفردية. إذا كنا مثاليين جدا، سنقول بأن العدالة تستطيع لا بل يجب أن تحل مكان العمل الخيري،ولكن بهذه الحالة نحن نفترض أن العلاقات بين البشر هي أقوى من بحثهم عن إشباع حاجاتهم الشخصية. وفي هذه الحالة العمل الخيري ليس إلاّ إضافة لما هو قائم. نحن نعرف أن هذا النوع من العلاقات لا يمكن الوصول إليه، ومن هنا تأتي أهمية مأسسة العمل الخيري إلى أن يصل لقوة في العدالة توازي العدالة الرسمية الغائبة أو الناقصة.
إن المطالبة ببناء مؤسسة موازية للعمل الخيري توازي العدالة الرسمية، يقودنا لطرح سؤال غاية في الأهمية : هل للعمل الخيري مضمونه ومحتواه الخاص به؟ في الواقع هناك أشياء خاصة بالعمل الخيري و أخرى بالعدالة، مع العلم أنهما متشابهين فيما يتعلق بتلبية حاجات الإنسان الأساسية: السكن، المال،الغذاء و الدواء..الخ. لكن خصوصية العمل الخيري تأتي من أنه يستطيع تقديم ما هو غير مطلوب بالحالة الطبيعية. أو بمعنى آخر، إن العمل الخيري هو إعطاء الآخرين ما يحتاجونه و لكن ليس لديهم الحق فيه من وجهة نظر العدالة الرسمية. وانطلاقا من الصفات النوعية التي يتميز بها العمل الخيري، يمكن تقسيم محتواه إلى ثلاثة أقسام رئيسية:
1- يقصد بمحتوى العمل الخيري كل ما لا يمكن حدوثه إلاّ من خلال هبة تقدم بحرية ويتم اتخاذ القرار بشأنها بشكل شخصي،بحيث أن أي شكل آخر من العطاء، أي ليس حرا وغير نابع من الشخص،يذهب بهذا المحتوى.
2- يمكن أن يشمل محتوى العمل الخيري كل ما يمكن أن يكون واجبا، ولكن إذا لم نقم بهذا الواجب من التقديم والعطاء فهذا ليس بظلم لأحد لا من الناحية القانونية ولا الناحية الأخلاقية. يمكن إعطاء بعض الأمثلة على ذلك : أن ننقذ شخصا من الموت سبق وان اعتدى علينا،تكريس الوقت والمال لزيارة بعض السجناء الذين لا نعرفهم في السجن؛ زيارة مرضى غرباء في المستشفى..الخ.
3- في العمل الخيري صفات لا يمكن تحقيقها بوضع نظام رسمي للعدالة. فعندما نقدم عطاء معينا فإنه بالإمكان تقديمه مترافقا مع عطاء آخر ومن نوع مختلف، ووحده العمل الخيري يمكنه القيام بذلك. فعلى سبيل المثال يمكن أن نقدم الخبز لمحتاج أو فقير إما لأن القانون يأمر بذلك، أو لأن العمل الخيري يتطلب القيام بهذا بالفعل؛ لكن الشكل في تقديم العطاء هو الذي يختلف. أي الشيء الذي نقدمه وهو غير نابع من لطفنا وعنايتنا بالآخر يمكن تقديمه بشكل فيه لطف وعناية، وهذه من صفات محتوى العمل الخيري. هذا المحتوى الذي يتمتع به العمل الخيري يدحض الفكرة القائلة بأن العدالة الكاملة تنتزع من العمل الخيري أسباب وجوده.
ونضيف على ذلك، إذا تعذر على العدالة أو عجزت عن القيام بالعطاء، فإن العمل الخيري يمكنه القيام بما تعجز عنه هذه العدالة. إذن، لا يمكن للعدالة أن تدعي الخصوصية في مهامها أو أنها ذات أولوية، فهي لا تستطيع أن تعطي للإنسان كل حاجاته، حتى الجوهرية منها. العمل الخيري وحده هو الذي يستطيع القيام بذلك، إن كان من خلال محتواه الذي تحدثنا عنه أو شكله المترافق مع عطاءات أخرى غير متوفرة في غيره. والعمل الخيري هو الموقف الوحيد الذي يرتقي إلى المستوى الإنساني أو مستوى الإنسان نفسه.