موقع الدكتور عبد الحكيم العبد على كنانة أون لاين

صفحات لنشر المؤلفات ومخاطبة القارئ والتعبير عن مكنون النفس

القسم الثالث

 علم الجمال إسلاميا

 عصرنا والجمال فى التراث العربى

العِلْم والمفهوم – المتوافر منه (المجالات)- الأطر(فيه ، وهو، وعنه، وبه)

 ♦ الجمال فى عصرنا يُعَدُّ علما أو يطمح أن يكون كذلك ؛ خاصةً فى الشِّق العام منه ؛ ذلك أن شقه المتعلق بعبقرية اللغة العربية (شأنَ الجمال بخصوصه فى كل لغة أو أدب على حدة)  يظل منوطا بهذه اللغة أو هذا الأدب ؛ حيث هو فيهما معرفة مستوعبة (ابستمولوجيا) ، وقد توافر منه فى التراث العربى أمور:

 ♦ توافر منه عندنا:

نظرية مستوعبة في الذوق والاعتقاد .

وبلاغة بالمعنى التكاملي المستنير لمصطلح البلاغة .

تطبيق ؛ إذ هو في البعد الثالث بلا ريب مزاج من هذين لدى التمثل أو التطبيق فى الفنون الإنسانية الجميلة والعملية بعد ذلك ، وإن أثيرت صدده مشكلات.

كذا كان البعد الكونى الميتافيزيقى حاضرا حقا فى القرآن؛ وإن أعوزنا التنظير له بمصطلحات فن مناظرة. 

 

          ♦ على هذه الأوجه يمكننا رصد الجمال فى القرآن الكريم فى أربعة أطر:

إطار "جمال  فـيه" ؛ أى بلاغة وإعجاز .

          إطار "جمال هو" من حيث هو وحدة قيم ونظرية فى الذوق والاعتقاد . 

إطار "جمال عـنــه" فى ضوء قضايا الفن العامة ، فى أفضل تجريد أو تنظيم لها فى البحوث العربية الجامعية اليوم؛ (فى ضوء علم الجمال الحديث)

إطار "جمال به"؛ أى فيما يبدعه المسلم من فنون إنسانية خاصة ، من قبيل فن  الخط والمعمار ، ويلتزم فيه التصوير شروطا وفقوها دقيقة كما سنحيل ، وبحث خاص فى قضية التصوير فى الإسلام ؛ استوضحتُ بها جميعا موضوع هذا الملحق الرئيس : الجمال فى القرآن الكريم : مفهومه وتصرفاته ومجالاته ، وفاء ببعض حاج القرآن إلى الإدراك المجدد ، وحاجِ إعجازه إلى البينة الناصعة ؛ فضلا عن حاجة  الجمالية الإسلامية نفسها إلى التنظير والتنظيم ، كعلم ناشئٍ شكلا ، عريقٍ موضوعا.

 

                                   I

جمال القرآن

الجمالية الخاصة

 جمال فيه . فى بلاغته

 (سبق بيانه)

 

I I

جمال القرآن

جمال هُــوَ

 (من حيث هو مقاربة ووحدة قيم ونظرية فى الذوق والاعتقاد)

 

- هنا أيضا الجمال متحصلا من القرآن أو عنه من حيث هو فقه بلاغى غائى محصل فى  العناصر المذكورة ، على ما نفصل أيضا :

 

1- مقاربة: بمعنى التعامل بلا واسطة مع صريح لفظ الجمال فى القرآن الكريم ومعارض وروده ، وذلك مثلا :

▪حيث يصف مباشرة مظاهر تنعم بنعمة مسداة كالأنعام فى الرواح والسراح

▪ وكذا فيما هو خُلُق نفسي : فى الصبر والصفح .

▪ فضلا عن كونه معاملة مترقية حتى فى تسريح النساء وفى هجر المؤذين .

قال تعالى :

"فاصبر صبرا جميلا"                                      (5 ك المعارج 70)

"وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل" (85 ك الحجر)

"قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان"(18 ك يوسف 12)

"قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتينى بهم جميعا"                                                          (38 ك يوسف 12 -15 )

"واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا"  (10م المزمل 73)

"فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا"    (28 م الأحزاب 33 )

"فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا" (49 م الأحزاب 33 )

"ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون" . (6 ك النحل 16)

 

- هذا الجمال تحتمله بعض مضامين الزينة فى ( 13 ) صيغة  ، توزعت فى  ( 46 ) مرة فى معانى :

- سىء الأعمال وسىء العبادة والصفات والغواية والعيش وأبهة الحكم  وسىء التزين أو إبدائه وكناية عن جسد المرأة  أو بعضه .

  - وفى جميل الطبيعة والمظهر والامتلاك والأبهة والاعتقاد والتبنى والاقتناء والاحتفال والتحلى بالحلى .[1]

2-  فيما بين جميل الجمال وقبيحه:

 ▪ فيما بين جميل الجمال وقبيحه ، حلال الزينة وحرامها ، حوار لا نستغرب أن يوصف بأنه درامى  يتغيى تحقيق معادلة ينبغية أو محاكاة  لما ينبغى أن يكون ، بلغة ما زال يتغياها كل إبداع وإن أطال وقصر شيئا ما.

 

▪ أما فى الإسلام فوجازة معروضها فى القرآن الكريم تجعلها شديدة الوقع قوية الأثر ؛ فما بالنا إذا عززت بحديث وحوار من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الأبرار:

 

- ففى صحيح مسلم عن محدثين فى سلسلة إلى عبد الله بن مسعود رضى الله عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : "لا يدخل الجنة من كان فى قلبه مثقال ذرة من كبر . قال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة . قال صلى الله عليه وسلم : " إن الله جميل يحب الجمال " الكبر بطر الحق وغمط الناس" [2]  .

- بطره هنا بمعنى دفع الحق ورده عن صاحبه وغمط الناس : استصغارهم واحتقارهم  .

- قال تعالى بالتوازى مع ذلك ناهيا عن التكبر والتبختر :

" ولا تصعِّر خدك للناس ولا تمش فى الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور " (ى18 لقمان 34) .

- وضرب سبحانه وتعالى مثلا بقارون فى قومه وبهم مفتونين بثرائه وزينته وعلى لسان ووعاةٍ ناصحين فى سورة القَصص : قال :

"إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين * وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد فى الأرض إن الله لا يحب المفسدين * قال إنما أوتيته على علم عندى أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون * فخرج على قومه فى زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتى قارون إنه لذو حظ عظيم * وقال الذين أوتو العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون * فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين * وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويْكَأَنَّ الله يبسط الرزق لم يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويْكَأنه لا يفلح الكافرون * تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا فى الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين * من جاء بالحسنة 0000 ومن جاء بالسيئة .. " (ى 76 – 84 ك القصص 28)

 

▪ الكبر والإبهار والانبهار بجمال هو محض نوع سلبى للزينة ، مقصوصٌ أو مسرودٌ ومحاوَرٌ ؛ ومعادَلٌ جمالُه الخادع بجمال أجلى وأبقى ، منصورٍ بتصديق العاقبة . وفى ذلك المستوى من السرد ؛ بل هاتيك المستويات فى المستوى السردى القرآنى الذى لا يقلَّد أو يتكرر ، وقفنا على عُروض للباقلانى ولنا  ولبعض المستشرقين وغيرهم . فى السرد القرآنى خاصة يقول ثروت أباظة ناعيا تقصير مؤلفينا فى التأليف فى أسلوبية القرآن والوعى بجمالياته :

" وقد كان الأجدر بنقادنا أن ينتبهوا إلى هذه الفنِّيَّة فى السرْد القصصى فى القرآن الكريم ، ويقوموا عنى بهذا الكتاب :أى كتابه الذى توج حياته العامرة به " السرد القصصى فى القرآن الكريم " [3] .

 

3-  الجمال ووحدة القيم فى القرآن :

▪ معنانا من أن الجمال فى القرآن الكريم فقه بلاغة  كاملة أنه لا يفصل / أو لا تفصل بين الموضوع والشكل ، ولا بين العقل والذوق ولا بين الفكرة والكلمة ؛ إذ إنها تعمد إلى إقناع الناس عقلا وقلبا ، وتسيطر على النفس بالقيمة الخلقية المتحدة مع سائر القيم فى كل عمل : أدبيا كان أم طبيعيا أم عمليا ، بدرجة تبرر الأثر الذى وجدناه صدى لها فى حدس الكاتب الأدبى الإسلامى والناقد المستوعب أحمد حسن الزيات عن الإسلام جملة : القرآن الكريم ، والنبى الخاتم وحديثه سلوكه وعن التشريع وغيره .

 

▪ فى كل ذلك وحدة لا انفصام لها بين القيم والمقولات العليا : الحق والخير والجمال [4] ، الذى يضطرب التعريف به والتنظير له فى الفنون الغربية ولا سيما فى علاقة الفن بالمنفعة ، كما بينا فى بحث آخر [5] .

 

▪ وحقا وجدنا السماحة الذائقة فى القرآن الكريم وفى النقد العربى الأصيل ولاسيما فى مدرسة أدباء الكتاب والمتكلمين الأشاعرة ، كما وجدنا أن صلة الإبداع بالأخلاق لا تمنعه بل تقتضيه أن يصور الحقيقة عارية أحيانا أو مستبشعة ولكنها تسمو بنا أيضا . وفى القرآن الكريم – مع جلالة قدره – أمثلة لذلك : كتصويره إغراء امرأة العزيز أمام تشبث يوسف عليه السلام بموقف العفة والوفاء ، وكتصويره كشف ملكة سبأ عن ساقيها فى حضرة نبى ، وكتصويره موقف موقف الصلاح لأحد ولدى آدم  أمام جسد مقتوله الأخ ، وغير ذلك كثير مما لا يقبح إنشاده على ما سيلى تطبيقه فى مبحث (النزاهة) فى الهجاء القرآنى [6]

 

لذلك غلب استخدام لفظ " القلب " فى القرآن الكريم للدلالة على ما نفهمه من القلب والعقل معا :

-                     فوردت كلمة القلب فيه مفردة ومثناة ومجموعة ومسندة {137} مرة  

-                     بينما وردت كلمة العقل على هذه الأنحاء {51} مرة فقط

-                     كما اجتمعت الكلمتان مرتين على الأقل ، فأسندت فعل العقل إلى القلب فى :

" أفلم يسيروا فى الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها " [7]

 

- واجتمعت الكلمات لتدل على التفاعل بينهما فى :

" تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون " [8].

مظهر هذه الوحدة فى القرآن الكريم ماثل فى مثل ما مر من قوله تعالى :

" ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح "

وهى التى تجمع إلى الزينة النفع ، كما فى قوله تعالى :

" وعلامات وبالنجم هم يهتدون ".

 

إلى ما رصده العلم الحديث من قيمة الوظيفتين : الجمالية والعملية فى مثل القول القرآنى المتمم للآية الأولى :

" وجعلناها رجوما للشياطين "

وهى النجوم القاذفة التى ترى فى الليل ، ولا ينفك البعد الكونى فيها عن البعد (الماورائى : الميتافيزيقى) ؛ لأنها متعبدة للخالق العظيم :

" والنجم والشجر يسجدان "

 

- والقرآن الكريم يُسند العقل إلى القلب كما يسند العمى إلى القلب الذى لا يعقل ، كما يدل على الجمال والمنفعة فى الأرض والسماء؛ فقد مد الله الأرض وجعل فيها رواسى أن تميد ، وأنبت فيها من كل زوج بهيج ، وجعل نجوم السماء ؛ كما خلق للناس من أنفسهم أزواجا ليسكنوا إليها وجعل بينهم مودة ورحمة ، وجعل المال والبنين زينة الحياة الدنيا ، وخلق الخيل والبغال والحمير ركائب وزينة ، وفرض عليهم السير فى الأرض للسياحة والارتزاق والتأمل والاعتبار كما مر.

 

4- الجمال : نظرية فى الذوق  عند المسلمين:

1 -  الذائقة البلاغية عند من ذكرنا من أدباء الكتاب و متكلمى أهل السنة ذائقة حاضرة دائما فيما كتب أو ألف من تحليلات مفصلة للنصوص ومن جدل قصد . بلغ أوجه وحسمه  عند الإمام أبى الحسن الأشعرى (330 هـ) ووجد تطبيقه الجمالى الأدبى عند غير واحد أبرزهم عبد القاهر الجرجانى ، ولا يعدم راشدو المتصوفة أنفسهم منه نظرا وتطبيقا من قبيل ما يلى عند الغزالى .

 

2 - بعض النظر البلاغى الضمنى عند الغزالى (451 – 505 هـ) [9]:

الذائقة البلاغية للغزالى ذائقة حاضرة دائما فيما كتب أو ألف ، وإن كان من مبدئه – وهو مبدأ أشعرى – الاقتصاد فى التقسيم والتدقيق إيثارا للتأثير بنهج أقرب إلى نهج القرآن الكريم فى المحاجة والجدال بالتى هى أحسن  .

 

بيد أنه قد توافر للغزالى نظام من المحاورة والتنظيم الكلامى الذوقى العقدى : نظرا وتطبيقا ويشمل :

- تعريفه اللفظ لغة واستعمالا (تفرقته بين المعنى اللغوى والمعنى المجازى)

- الذوق وحاجة الإدراك الإنسانى إلى التأويل

- الإدراك بالتكنية عن طريق الاستعارة والرمز ح على ما فى مصطلحاته من سبق على مرحلة التحديد الاصطلاحى بعده

- عين المعنى أو مثله هو باب الكناية عنده

- الوجه البلاغى للاستعارة

- المجاز العقلى والتشبيه التمثيلى .

 

- قال منتهجا النهج العلمى بالتعريف باللفظ فى اللغة وفى الاستعمال  ؛ وذلك صدد تفسيره العروج  الوارد فى الآية الكريمة :

"... ليس له دافع من الله ذى المعارج تعرج الملائكة والروح إليه... .."

(من ى 3 + ى 4 + بعض ى 5 -  المعارج 70 ) ؛ وما إليها بطبيعة الحال من مظان ورود اللفظ المكرر فى القرآن الكريم ( ثمانى ) مرات فى معنى الصعود وما إليه :

- "اعلم أن حقيقة العروج الصعود علوا. تقول عرجت فى السلم أعرج "

- ثم قال فى التفرقة بين المعنى اللغوى والمعنى المجازى أو ما يسمى المعنى الأولى والمعنى الثانوى بتعبير الجرجانى (عبد القاهر) وبتعبير من عصرنا الحديث نفسه :

والألفاظ لها وجهان من الدلالة : -

- فوجه فى الدلالة على الأشياء الجسمانية كمفهوم السلم والعروج

- والوجه الثانى : الدلالة على معانى الجسمانيات وأرواحها ؛ إما بطريق وضع اللغة ، وإما بالمجاز والاستعارة ..

 

- فسر المعارج لغة بأنها درجات السلم ، ومجازا بالبراهين الموصلة . وقال : " لما كان السالك الباحث إلى معرفة باريه تعالى طالبا للترقى عن ظلمات الجهل وأسفل السافلين من حضيض البهائم والجهلة ، وكانت البراهين والأدلة  الموصلة الموصلة إلى درجة العلوم شبه السلم الجسمانى الموصل إلى العلو الجسمانى ، وكانت مفردات البراهين ومقدمات القياس وأجزاؤه مادة له منها يتألف حاكت أضلاع السلم ؛ فإذا التسمية لا مشاحة فيها : إذ هى مفيدة " .

 

- وبنفس المنهج اللغوى البلاغى الذوقى  العربى المعلل الواضح فسر مجموع التشبيهات المتفاعلة فى الصورة التمثيلية القرآنية الرائعة فى قوله تعالى :

" أو كظلمات فى بحر لجى.." (الآية) ونصها : الكامل " أو كظلمات فى بحر لجى يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور " (ى 40 – النور 24).

- قال : " فعبر عن الاعتقادات الفاسدة بالظلمات ، وعن ترادف الشكوك بترادف الموج " .

-                     ذلك أن إلمام الغزالى بحدود الإدراك الإنسانى وتدرج المسلمين من الجمود إلى درجات من التأويل أحوجه إلى إعمال ذوقه الأشعرى فى تأويل الصفات الإلهية ، وهذا دعاه إلى بعض التناول التنظيرى التطبيقى البلاغى . وهو جهد – وإن كان جزئيا بالنسبة لأعمال الغزالى الأخرى – يدل على استمرار جهد الأشاعرة فى التعويل على الذوق البلاغى فى أعمالهم .

 

– قرر الغزالى أولا أن من وسائل الإدراك " التكنية بسبيل الاستعارة والرمز " ، ثم بين ثانيا القيمة (البلاغية) لذلك ، وهى فى تعبيره ط ليكون وقعه (الكلام ) فى قلب المستمع أغلب وله مصلحة فى أن يعظم وقع ذلك الأمر فى قلبه " . ثم وقف ثالث على ما يعرف فى البلاغة بالكناية والاستعارة ، وهو يفهم عنده من الأمثلة كما يفهم من التعريف ضمن مساحة حديثه الخاص ومنه ما وقف عليه من فرق ما بين الكناية والاستعارة .

- أورد مثالين :

  " رأيت فلانا يقلد الدر فى أعناق الخنازير "

- وقول الشاعر :

رجلان خياط وآخر حائـــــــك *    متقابلان على السِّماك الأعزل

لا زال ينسج ذاك خرقة مدبر *   ويخيط صاحبه ثياب المقبـل

– هذان المثالان باعتبار قوله : " عين المعنى أو مثله " فى باب الكناية البلاغى ، إذ تعريف الكناية فى ذلك العلم عادة أنها ( الدلالة على المعنى بلفظ غير ما وضع له فى الأصل دون مانع من إرادة المعنى الأصلى ) ، كما فى قولنا : لغة الضاد نعنى العربية ح إذ هى متضمنة للضاد فى أصواتها بطريقة خاصة بها حقا ح وذلك مباينة للاستعارة التى هى أيضا ( التعبير عن المعتى بلفظ غير الذى وضع له فى الأصل ولكن مع وجود قرينة مانعة من قصد المعنى الثانى على الحقيقة .) 

 

– كما وقف الغزالى على الوجه البلاغى للاستعارة. ومن أمثلة ذلك عنده :

- حديث : " إن المسجد لينزوى من النخامة .."   [10]              

- وحديث : " أما يخشى الذى يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار " [11]               

- قال الغزالى : " وذلك من حيث الصورة لم يكن قط ولا يكون ، ولكن من حيث المعنى هو كائن " . يعنى من حيث الواقع ومن حيث المعنى المجازى .

 

– كذا فرق بين المجاز العقلى والتمثيل :

-                     فعد فى الأول تمثيله بحديث : " قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن " ( بصيغة : " قلب ابن آدم على أصبعين من أصابع الجبار" / المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوى. ، مج 5 ، ص 454)

- قال : لو فتشنا عن قلوب المؤمنين  لم نجد فيها أصابع ، فعلم أنها كناية عن القدرة التى هى سر الأصابع " . وقد تعمق أكثر من ذلك الدلالة على معنى الأصابع خاصة ؛ إذ التعبير بها "أعظم وقعا فى تفهم تمام الاقتدار " ، وعد ذلك " روح الكناية الخفى " . وهو المنحى الذى أفاض فيه عبد القاهر على طريقته فى كتابه " أسرار البلاغة " .

- أما التمثيل فى معرض حديثه فضربان: تمثيل صورة وتمثيل حكاية حال :

- الضرب الأول : يمثله عنده قوله تعالى :

          " أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها " ( الآية ) ، وبقيتها : " فاحتمل السيل زبدا رابيا "               ( ى 17 – الرعد )

-                     والضرب الثانى تمثيل حكاية الحال . وطأ بمثل : " قال الجدار للوتد .." ، ليعد من الضرب قوله تعالى :

" ثم استوى إلى السماء وهى دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين "                           (ى11 فصلت )

" وإن من شىء إلا يسبح بحمده."      ( ى44 – الإسراء )

 

*وقف الغزالى عند هذا الحد من الإبانة البلاغية ؛ لأنه رأى لأرباب المقامات إسرافا واقتصادا ، وذكر فى الطرفين : أحمد بن حنبل والفلاسفة  : الأول : لتوقفه الذكى عن التأويل ، والفلاسفة لتأويلهم كل شىء ؛ فضلا عن مقام القصد الأشعرى ، ومقام الزيادة المعتزلية . وهى مقامات عنتنا فى مجال  علم الكلام أو علم التوحيد فى بحث آخر [12]  . ومن هنا عد الغزالى الأخذ من السمع المجرد فحسب مما لا يستقر معه قدم : بمعنى أنه يحتاج إلى ذوق فى فهمنا عنه . والذوق ميزة واضحة فى تنظيرات الغزالى وتطبيقاته البلاغية حقا ، كشف به – مع من ذكرنا أسرار المجاز لب الجمالية الأدبية العربية ك ما تتفق فيه مع كل اللغات وما تنفرد بحيازته من بيان أرفع فى إعجاز القرآن الكريم ورشد العقدية الإسلامية غير الجامدة على ظاهر اللفظ وغير المتجاوزة للقرائن .[13] 

 

*هكذا فى ضوء علم الجمال الحديث ، وضوء البلاغة والإعجاز ، وبحث خاص فى قضية التصوير فى الإسلام ؛ استوضحتُ بها جميعا موضوع هذا الملحق الرئيس : الجمال فى القرآن الكريم : مفهومه وتصرفاته ومجالاته ،فى  أُطُرُ جمال القرآن :

 (فيه ، وهو ، وعنه ، وبه)

وفاء ببعض حاج القرآن إلى الإدراك المجدد ، وحاجِ إعجازه إلى البينة الناصعة ؛ فضلا عن حاجة  الجمالية الإسلامية نفسها إلى التنظير والتنظيم ، كعلم ناشئٍ شكلا ، عريقٍ موضوعا.

hakim.eg.vg
[email protected]
[email protected]
+20189063054


[1] -  يضىء لنا ذلك بلا ريب ورود اللفظ بصيغ عديدة فى الحديث النبوى الشريف :

- "إن الله جميل يحب الجمال " ( وروى الجميل  ) ( موثقا بمسلم وابن ماجة فيما يلى)

+" إن الله يحب الجمال "

- " ولرجل سِتر وجَمال "

- إنى رجل حبب إلى الجمال وأعطيت منه ما ترى "

- ذكر له جمال صفية بنت حيى بن أخطب "

- " فيعجبه مالها وجمالها "

- " إذا كانت ذات جمال ومال "

- " إنى أصبت امرأة ذات حسب وجمال  وإنها لا تلد"

- " ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال "

- " مرغوبا عنها فى قلة المال والجمال "

- ط مسح وجهه ودعا له بالجمال "

- " تنكح على دينها ومالها وجمالها "

- " إن بك من الجمال والطيب أفضل ما فارقتنا عليه "

- " ذكرتْ من حسنها وجمالها "

- فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسنا وجمالا "

- " اللهم جمله وأدم جماله "

-  "بينما عمر جالس إذ مر به رجل جميل "

- " رسول الله غير اسم عاصية قال : أنت جميلة "

- " عليه امرأة جميلة شابة "

- " لقلما كانت امرأة جميلة تكون عند رجل  "

- " والرابعة حسنة جميلة "

- وزوجة حسناء جميلة "

{ المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوى عن الكتب الستة وعن مسند الدارمى وموطأ مالك ومسند أحمد بن حنبل ، رتبه ونظمه  لفيف من المستشرقين ، ونشره د. أ . ى . ونسنك ، أستاذ العربية بجامعة ليدن -  مطبعة بري

المصدر: * مكاملة من كتبى/ - مدخل إلى النقد الأدبى: مطمح- متطلبات-خطط لتاريخ النقد العربى القديم- النقد العربى الحديث- النقد الأدبى فى الغرب- نقاد عرب محدثون.، نوفمبر 1988م- نوفمبر 2008م - أبو العلاء المعرى وظرة جديدة إليه: تمحيص نقدى حضارى وفنى، المجلد الثانى، نشرتنا فى دار المطبوعات الجديدة 1992م، ص 114- 115 - الوسيط فى تطور النقد والتفكير الأدبى فى مصر فى الربع الثانى من القرن العشرين ، 2007م، رمضان 1428هـ ص 86، 87 – 35- 37 - حصاد الأندية فى الأدب المعاصر: مدخل ودراسات تحليلية نقدية فى القصة والرواية والمسرحية والشعر الشعبى، 1425هـ- 2005م - الفكر السياسى الغربى والقومية المحافظة فى الشرق، 2006م، ص 10 - علم الجمال فى القرآن الكريم ، مستقلا وملحقا بكتابنا/ فى محاولات تقديم القرآن الكريم وترجمته والرد عليها: عرض و تقييم وتقويم، ط الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2007م ص 72- 114- 147
HAKIM

موقع dr,hakimعلى كنانة أون لاين

  • Currently 129/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
43 تصويتات / 2117 مشاهدة

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

346,396

تسجيل الدخول

الدكتور عبد الحكيم عبد السلام العبد

HAKIM
◘ خريج قسم اللغة العربية واللغات الشرقية ، جامعة الإسكندرية 1964م. ◘ أستاذ مشارك متفرغ بمركز اللغات والترجمة، أكاديمية الفنون، الجيزة، مصر. ◘ خبير للغة العربية ، وخلال الإنجليزية. ◘ استشارى ثقافى. ◘ الخبرات: ▪ أستاذ وخبير أبحاث ومحاضر ومعلم فى مستويات التعليم : العالى والمتوسط والعام. ▪ مؤلف للعديد »

ابحث